20/10/2021 - 21:17

أدب شيخة حليوى... طيران من التشويه والعتمة

أدب شيخة حليوى... طيران من التشويه والعتمة

شيخة حليوى وبعض أعمالها

 

العتمة الحاشدة

تنسحب تجربة شيخة حليوى الإبداعيّة برمّتها من خمسة فضاءات للتعافي، وهي: المكان والنساء والكتابة والذات والعائلة؛ فمن حيث هذا التبويب الوازن لطاقة الألم، كذا يرسخ المعادل الموازي للتعافي في كتابة حليوى. ولم يكن من الصعب الاهتداء إلى تلك الأقانيم الّتي تجترح منها حليوى مصادرها وكنوزها؛ لأنّها من خلال بنائها الفنّيّ لمجموعة «خارج الفصول تعلّمت الطيران» (الدار الأهليّة، 2016)، تقعّد أبواب نصوصها بارتكاز فنّيّ لتلك الفضاءات السيميائيّة، بعناية الفنّانة المرأة، وبأناقة الكاتبة الّتي تريد أن تعود إلى مصادرها المعرفيّة الأولى بلا تردّد، ولا تكلّف.

نقطة الانطلاق عند شيخة حليوى نقطة حاشدة بالعتمة. بفعل الذاكرة لا يزول الحاضر، وبتفاقم الظمأ للحياة لن يكون من السهل التسليم بالموت، علمًا أنّ كلّ أشراط الهدم متوفّرة وزاخرة في حياتها. بالعودة إلى احتشاد المصادر الأولى بالعتمة، تقيم الكاتبة حليوى بناءها الثيماتيّ في نصوص «خارج الفصول تعلّمت الطيران»، على أساس العودة إلى النبع الأوّل في قرية «ذيل العِرْج»، وإلى شجرة البلّوط والنهر والخيمة. ومن «ذيل العِرْج» المبادة بفعل التطهير العرقيّ تخرج حليوى من عتمة الذات إلى الفضاء الكونيّ؛ ليطأ كلّ أرض كما يقول ابن عربيّ. فتتوزّع نصوصها متّكئة على ثرى المكان ومعارف النساء، والتعافي بالكتابة والحفر بطبقات الذات ومأساة العائلة. ولأنّ المأساة تتشكّل عن وعي في أدب حليوى فتنزاح بتقنيّاتها إلى مناطق اللامعقول، وكما يقول كايسر: "إنّ اللامعقول يكون في المأساة"، هنا تقع حليوى عن قصد في شرَك التشويه تقنيّةً سأتحدّث عنها لاحقًا.

 

الطيران خارج الخيمة

لماذا «خارج الفصول تعلّمت الطيران»؟ من خلال هذا الاستدراك تصمّم الكاتبة تأجيل العنونة والسؤال بصفتهما وعيًا فنّيًّا بالتأكيد، ولأنّ الأجوبة مقدّمة على طول نصوص المجموعة، فبالضرورة جاء فعل العنونة متأخّرًا. لكم أن تتخيّلوا طفلة من «ذيل العِرْج» تجرّ جديلتها إلى «مدرسة راهبات الناصرة» في حيفا، حين تصل بوّابة المدرسة تشرع أحلامها على الكون، غير قادرة رغم ذلك على إخفاء لكنتها البدويّة، لكنّها قادرة على أن تتناسى خلال ساعات اليوم الجملة الحاضرة في الخلفيّة: "الله يُكْصُفْ عُمْرِتْشْ يا الْبعيدَة". لا بُدّ، إذن، من الطيران، لكن كيف تتعلّم هذه الطفلة الطيران وهي ليست مقيمة في شرط المكان المدنيّ الحداثيّ؟ الطيران لا يكون في خيمة وفق قوانين الفيزياء والطبيعة، والطيران يحتاج إلى أجنحة خفيفة، تطول بطول الأزمنة وباتّساع الأمكنة وبتفكّك أسباب القمع. تقول حليوى: "وتعلّمت شيئًا من نساء العائلة لم يَقُلْنَه. إذا نبت للبنت جناح يجب قصّه قبل أن تدرك معنى الطيران، والعين الّتي لا تُكْسَر تفلقها الرصاصة". لكنّها على النقيض من ذلك تقول: "وتعلّمت من نساء العائلة أنّ أشياء كثيرة تنكسر وتذبل وتجفّ. عدا الزجاج والورود وماء العين؛ القلب".

