22/05/2022 - 14:54

كيف نقول وداعًا لمظفّر النوّاب؟

كيف نقول وداعًا لمظفّر النوّاب؟

مظفّر النوّاب (1934-2022)

 

ماذا يُقال في موت صاحب «الريلْ وْحَمَد»؟ هذا سؤال صعب، لكنّي أملك لمظفّر مشهدًا من صباي بقي محفورًا في وجداني حتّى لحظة الكتابة هذه، إضافة إلى مشهد آخر في أيّام «احتجاجات تشرين 2019»، الّتي كان النوّاب حاضرًا فيها بغير طريقة.

شِعر النوّاب في روحي خيط الضوء الّذي يمرّ خلال زجاج شبابيك بيتنا في ظهيرة شتويّة، إذ البرد يؤلم أطراف أمّي وهي تضع إبريق الشاي على المدفأة النفطيّة، وأنا ألوذ بقربها، مسحورًا بروعة اللحظة الّتي لا أريد لها نهاية. أبحث عن حجّة حتّى أستدرج لسانها لتحكي لي قصّة لطالما حكتها لي، فصارت تتململ من ذكرها، لكنّي لم ولن أشبع منها لأنّها بالنسبة إليّ مثل تلويحة من عالم حُلْميّ، تتطاير فيه كلمات الشعر كأنّها فراشات مضيئة. أخطئ أمامها متعمّدًا في ترديد أغنية للفنّان ياس خضر، من كلمات مظفّر النوّاب، حتّى أستفزّها وأجعلها تحكي لي القصّة، فتخزرني بنظرة كاشفة كأنّها تقول: "أعرف مرادك يا ملعون"، فتبدأ بالحديث عن حبّها الكبير لأغاني ياس خضر، إلى درجة أنّ جدّي كان يوقظها من نومها لأجل أن تسمع إحدى أغانيه الّتي يبثّها التلفزيون، فتنهض من نومها محمّلة ببقايا الأحلام وهي تستمع لصوت ياس خضر، يلهج بكلمات النوّاب:

جِفْنَكْ جِنَحْ فَرّاشَة غَضّ

وِحْجارَة جِفْني وْما غَمَضْ

 

مثل ذرّات الضوء في ذلك المشهد الشتويّ الساحر، اخترقتني كلمات مظفّر، وقضيت فترة طويلة من صباي لا أنام إلّا مستمعًا له يتلو شعره الأخّاذ، بنبرة تشبه نعيات الجدّات. هذه النبرة الشاعريّة المرتجفة كانت تهزّ في وجداني الصبيّ أوتارًا حسّاسة جاعلة منّي ناسكًا في محراب مريده. سقت قصائد مظفّر عود الضمير، وفتّحت عيون الاحتجاج، كما أنّها أنطقت لسانًا شعبيًّا كان مكتومًا، وجعلت منه صوتًا يستمع له كلّ عربيّ، ويبحث عن معاني كلماته كلّ عاشق ثائر، يرى في وجه حبيبته أملًا، تحاول اغتياله أيادي حكومات فاسدة.

أذكر جيّدًا كيف تجلّت ثمار ما زرعه النوّاب في نفوس مَنْ آمنوا بمشروعه، خلال «احتجاجات تشرين 2019» كنّا نغنّي قصائده ونردّدها خلال جلوسنا على ضفاف دجلة...

هل أحاول هنا أن أكتب رثاء؟ أبدًا؛ فمظفّر لن يموت وإن كانت ستغيب أنفاسه عن عالم لطالما رطّب روح البراءة بقصائده ووقاها من درن الخونة. استطاع أن يلغي بمواقفه المسافة بين المجاز والحقيقة، فحفر لنا نفقًا مضاء بأفعاله الّتي تكاد تقارب في غرائبيّتها قصص الخيال.

