04/07/2022 - 19:00

شمس فلسطين الّتي لا تغيب

شمس فلسطين الّتي لا تغيب

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

إعادة تشكيل الصوت

ليست استعارة أدبيّة أن يُولد غسّان كنفاني (1936 - 1972) في عكّا، مع لهيب الثورة الفلسطينيّة في عام 1936 ضدّ الاستعمار البريطانيّ، في ذلك المكان الّذي شهد لاحقًا إعدام الثورة، تلك كانت حقيقة تجرّعها كنفاني على دفعات في حياته، وهو الّذي عاش النكبة بكلّ تفاصيلها حين كان صبيًّا في الثانية عشرة من عمره. كان عليه أن يعيش بعدها أربعة وعشرين عامًا في المنافي؛ كي يصوغ قصّة ثورة أدبيّة وفكريّة على أرض الواقع، ويترك لنا أسئلة مفتوحة على الراهن.

لا شكّ في أنّ غسّان كنفاني وضع حجر زاوية في الأدب الفلسطينيّ بعد النكبة، وأسّس خطوطًا لكثير ممّا جاء بعده، كانت كتابته المكثّفة، خلال سبعة عشر عامًا، كأنّه في سباق مع الزمن لتجريب جميع الأدوات الأدبيّة والكتابة الصحافيّة الناقدة، واللاذعة، والثوريّة، والاستباقيّة، والرؤيويّة. كلّها كانت قادرة على تجلية الشمس؛ تلك الشمس المضيئة الطاغية المترفّعة الحارقة واللا مبالية، الّتي لم تكن يومًا واحدة أو صديقة منحازة. لكنّ غسّان كنفاني، وبعد نصف قرن من اغتياله، تبدو أيقونيّته أكثر سطوعًا، تضع الفلسطينيّ في صلب سؤال الثقافة المركّب حول اجتراح كتابة أكثر اشتباكًا وأقلّ شعبويّة، أكثر تأسيسًا وأقلّ برغماتيّة، أكثر عمقًا وأقلّ دفعًا للثمن الباهظ، خاصّةً أنّ أدوات الراهن - الّتي قد تبدو أكثر رحابة - بات فضاؤها أكثر ضيقًا، وتغوي كثيرين نحو كتابة أشدّ غزارة وأكثر سطحيّة.  

غسّان كنفاني، وبعد نصف قرن من اغتياله، تبدو أيقونيّته أكثر سطوعًا، تضع الفلسطينيّ في صلب سؤال الثقافة المركّب حول اجتراح كتابة أكثر اشتباكًا وأقلّ شعبويّة، أكثر تأسيسًا وأقلّ برغماتيّة، أكثر عمقًا وأقلّ دفعًا للثمن الباهظ...

لم تكن تسمية كنفاني للأدب في تلك المرحلة بـ ’المقاوِم‘، المسألة الوحيدة الّتي برز فيها وعيه المبكّر، بل أيضًا كانت قراءته النافذة الّتي تعتمد على البناء عبر الكتابة. في «رجال في الشمس» (1963)، يمنح كنفاني شخوصه ألوانًا تبدو متعدّدة، لربّما للمرّة الأولى يعكس الأديب الفلسطينيّ بعمق تدرّجات الإنسان الفلسطينيّ، بأحلامه ومآلاته وهزائمه. رغم شفافيّة رمزيّة الشخوص، إلّا أنّها تقدّم لنا اللحظة عارية بكلّ فجيعتها - عبر قصديّة التشويه (Grotesque) - تلك اللحظة المستمرّة الّتي رسمها كنفاني، في النهاية، هي دعوة راهنة لقراءة الصوت الفلسطينيّ من جديد؛ فكنفاني، وبشكل مفارق (Dramatic Irony) ينبّه القارئ لأهمّيّة الصوت عبر تقصُّد استبعاده وإثارة الجدل حوله، كان يدرك أنّ الاستغاثة الرتيبة ليست الصوت المنشود، ولهذا؛ فإنّ أهمّيّة «رجال في الشمس» ليست في تعرية الهزيمة فقط، وليست في تجسيد المعاناة المركّبة للضحيّة الفلسطينيّة فحسب، بل في إشارتها البليغة إلى ضرورة إعادة صياغة هذا الصوت ومقولته في كلّ مرحلة من جديد، ليتخطّى مرجعيّاته المهزومة الّتي باتت حريصة على أن يبقى منفيًّا داخل خزّان ضيّق ومصالح فرديّة أضيق، إنّها لحظة الإنارة في لحظة السقوط، كيوسف في جبّه إذ يكتشف الإيقاع به في لحظة الوقوع.

