جغرافيا من مسنّنات

من فعاليّات الإرباك الليليّ في جبل صبيح

 

على الطرف الشرقيّ أو الّذي سوف يصبح الطرف الشرقيّ بعد عام 1995، لقرية عابود، آرمة (لافتة) باللون الأحمر. باللغات الثلاث (العربيّة، والعبريّة، والإنجليزيّة)، تمنع المستوطنين من دخول القرية، وتجبرهم على الالتزام بالطريق الالتفافيّ الّذي يمرّ من طرف القرية.

 إذا تجوّلت في الضفّة الغربيّة ترى مئات الآرمات الّتي تحمل لغتها نفس الصيغ التحذيريّة وباللغات الثلاث، تزامنت مع تقسيمات جغرافيّة وفق «اتّفاق أوسلو»، الّذي قسّم المناطق الفلسطينيّة إلى أبجديّة مشوّهة، تحتاج إلى قاموس من نوع معيّن لفهمها، ولن تستطيع.

تشكّل مناطق «ج» ما يقارب 60 % من مساحة الضفّة الغربيّة، حيث تخضع هذه المناطق للإدارة العسكريّة الإسرائيليّة؛ إذ تحوّلت هذه المناطق المكثّفة التهميش إلى معازل جغرافيّة تكثّف السيطرة، وتعيد ضبط الجغرافيا وإخضاعها.

تخيّلت يومذاك أنّ للجرّافة مشرطًا ثقيلًا يبدأ باقتلاع العينين، يسيل لعاب سائق الجرّافة، يتصاعد هرمون الاقتلاع في دماغه، يبدأ بتقليع أظافر المقثاة الخرتمانيّة، تلك الأظافر الّتي كانت على شكل أشجار التين...

لا تشكّل قرية عابود فرادة عن باقي ما أصبح يسمّى أطراف المدينة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة؛ إذ تتشابه ظروف تلك القرى. إذا تنقّلت من قرية إلى أخرى ترى نفس التشوّه البصريّ الّذي يغلّف المكان، ونفس الجغرافيا المبتورة وآليّات السيطرة واضحة للعيان. آرمة، بعدها بأمتار عدّة بوّابة صفراء، فاقع لونها لا تسرّ الناظرين، إنّما تحزّ القلب وتحدّ من الجغرافيا المحدودة أصلًا بهيمنة تزاوج بين أدوات الضبط وتنويعاتها، وبرج يحرس مقولة الآرمة ويغتال المكان يوميًّا.

ذات مرّة، في صباح يوم حارّ، استفقنا على اهتزازات و‘غوشة‘ ورطانة عبريّة، على بُعْد أمتار معدودة منّا، كانت جرّافات من الحجم الكبير تقتلع أشجار الزيتون، وترميها كجثث في العراء، كانت الجرّافات تحزّ قلب المقثاة (مِنَ المِقْثَأَة) كمشرط يُجري عمليّة بتر/ سرقة أعضاء.

تخيّلت يومذاك أنّ للجرّافة مشرطًا ثقيلًا يبدأ باقتلاع العينين، يسيل لعاب سائق الجرّافة، يتصاعد هرمون الاقتلاع في دماغه، يبدأ بتقليع أظافر المقثاة الخرتمانيّة، تلك الأظافر الّتي كانت على شكل أشجار التين، قبل ذلك الزمن الوسخ كانت تلك التينات تمدّ أظافرها لتجدّل أغصان أشجار الزيتون. يتصاعد الدم المغليّ في رأس سائق الجرّافة، شيء أشبه ‘بالكريزة‘ أو لعلّها حمّى الأرض الّتي لا يعرفها وما زالت تنكره. يبدأ بالضرب بشكل عشوائيّ، كأنّه يدافع عن انتصار دولته وجبروتها، يحاول أن يثبت أنّه ابن لحظة الانتصار، يحاول أن يستعيد نشوة الانتصار الأوّل وطزاجته.

ماذا تفعل دولة إسرائيل عندما تراكم نشوات النصر؟ وماذا تفعل بهذا التضخّم العسكريّ؟

أذكر مقولة لمحمود درويش عندما تندّر ذات مرّة على انتصارات إسرائيل بأنّ رأسها العسكريّ تضخّم على حساب جسدها، ولعلّ رأسها هذا هو الّذي سوف ‘يطوطح‘ جسدها يومًا ما.

يصفّق الجنود لانتهاء المهمّة، يوزّعون على أنفسهم السجائر وقناني المياه، وينصرفون لينتشوا بانتصارهم الكبير. تغادر الجرّافات أرض المقثاة. لأوّل مرّة يومها أرى كيف تموت الأرض، وكيف تغادر روحها وتضيع ملامح المكان. كنّا نحفظ جسور الأرض عن ظهر قلب، ونعرف أماكن حجارتها، كنّا هنا نتناول الفطور في موسم الزيتون، هنا عند الشجرة الكبيرة أو الشيخة، نعدّ القهوة هناك، نتسلّق الأفرع، هنا كانت التينة البياضيّة وهناك تينتها السماري.

 نحن أولاد الفقدان، اختبرنا كيف يتحوّل المكان إلى غريب يتنكّر لك فتلجأ إلى الوقت، تكوّن علاقة بالوقت، تحاول أن تستردّ الوقت حتّى تستردّ المكان، يتهرّب الوقت والمكان من أصابعنا وينكسر، فنحتمي بالذاكرة ونستدرجها، كما نستدرج الدجاج إلى أقنانه فتصبح لعنتنا ولعنتها.