ارتفاعات مظفّر في شعره الشعبيّ تجعله عصيًّا، رغم ما يشتهر له من قصائد يحفظها الجميع ويتغنّى بها الصغار قبل الكبار، لكنّها تبقى سِرّانيّة، مثل دين جديد، لا يدركها سوى المؤمنين بها، والباحثين فيها عن يقين يوصلهم إلى فردوس شعريّ.

سيُقال في موته الكثير، وليست كلماتي سوى إشارة إلى فضل الشعر الّذي كاد ينقذنا جميعًا لولا مَنْ كانت نفوسهم ملوّثة. أذكر جيّدًا كيف تجلّت ثمار ما زرعه النوّاب في نفوس مَنْ آمنوا بمشروعه، خلال «احتجاجات تشرين 2019» كنّا نغنّي قصائده ونردّدها خلال جلوسنا على ضفاف دجلة، بين يدَي أبي نواس، نرمي أصواتنا على ضفّة الأعداء في الجهة المقابلة، ضفّة المدينة الخضراء حيث أباطرة الصدفة المجرمون، كنّا نرمي أصواتنا العالية مكتسية بكلمات أبي عادل، وهي سلوتنا ومخزوننا الجماليّ الّذي نواجه به قبح جماعات لا ترى العراق إلّا فريسة سهلة:

تِنْذَلّ إِنْجومِچ يَالدِّنْيا      

وْعينايِ ابْليلِچْ مِشْتَعْلَة

وإِنْشابِچْلِچْ مِيَّةْ مِنْجَل

تِنْضَحْ دَمْ، وِانْسَقْطِ الدَّوْلَة

وْكِلِّ الشُّميسَة إِنْباهيها

بْحَبِّةْ حِنْطَة إِتْغامِزْ دِجْلَة


بينما تُمْطِر أسلحة الدولة علينا سماء الله، رصاصًا وقنابل دخان، ونحن بحماس «حِچّام الْبْريسْ» كنّا ’نَواكحَ‘ هذه اللحظة الصلفة من الزمن، مؤمنين بقوّة الحلم الّتي تدفعنا إلى حفر نفق نجاتنا الخاصّ. في واحدة من تلك الليالي، كان يرافقنا صديق مؤمن بقوّة كلمات النوّاب، إلى درجة أنّه كان يرى فيها السبب الّذي دفعنا إلى الخروج في تشرين. هذه مقولة صاحبنا الّتي كرّرها مرارًا في تلك الليلة، بينما كنّا نصفه بالمبالغة، لكنّ الحقيقة أنّه ليس الوحيد الّذي رأى ذلك، بل تكاد تكون هذه رؤية تيّار كامل خضع لتربية النوّاب الشعبيّة، هذا التيّار شرب مضامين الاحتجاج من «جَرْحِ صْويحِبْ» وبقيّة القصائد ذات الصوت الاحتجاجيّ العالي. يُعرف النوّاب بهجائيّاته واحتجاجيّاته الشهيرة، لكنّ الثوريّة الّتي كانت في شعره الشعبيّ تحمل أملًا على عكس التشاؤم في الفصيح من قصائده.

... يحضر أيضًا في قلوب نساء عراقيّات هنّ أمّهات ثكالى يجدن في شعر النوّاب تعبيرًا عن حزنهنّ الجبّار، فيلهجن به بنعيهنّ دون حتّى معرفة مَنْ يكون النوّاب.

كان صديقنا من أيّام «احتجاجات تشرين» منتشيًا باللحن العراقيّ الطروب، غير منتبه لاحتماليّة أن يبقى حزينًا، في أكرم لفتات الدهر، وكان يسيطر على ذهنه إيمان واعد بانقضاء «أيّام اللَّفّ» كما انقضت من قبلها «أيّام الِمْزَبَّن».

النوّاب الّذي يعرفه المثقّف العراقيّ يحضر أيضًا في قلوب نساء عراقيّات هنّ أمّهات ثكالى يجدن في شعر النوّاب تعبيرًا عن حزنهنّ الجبّار، فيلهجن به بنعيهنّ دون حتّى معرفة مَنْ يكون النوّاب.