 الجدليّة كما نراها اليوم بنظرة كاشفة (Overview Ending) ليست في اختلاف القرّاء حول شكل خاتمة الرواية خاتمةً مواجهة ومحبطة لتوقّعات القارئ ورغباته (Confrontational Closure)، أو خاتمة متمّمة (Complementary Closure)؛ فالمسألة ليست في دقّ الخزّان من عدمه، ولا تنحصر في أن يصغي العالم أو لا يصغي، بل في خيار دخول الخزّان، قسرًا أو طوعًا، يأسًا وهزيمة أو أملًا في النجاة؛ تمامًا كما يحدث في سجن أوسلو الكبير الّذي ما زال مستمرًّا، أو في أشكال الأسرلة المختلفة. رغم كثرة الأصوات في الرواية إلّا أنّها لم تتعدّد في الحقيقة، فقد حشرت الشخوص نفسها في اختيار أحاديّ، مصير الخزّان الواحد، وهي صورة مفارقة مناقضة لصورة الوحدة الوطنيّة المشتهاة، بل صورة معادلة (Objective Correlative) عن مصير الضياع والصوت المونوفونيّ (Monophony)، غير المتخاطب والضائع في تجويف معزول ومنفيّ، إنّه أيضًا الخلاص الفرديّ الّذي يجعل من الخلاص الجماعيّ شبه مستحيل، في غياب حوار باختينيّ (Dialogism) في أفق الواقع، بين الفعل السياسيّ والقيادة الثقافيّة والإدراك الشعبيّ. كان بإمكان كنفاني أن يصمّم النهاية بشكل مختلف، لكنّه وظّف المقدرة السلبيّة ببراعة (Negative Capability) ليصمّم للقارئ - على وقع موت الضحايا - صدى انعدام الحوار، الّذي ما زال يتعاظم في فراغ الراهن، رغم امتلائه بالأصوات.

 

عن الأسرلة وصياغة ’العودة‘

تكمن براعة كنفاني في كتاباته الأدبيّة في أنّها توازن بين جماليّاتها وبين قراءتها الواعية والمبكّرة لمسألة فلسطين؛ "فأن تكتب قصّة قصيرة ناجحة فهذا أدب مقاوم"، كانت هزيمة حزيران محفّزًا أدبيًّا (Trigger) لتطوير فكرة المسؤوليّة الذاتيّة والمصير الفلسطينيّ، كان ذلك واضحًا في قراءته لمفهوم العودة في «عائد إلى حيفا» (1969)، في فهمه لضرورة إعادة صياغة التفكير في الواقع الجديد، بعد تغيير الحيّز وتطهيره من الأصلانيّ وأساليب طمس هويّة من تبقّى، وهو أيضًا بالتوازي يضع إصبعًا على أهمّيّة التفكير في الصهيونيّة داخل الأدب، وكيفيّة فعل العودة المستمرّ الملتبس باسم الفاعل. لربّما السؤال الأكثر اختراقًا داخل هذه الرواية، الّذي يعمد كنفاني أن يقدّمه للقارئ بعد فعل التقشير (Peeling)، هو سؤال صاغه بجمل استفهاميّة قصيرة متلاحقة، ما زال يتردّد صداها:

 "ما هو الوطن؟ (...) أجل، ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلّا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسيّ؟ شجرة البلّوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوّة؟ البنوّة؟ ما هو الوطن؟ (...) إنّني أسأل فقط".

السؤال ليس سؤال العودة لمن طُردوا من المكان فقط، بمعناه الفلسطينيّ الكلاسيكيّ، بل أيضًا كيفيّة العودة/ البقاء المستمرّة لمن بقي في المكان؛ لأنّ محاولات السلخ والاستنساخ ستبقى مستمرّة. هذا مفهوم ’عودة‘ آخر في ظلّ سؤال الأسرلة الّذي بات ملحًّا في قالبه الراهن، كأيّ سؤال يُظنّ أنّ قياساته معروفة، لكنّها ليست كذلك. في الرواية دعوة مستمرّة إلى إعطاء الشرعيّة للتفكير في مفاهيم كثيرة وطنيّة، يُظنّ أنّها مسلّمات في حين أنّ تحوّلاتها السيميائيّة سلخت الرمز عن المرموز له، فأفرغت الدلالة، كما قد يُسلخ الثقافيّ عن الوطنيّ، فيبقى الرمز فارغًا.