لم أعرف يومذاك أنّ العالَم يلعب لعبة الأقوياء، وأنّ سلام «الشجعان» كان سلام الأقوياء، وأنّ الضحيّة قدّمت لجلّادها جِلْدَها ليكتب عليه، مزهوًّا بانتصاره، ويصادر حقّها في الكلام وحقّها في أن تكون ضحيّة...

قبلها بسنة واحدة أو أكثر، سمعت صوت صراخ وهتافات بعيدة. خرجت إلى الشارع مهرولًا لعلّها لعبة فلا تفوتني. كانت مسيرة من شباب القرية تهتف لغصن الزيتون، وللجبل الّذي لا يهزّه ريح، فمشيت معهم وهتفت كما هتفوا، وهتفت لغصن الزيتون، والسلام، والدولة المحبوبة الّتي سنبنيها طوبة طوبة، وأعجبتني اللعبة.

لم أعرف يومذاك أنّ العالَم يلعب لعبة الأقوياء، وأنّ سلام «الشجعان» كان سلام الأقوياء، وأنّ الضحيّة قدّمت لجلّادها جِلْدَها ليكتب عليه، مزهوًّا بانتصاره، ويصادر حقّها في الكلام وحقّها في أن تكون ضحيّة، وأنّ هزيمة من النوع الثقيل حطّت على رؤوسنا. لم يشفع لتينات المقثاة، ولا لزيتونها، ديباجة الإخراج وبلاغته الّتي رافقت إعلان اتّفاق السلام.

الآرمة تجلس اليوم مكان الشجرة الروميّة الّتي كانت في طرف المقثاة، تصادر حقّها بالكلام وتحكي هي بثلاث لغات، وتطلّ على المقثاة إطلالة المنتصر، وتشرف على شارع التفافيّ يمرّ المستوطن يوميًّا عليه، مزهوًّا بشارعه المفتوح والمنمّق والأنيق بمسالكه المتعدّدة. تحت ذلك الشارع حجارة وتراب، كانت يومًا ما تسمّى المقثاة، وجذوع من الزيتون حوّلتها ماكينة المحو إلى طمم، كما حوّلت الكثير من المقاثي إلى أطنان من الطمم قد تتحوّل يومًا ما إلى طوفان.

اليوم، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا من «عمليّة السلام»، ما زالت الماكينة الاستعماريّة تطحن الجغرافيا وتبتلعها، يعيش الفلسطينيّ على جغرافيا من مسنّنات تتحوّل طرقها إلى رشّاشات للقنص، وحوافّها إلى ماكينات للموت والتصفية.

في جبل صبيح هذه الأيّام، وعلى مقربة من «حاجز زعترة» أو ما يسمّى «حاجز الموت»، تواجه قرية بيتا منفردة هوّة سحيقة تَصْحَنُ الأرض وتعيد خلقها، شيء أشبه بعمل الكسّارات الحجريّة. إسرائيل دولة من كسّارات تطحن الأرض وتعيد فرزها، تصنع من كُرْكارِها جبالًا من الموت المضاعف تسمّى مستوطنات. لم تكفّ إسرائيل يومًا عن محاولة تأبيد قيامتها، القيامة الّتي تستهدف الأرض وناسها وحكايتها.

لن يكون «جبل صبيح» الأخير في بالوعة قيامة إسرائيل، ولن تكون «هبّة القدس» آخر هبّة في تاريخ مقاومة قيامات إسرائيل الّتي لا تنتهي، ولن تشفع لإسرائيل آرماتها الّتي جاءت في زمن السلام الموهوم.

إسرائيل حوّلت الأرض إلى فائض من الموت، وحوّلها الفلسطينيّ إلى فائض للبقاء، كما حوّلتها نخبتنا الرسميّة بعد «أوسلو» إلى فائض للوهم يسمّى «الأرض مقابل السلام».

 

إسرائيل حوّلت الأرض إلى فائض من الموت، وحوّلها الفلسطينيّ إلى فائض للبقاء، كما حوّلتها نخبتنا الرسميّة بعد «أوسلو» إلى فائض للوهم يسمّى «الأرض مقابل السلام».

على «جبل صبيح» المطلّ على أهمّ شارع يربط بين الساحل الفلسطينيّ والأغوار، بمعنى أنّه يربط عرضيًّا فلسطين التاريخيّة، بين بحرها ونهرها، تثبت إسرائيل أنّ الأرض تساوي الموت للفلسطينيّ، الأرض مقابل الموت. على «جبل صبيح» يجترح الفلسطينيّ من أرضه الحياة، ويشتقّ من الجغرافيا الّتي تحاول إسرائيل مصادرتها طرقًا للبقاء والمقاومة. عبر مراكمة أشكال من المقاومة لن يكون الإرباك الليليّ آخرها، يواجه الفلسطينيّ عبر مراكمة سياسات الإرباك، سياسات الثبوت واليقين الاستعماريّة.

 

 


عديّ البرغوثي

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على البكالوريوس في التاريخ والآثار، والماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بيرزيت. يعمل مدرّسًا في رام الله.