بالعودة إلى احتشاد المصادر الأولى بالعتمة، تقيم الكاتبة حليوى بناءها الثيماتيّ في نصوص «خارج الفصول تعلّمت الطيران»، على أساس العودة إلى النبع الأوّل في قرية «ذيل العِرْج»...

في هذه المفارقة، Irony، أفكار متناقضة قائمة على التباين، فنساء العائلة مدركات تمام الإدراك لضرورة قصّ جناح البنت، بممارسة جندريّة قاسية وصارخة ولاذعة، لكنّهن النساء ذواتهنّ اللواتي تعلّمت منهنّ أنّ الزجاج والورود وماء العين والقلب، كلّ هذه العناصر لا تنكسر أو تذبل أو تجفّ. داخل هذا التباين يمكن ملامسة تشويه شفّاف، ولأنّ التشويه في الأدب والفنّ عمومًا يقوم على كسر العناصر الطبيعيّة والمألوفة كي تتحوّل إلى غريبة وشرّيرة، خالية من المنطق. على العموم، سنرى التشويه بصفته تقنيّة مكرّرة في أعمال حليوى، في تجربتها السرديّة الفريدة «الطلبيّة 345.C».

تُفْرِد الكاتبة نصًّا كاملًا بعنوان «قائمة» مع تذييل في الهامش: "قائمة الشاعرات اللواتي لم ولن ترد أسماؤهنّ في سفر الشعر والشعراء"، وتكتب في المتن: "جدّتي مريم: تهمس لعنزتها السوداء الشانية فيسرع الفجر إلى قلبها"، وكذلك عمّتها فطيم وعمّتها عيشة وعمّتها نزهة وعمّتها حسنة، وجارة أمّها، وصديقة طفولتها، وخالتها الصغرى، والشاعرة الأهمّ أمّها، الّتي كانت تعتبر كلّ هذا الأدب كلامًا ‘فاضيًا‘ (تافهًا)، لكنّها رغم حبّها لخطابات الرؤساء الطغاة تُبْكيها الربابة، وهذا يذكّرني بجدّتي، هذا بحدّ ذاته يشرع أمامي آفاقًا رحبة للالتفات إلى نسويّة حليوى لاحقًا. كلّ أولئك النسوة هنّ شاعرات، بالفطرة وبسجيّة المرأة الأمّ، ومن عمق القهر والمأساة تتفجّر في أعماقهنّ صور الأساطير ودفاتر القبيلة والحبّ المحرّم.

 

من التشويه الجماليّ إلى شعريّة اللغة

لا تخفي شيخة حليوى مواطن الجمال والفتنة على مستوى اللغة، ولأنّنا تحدّثنا عن التشويه بصفته تقنيّة، فإنّ اللغة تتحوّل إلى معادل مخالف للواقع، حيث يتحوّل التعبير الجماليّ في لغة شيخة إلى تعبير عن خسارة الهويّة، وتدمير الأشكال الطبيعيّة. في نصّ «نهر»:

"لا يعنيني ذاك النهر المحاذي لقريتي الميّتة هناك على سفح جبل الكرمل.

لا يعنيني الشارع الّذي كان يفصل بين أكواخنا وبين النهر.

لا تعنيني القرية اليهوديّة الّتي وراء النهر (كنت أكره أضواءَها الساطعة ليلًا).

لا يعنيني منسوب المياه فيه، ولا يعنيني اسمه الّذي لم أحفظه يومًا.