ستبقى حيّة روح الاحتجاج الّتي غذّاها النوّاب بمواقفه قبل كلماته. منذ صباه، شقّ طريق تمرّده؛ فكانت «وثبة كانون 1948» أوّل مظاهرة شارك فيها، وكان وقتذاك صبيًّا في المدرسة المتوسّطة، بعد ذلك لم يُثْنِهِ عن هذا الطريق حكم إعدام، ولا محاولات اغتيال، ولا حبس في «نقرة السلمان». ينام نيمة المطمئنّ الآن في تابوته مرفوعًا على أكتاف شباب، حيّة في ضمائرهم وصاياه، كلّما ضيّقت عليهم مسالك الحياة نغزتهم قصيدة «البراءة»؛ لتُجَنِّبَهم الجنوح إلى طريق العار:

يا بْني، هايْ أَيّامْ يِفَرْزِنْها الْقَحَطْ أَيّامْ مِحْنَة

يا بْني، لا تِثْلِمْ شَرَفْنا

يا بْني، يا وْليدي، الْبَراءَة تْظَلّْ مَدى الأَيّامْ عَفْنَة

تِدْري يا بْني بْكِلّْ بَراءَة

كُلّْ شَهيدِ مْنَ الشَّعِبْ يِنْعاد دَفْنَه


مطمئنّ هو الآن على أكتاف شباب رفضوا أن تدنّس تشييعه أقدام الحكومات الّتي كرهها، مدفوعين بقوّة الرفض وجرأة الثائر؛ حتّى تبقى صورة نوّابهم عصيّة على الخدش إلى النهاية، لا يقتحمها نفعيّ ولا يقربها خائن. ونجح الشباب في طرد كلّ الساسة الّذين حضروا جنازته، بدءًا من رئيس الوزراء العراقيّ مصطفى الكاظمي إلى أصغر نائب في البرلمان، وعلت أصواتهم الرافضة مشحونة بحماس كان سيفرح له النوّاب لو رآه، كذلك الحجارة الّتي رماها المشيّعون الشباب على مواكب الساسة، هي لا تختلف عن الحجارة الفلسطينيّة الّتي كتب فيها النوّاب قصائد خالدة.

رُفِعَتْ صورة الشهيدة صفاء السَّرّاي، أيقونة ثورة تشرين، وهنا تتجلّى ثمار التربية الشعبيّة لمظفّر النوّاب، في جيل يرفع صورة شهيدة في جنازة معلّمه...

إضافة إلى صورة النوّاب في الجنازة، رُفِعَتْ صورة الشهيدة صفاء السَّرّاي، أيقونة ثورة تشرين، وهنا تتجلّى ثمار التربية الشعبيّة لمظفّر النوّاب، في جيل يرفع صورة شهيدة في جنازة معلّمه.

هنا تكتمل أركان السيرة النوّابيّة الممتدّة طوال سنوات عديدة كأنّها مظاهرة دائمة. لا تليق بالنوّاب ’وداعًا‘ عاديّة كأنّها تسدل ستارة عن صوت سنفقده ويصير ذكرى، بل ’وداعًا‘ فيها في طاقة رفض تعلن بداية سيرة جديدة من الاحتجاج حتّى استعادة وطن مخطوف، وهذا ما فعل الشباب اليوم في تشييعه، وعادوا بعد ذلك إلى حزنهم الملتهب، عارفين أنّ كلّ شيء لحظتها بكاء مطلق.

 


 

مبين خشّاني

 

 

 

شاعر من العراق، تخرّج في «قسم الهندسة - جامعة واسط» عام 2020. يكتب في السينما والنقد في منابر عربيّة مختلفة. نالت مجموعته الشعريّة «مخطوف من يد الراحة»، «جائزة الرافدين للكتاب الأوّل – دورة فوزي كريم» لعام 2021.
 

 

التعليقات