16/11/2021 - 12:24

أماني سليمان داود... قصص تبحث في غرائبيّة الواقع

أماني سليمان داود... قصص تبحث في غرائبيّة الواقع

غلاف مجموعة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك» لأماني سليمان داود

 

مهارة الحَفْر

إذا كانت اللغة أداة بناء فكريّ يمكنها أن ترتدي ما شاءت من الأقنعة، فإنّ تشكّل عوالم المعنى في مجموعة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك» (الأهليّة، 2020) للقاصّة أماني سليمان داود، لم يأتِ على سبيل الاستدلال على المألوف والظاهر والآمن، لكنّها - أي اللغة - تمظهرت في الانزياح واستثنائه المُنْتِج لنصّ مفتوح على التأويل ما بين الفنتازيا والغرائبيّة حينًا، والواقعيّة أحيانًا؛ ما يشير إلى شيء من الاقتران والتأثير؛ اقتران صوت السارد - أو الساردة - بشخوصه والتفاعلات، وهو الحاضر في خلفيّة النصّ على الرغم من محاولات الاختفاء، والتأثير في مخرجات المشاهد والأحداث مرّة بالتأمّل، وأخرى بالمفارقة؛ وهو ما سمح للكاتبة أن توظّف اللغة برشاقة مدهشة ما بين التشبيه والاستعارة والكناية والوصل والفصل.

سؤال المعنى في القراءة الأفقيّة الأوّليّة لهذه المجموعة، سيدور حول معطى الصورة المتحرّكة، الّتي وظّفتها الكاتبة في بعض عناوين حكاياتها، باعتبارها أداة تعبيريّة وتقنيّة يمكنها أن تفسح المجال واسعًا لتدفّق سرديّ حكائيّ...

ولعلّ سؤال المعنى في القراءة الأفقيّة الأوّليّة لهذه المجموعة، سيدور حول معطى الصورة المتحرّكة، الّتي وظّفتها الكاتبة في بعض عناوين حكاياتها، باعتبارها أداة تعبيريّة وتقنيّة يمكنها أن تفسح المجال واسعًا لتدفّق سرديّ حكائيّ، فيه من لؤم التخييل الأدبيّ، ما يوازي مهارة الحفر عميقًا في الوصف الوصف، ربّما لتشكيل تصوّر أو موقف أيديولوجيّ من الحياة والناس؛ فجاء عدد لا بأس به من عناوين حكاياتها، بداية من عنوان المجموعة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك»، مرورًا بـ «سلالم البوح» و«ذراع تحفّ بها الغيوم»، وصولًا إلى «نافذة وحيدة عالية»، وما بينها من عناوين أخرى تحاكي هذا الاهتمام، وكأنّنا بالكاتبة تنظر إلى الأشياء والوجود من علِ؛ وهذا ما يغري بالتساؤل: أهي حالة بحث وتنقيب عن قيم ومُثُل عليا، أم حالة تحدٍّ واشتباك مع واقع متدنٍّ؟

 

بحث واشتباك

أمّا البحث والتنقيب فنجدهما على امتداد حكايات المجموعة؛ ففي القصّة الأولى وحدها، الواردة بعنوان المجموعة «غيمة تتدلّى» ثمّة أربع قيم أساسيّة عرّجت الكاتبة عليها؛ هي العدل، والتراحم، والتكافل، والصبر، فهذا صوت بطل الحكاية يقول: "ثمّ نهضت ونزلت من الحافلة الّتي توقّفت عند بناية يعجّ حولها بائعو الكعك، والحلوى، وقد نُقِشَتْ فوق بوّابتها المهيبة صورة ميزان معلّق به كفّتان متوازيتان" (ص 9)، في إشارة إلى قيمة العدل، في ما نسمعه يكرّر عدّ أصابع يده اليمنى ثمّ يده اليسرى، ومن ثَمّ يعدّ أصابع كلتا يديه معًا، في محاكاة لقيمة الصبر، وهكذا الأمر في نفس القصّة وغيرها، كقصّة «مقصّ الشجر» وقيم المحبّة، والتفاني، والإخلاص، والتحدّي؛ وهو ما يفسّر أنّ المجتمع في الزمن الراهن، من وجهة نظر الكاتبة، مجتمع مشوّه ابتعد كثيرًا عن قيمه الأخلاقيّة والإنسانيّة.