يعنيني أن أتذكّر لماذا كنت مرّة سأغرق فيه؟

ولماذا لم أغرق؟"

 

اللغة عند شيخة لغة شعريّة، والشعر لا يُقَدَّم على السرد عندها، لكنّه متمترس في حاضرة المخيّلة والبلاغة والمجاز، تقول الباحثة سوزان براون: "كلّما كان النصّ السرديّ أقصر كان أقرب إلى الشعر"، وهذا ما نلمسه في اللغة الشعريّة المكثّفة في مجموعة «خارج الفصول تعلّمت الطيران»، وكذلك لا تنزاح اللغة بالتمام من توظيف المعجم البدويّ الأصلانيّ القادم من سلالة الصحراء، وهذا مثار للدهشة، حين تجمع الكاتبة كامل مخزونها اللغويّ بمستوياته المتنوّعة، وتقدّمه من خلال مشروعها الإبداعيّ.

أحاول أن أجتهد كي أفهم ذلك التناقض الغريب الّذي يذكّرني كذلك بجدّتي، الّتي كانت تتوغّل بعيدًا في سفح الجبل، تحمل على رأسها كومة حطب وعلى ساعديها طفلتين، وتجرّ خلفها بناتها السبع، تسع بنات بالمجمل، تكفر بآراء جدّي الباحث عن قطعة ولد...

 

إنّ نسويّة شيخة حليوى ليست منسلخة بالكامل عن نسويّة أمّها وعمّاتها وصديقاتها ونساء العائلة. رغم ما تعانيه النساء في بيئتها من تشويه دلاليّ لمعنى الفهم النسويّ، إلّا أنّ الممارسات بجوهرها ممارسات نسويّة، مغلّفة بالقهر الفوقيّ، والقهر الفوقيّ هو مرآة القهر التحتيّ، لأنّ الموروث برمّته هو موروث العيب والحياء و‘الدُّشْرَة‘ في وسم كلّ سلوك خارج عن المألوف والإجماع. إنّهنّ نساء قويّات ومهزوزات في آن، وهذه المفارقة كما أفهمها من مخلّفات النكبة وآثارها الدفينة على نساء شعبنا الفلسطينيّ البدويّات والفلّاحات والمدنيّات؛ فالمرأة شكّلت رغم القهر الاجتماعيّ والجندريّ عمود الخيمة الآيلة للسقوط، ولأنّها حملت هذا العبء الجماعيّ، فقد مارست أشكال القهر الذاتيّ المختلفة، في محاولة لعدم تكلّف المسؤوليّة أمام سطوة الرجل.

وفي هذا المجال، أحاول أن أجتهد كي أفهم ذلك التناقض الغريب الّذي يذكّرني كذلك بجدّتي، الّتي كانت تتوغّل بعيدًا في سفح الجبل، تحمل على رأسها كومة حطب وعلى ساعديها طفلتين، وتجرّ خلفها بناتها السبع، تسع بنات بالمجمل، تكفر بآراء جدّي الباحث عن قطعة ولد، ولا تتردّد بأن تخالف خيمته وظلاله الجندريّة، وتتّهمه بعد ذلك بالقاهر المستبدّ. لغاية الآن أحاول فهم نسويّتها، لكنّني أراها أقرب إلى تبنّي شوفينيّة الجندر وقسوته، بفعل التبعيّة للمستعمر والقاهر، كما يفسّرها ميشيل فوكو.

 

من البداوة إلى الكونيّة

على العموم سحرتني أصالة حليوى الباحثة عن جذورها في «ذيل العِرْج»، والمتصالحة مع شجرة البلّوط والنهر وكيس النايلون في وحل الخيمة، لكنّها تنطلق من الأصل إلى كونيّة المعنى والثيمة، فلا تكتفي بالسرد والشعر والربابة، لكنّها تغرف من مصادر معرفيّة شتّى، من الفلسفة والموسيقى والفنّ وبيكاسو ولوركا. هذه الأطراف المعرفيّة هي تشويه في نصّها، حين يتحوّل العالم من حولها إلى غريب وغير مألوف.