وأمّا التحدّي والاشتباك فهما حاضران بقوّة في غير حكاية، ومنها قصّتا «أرغفة الخوف» و«ذراع تحفّ بها الغيوم»، على صعيد الاشتباك مع الخرافة، والجهل، والإشاعة، والنميمة، والحسد، والغيرة؛ وقصّتا «نافذة وحيدة عالية» و«فطيرة سوداء وامرأة مُبْصِرَة» على جهة تحدّي الصعاب والبلاء، بين «الزووم إن، والزووم أوت»، حيث الحياة شريط سينمائيّ يمرّ أمامنا أحيانًا من النافذة، ومرّات أخرى في مؤتمر صحافيّ. وكأنّي بالكاتبة سليمان تتلبّس شخصيّة بطلتها الكفيفة في قصّة «فطيرة سوداء»، وهو ما أشرنا إليه قبلًا بالاقتران، لتقول: إنّ الخطّ الفاصل ما بين البصر والبصيرة يمكنني أن أميّزه من أعلى برج إيفيل.

 

غرائبيّة الواقع

هكذا انحازت الكاتبة سليمان إلى المعنى، فخلقت نماذج دالّة من شخوصها لتؤكّد أنّ اتّصال الوظيفة الجماليّة للأدب، مع وظيفته الاجتماعيّة، إنّما هو ركيزة أساسيّة من ركائز الأدب المهموم بقضايا المجتمع وتناقضاته الظاهريّة والباطنيّة، لجهة إعادة التوازن إلى الحياة والناس، ولو عبر الفنتازيا أو العجائبيّة، الّتي تفيد بأنّ مرايا الواقع معكوسة حدّ التماهي، فما يبدو غرائبيًّا هو في حقيقته واقعيّ بامتياز والعكس صحيح أيضًا.

هذا الواقع المعكوس، تعبّر عنه الكاتبة باقتدار لافت، في واحدة من أجمل قصص هذه المجموعة وأعمقها، ألا وهي قصّة «سلالم البوح» الّتي اشتغلت فيها أماني على فكرة تبادليّة الأدوار والمصائر، فبات المريض طبيبًا، والطبيب مريضًا، ذلك لأنّ "وجع الحياة قاتل، والانغلاق على الوجع يُحْدِث حالة من التوسّع، قد تسبّب الانفجار الّذي يقتل، أو يشوّه على الأقلّ، ولعلّ تداول الوجع والتصريح به والتلويح إليه، يمنحني فرصة حضور الآخر والآخر والآخر، حتّى تتّسع الدائرة وأجدني في كلّ مَنْ حولي، هكذا أخرج من نفسي سليمًا" (ص 28).

تشير إلى التحوّلات المعماريّة الّتي شهدتها مدينة عمّان، الّتي راحت تفقد ملامحها الأليفة، وهي ترى بعيون أبنائها تغوّل الحداثة على الأصالة، والصارخ على حساب الدافئ...

وفي واحدة من ممارسات وظائف الأدب، والمشتغل في حقله، يلحظ القارئ اقتناص الكاتبة لحقّها في النقد الاجتماعيّ والسياسيّ، على لسان بطل قصّتها المعنونة «بيوفيليا»؛ إذ ذهبت تشير إلى التحوّلات المعماريّة الّتي شهدتها مدينة عمّان، الّتي راحت تفقد ملامحها الأليفة، وهي ترى بعيون أبنائها تغوّل الحداثة على الأصالة، والصارخ على حساب الدافئ، فنجدها تقول: "أكملت نرجيلتي بهدوء متأمّلًا هذا الشارع العجيب، فكّرت في أنّه لو ظلّ نهرًا من غير سقف يستر الماء الجاري أسفله؛ لكنت أجلس الآن على ضفّته الخضراء أتسلّى باصطياد الضفادع، وتأمّل الحجارة الملساء، الشارع يعجّ بالمتسوّقين والتجّار والبضاعة المرصوصة على الأرصفة بعشوائيّة، يقع قبالتي سبيل الحوريّات المحاط منذ سنين بدرابزين حديديّ، يَحول دون ولوجي، كلّما فكّرت في دخوله فضولًا وشوقًا، لرؤية حوريّة منسيّة في زاوية ما منه" (ص 85-86).

هذه الممارسة النقديّة وغيرها، توضّح لنا وعي الكاتبة لدورها بوصفها مثقّفة، تحمل جزءًا مهمًّا من مسؤوليّة مجتمعيّة، لا يستقيم أن تقف حيالها، موقف المحايد أو المتفرّج، وهو ما يتقاطع مع طرحها البديع في هذه المجموعة، على صعيد تناول العديد من القضايا المجتمعيّة والإنسانيّة، بأسلوب مغاير ولغة مختلفة على مستوى الشكل والمضمون، ما يُحْسَب لها - أي الكاتبة - باعتباره ضربًا من التحديث الملهم على شكل القصّة القصيرة، الّتي بدأ حضورها بالتراجع في السنوات الأخيرة لصالح الرواية.

 

فتنة اللغة

وفي هذا المقام، لا يسع المهتمّ أو الناقد إلّا أن يقف مطوّلًا أمام فتنة اللغة الرشيقة، الطازجة، المشوّقة، الغامضة، الغاضبة، الفرحة، الممتلئة بالحيويّة والحياة في أسلوب الكاتبة سليمان؛ إذ نجحت في إثارة سؤال التركيب اللغويّ المختلف في صياغة جملتها السرديّة؟ ما يسهم في تشكيل القارئ للصورة الذهنيّة المرسلة من قِبَل الكاتب؛ ليشي بمكر المبدع حينما يمتلك مهارة الرقص على أوتار اللغة، ببلاغة تُفْصِح عن كنه صاحبها، إلى أن تبدو وإيّاه - أي اللغة وكاتبها - دالًّا على مدلول.

غير أنّ معطى الغموض الّذي لاح بوضوح مبالغ فيه، وسيطر على عدد من قصص المجموعة، قد يكون من المآخذ الّتي يمكن أن يسجّلها القارئ على مجموعة القاصّة أماني سليمان داود، وهي صاحبة الاختصاص والتجربة، إذ سبق مجموعتها الأخيرة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك»، ثلاث مجموعات قصصيّة أخرى، وكتابان في النقد، فضلًا على أنّها أستاذة مختصّة في اللغة العربيّة وآدابها.

معطى الغموض الّذي لاح بوضوح مبالغ فيه، وسيطر على عدد من قصص المجموعة، قد يكون من المآخذ الّتي يمكن أن يسجّلها القارئ على مجموعة القاصّة...

إلّا أنّ هذه الملاحظة، قد تبدو فاصلة غير مرئيّة، لا يمكنها أن تُحْدِث تصدّعًا في معماريّة النصّ مع خفوت صدى صوتها، فعندما تقرأ أماني سليمان تبدو لك اللغة تتراقص طليقة، كما أنّنا نجد نصوص «غيمة يتدلّى منها حبل سميك» تقتفي أثر الحياة في كلّ زاوية من زوايا الحكايات؛ لتفعّل مخيال القارئ في رحلة، قد يعلم نقطة انطلاقها، لكنّه لا يعي تمامًا متى يصل إلى نهاياتها المفتوحة على حلم جديد، لربّما رآه ذات غفوة، وربّما تمنّى أن يعيشه ذات يوم، في حضرة سياق عذوبة سرديّة ساحرة كُتِبَتْ على نحو مدهش؛ لتؤسّس لمضامين مغايرة تشكّل رافعة إضافيّة للحكايات وشخوصها في عوالم البحث عن معنًى جديد للأنا والآخر، والأشياء والوجود.

 


أحمد زكارنة

 

 

كاتب وإعلاميّ فلسطينيّ، يعمل مذيعًا في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة»، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «ما لم أكنه» بالإضافة إلى كتاب «وعي الهزيمة». كتب العديد من المقالات في الشأنين الأدبيّ والسياسيّ في عدد من الصحف العربيّة، وواظب على كتابة عمود سياسيّ في صحيفة «الحياة الجديدة».

 

 

التعليقات