تأخذني هذه الفكرة إلى مجموعتها القصصيّة «سيّدات العتمة» (دار فضاءات، 2015)، وهي مجموعة قصصيّة ناضجة بكلّ المقاييس الفنّيّة والثيماتيّة، وتتشكّل في هذه المجموعة مفاهيم نسويّة أكثر جرأة وحدّة في تعرّي الكاتبة النفسيّ، وربّما تكون الكاتبة تسلّط الضوء على الصراع الّذي تعيشه الفتاة العربيّة المراهقة الباحثة عن ذاتها في حيفا، في مواجهة سيّدات العتمة، السيّدات اللواتي لا يتركن فسحة لكسر كلّ جناح يمكن أن ينبت في الحلم. سيّدات العتمة هي استعارة تحمل تعويضًا لجيل كامل من النساء اللواتي حلمْن في العتمة، في سياق قمعيّ وكبتيّ قاهر يأكل كالمنشار، وأبرز القصص: "حيفا اغتالت جديلتي، فستان ورديّ، عليّ، ‘الحبّ كلّه حبّيته فيك‘، سيّدات العتمة".

يأخذ التشويه شكله الناضج عند شيخة حليوى في مجموعتها الأخيرة «الطلبيّة 345C»، حيث تذهب إلى غرائبيّة مدهشة، تعبّر عن صنعة سرديّة فائقة وخارقة وخطيرة في نفس الوقت، ففي قصص «الطلبيّة 345C» و«عروس للبيع» و«زيارة ليليّة»، تأخذنا الكاتبة إلى عوالم مدفونة، وإلى بواطن مكبوتة، حين تخرج شخصيّة الأب من القبر لزيارة ابنه ليلًا، ويخفي الابن عصا أبيه الّتي كان يُضْرَب بها؛ لنكتشف في النهاية صراخ الأمّ وهي تقول للأب: "لا تضربه على رأسه، سيموت بين يديك"، وليعود الابن إلى المقبرة هذه المرّة زائرًا. قصّة مدهشة، وغرائبيّتها تتجاوز منطق التشويه، وتشطح إلى مناطق علاجيّة لا تنذر بضرورة التعافي، لكنّها قصّة عن الموت وفي الموت.

إنّ دمج الأصالة بالفنّ والحداثة يكاد يكون مربكًا في حالة الإبداع، لكنّ حليوى تقوم بذلك ببراعة المدركة للجذور والمتسائلة باستمرار عن خلل الماضي، والباحثة عن المعنى في الحاضر واستعار السؤال!

الكاتبة شيخة حليوى تقدّم لنا في مجموعتها الأخيرة الحاصلة على «جائزة الملتقى للقصّة القصيرة – الكويت»، عملًا سرديًّا فنّيًّا يطفو إلى مصافّ العالميّة، ولا أبالغ إذا قلت إنّ حليوى من الكاتبات الطلائعيّات في صفع جدار الخزّان؛ كي تبوح بكلّ مكبوت، ولا تتوقّف عند البوح المراهق، بل تتجاوزه إلى إرهاق جماليّ صافع.

لا يمكن إلّا أن تعود كاتبتنا إلى «ذيل العِرْج»، أينما حلّت وارتحلت؛ لأنّ البئر الأولى تظلّ عذبة صافية، لا تشوبها المساحيق، ولا تحتاج إلى إصلاح عطّار، فلا الدهر يفسدها ولا الأنواء تغيّرها. إنّ دمج الأصالة بالفنّ والحداثة يكاد يكون مربكًا في حالة الإبداع، لكنّ حليوى تقوم بذلك ببراعة المدركة للجذور والمتسائلة باستمرار عن خلل الماضي، والباحثة عن المعنى في الحاضر واستعار السؤال!

 


علي قادري

 

 

من مواليد قرية نحف في الجليل. شاعر ومعلّم للغة والأدب العربيّين في المرحلة الثانويّة بمدرستي "مسار" – الناصرة، و"ابن سينا" - نحف. يعمل محرّرًا أدبيًّا لمجلّة "الغد الجديد" الثقافيّة، الصادرة عن جمعيّة المنار للثقافة والهويّة الفلسطينيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "خراب وثلاثون جثّة".

 

 

التعليقات