 

التفرّغ لبناء ثقافة الإنسان

كان حرص كنفاني على أن يكتب للميس الصغيرة وعيًا مبكّرًا؛ لأن يكون له قرّاء مضمرون من الصغار، بل كان "يعدّ بيديه المرهفتين الرسومات الجميلة للقصص"، إنّها استعارة حيّة تجسّد فكرة بناء الإنسان وسعيه إلى التحرّر الفكريّ، وفكرة أنّ الثقافة السياسيّة ليست للكبار فقط، كما قد يعتقد كثيرون من المشتغلين في ’التربية‘، وفق هذه الرؤية فإنّ قصّة الأطفال ليست عملًا تربويًّا وأدبيًّا معزولًا بقدر ما هي أداة للتفكير والنقد، والخروج من صناديق خشبيّة بأسوار مرتفعة، لذا؛ فإنّ «القنديل الصغير» (1963) جاءت لتكرّس مفهومًا مبكّرًا، في أنّ الفكرة إرث يوضع من أجل تجاوزه. ليس محض صدفة أن تكون بطلة القصّة بنتًا، فرغم حيرتها وتخبّطاتها إلّا أنّ إحداث التغيير الذكيّ كان بالتجريب والممارسة والتشاور، وأخذ زمام الأمور، وتحمّل المسؤوليّة عن الفعل. الانعتاق الفكريّ للأميرة قادها إلى التحرّر والتحرير، لكنّه لم يكن انقطاعًا عن الآخرين وعن الأجيال السابقة، بل توظيف ذلك كلّه معًا. إنّه وعي كنفاني في ضرورة الأمل بقيادة مستقبليّة تختلف عن أبي الخيزران وتتجاوزه، رغم أنّ الحكايتين وجهان لقصّة واحدة.

 

عن الاشتباك بالقلم

لم يكن غسّان كنفاني يحتاج إلى كلمات كثيرة ليقول فكرته، كان حداثيًّا يعرف أنّ امتلاك اللغة من جديد لا يعني الاستهلاك، بل الاقتصاد؛ لأنّ الترهّل في الوصف سمة المترفين في الوقت أو حاجة الرثاة. لقد عرف "كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة"، هذا النفاذ في اللغة جعل نصّه مفتوحًا على القراءة المتجدّدة، أو كما يقول "مهنتي أن أكتب قصّة". القارئ الفلسطينيّ اليوم - في واقعه الجامد المتحرّك - يبحث عن صياغات لترويض الشمس للخروج من خزّانه، أو خيارات بديلة تقيه دخول صناديق أخرى، هذه هي حكمة غسّان، وهذه بطولته، في أن يحكي حكاية لا تتوقّف هناك، بل في جماليّة "قصّة تكبر معك كلّما كبرت".

لم يكن غسّان كنفاني يحتاج إلى كلمات كثيرة ليقول فكرته، كان حداثيًّا يعرف أنّ امتلاك اللغة من جديد لا يعني الاستهلاك، بل الاقتصاد؛ لأنّ الترهّل في الوصف سمة المترفين في الوقت أو حاجة الرثاة...

اغتيل الصوت لإخراس الفعل، ودفع كنفاني ثمن الاشتغال بالثقافة، من حياته نفسها، في موت أيقونيّ يختصر قصّة لم يكتبها، لكنّه كان يدرك أنّ "قضيّة الموت ليست على الإطلاق قضيّة الميّت، إنّها قضيّة الباقين"، في الراهن الّذي يشهد إعدام ثورات وإخماد أصوات بطرق فجّة ورديئة، يقف قارئ كنفاني ليعيد تحويل الجملة الإنشائيّة إلى استفهام: "ما تبقّى لكم؟"، كيف يتشكّل الصوت؟ وكيف تُستقطب القناديل لإضاءة مشهديّة الموت والحرّيّة؟ التفكير عبر الأدب، و"الثقافة كفعل" شيء يحتاج إلى المزيد من الرؤيا اليوم في المشهد العامّ، رغم فائض الرفاهيّة الظاهريّة ورحابة الفضاء الافتراضيّ، فإنّه يُفتقد فيه إلى الثقافة، ويفيض بضدّها، وبكثير من العنف المرتدّ إلى الذات، ربّما الغرق في أقطاب غير متخاطبة ومعازل بعيدة عن وسطيّة المرساة الوطنيّة المشتهاة، يحول دون طرح حوار حول ما لم يعد من المتّفق عليه. رتابة، وغياب، مفهوم "المقاومة بالثقافة" اليوم في الحيّز العامّ الفلسطينيّ الشعبيّ والتربويّ والعاجيّ، أفرز سطحيّة ما نشهده من تحوّل في ممارسة "الثقافة الوطنيّة"، وفي ممارسة "وطنيّة المثقّف"؛ لأنّ مردّه في هشاشة بناء الإنسان وتبنّي الهويّة، هذا التحوّل يطال بأنماط متباينة الطبقة الّتي تسعى إلى القيادة والفقاعات الأخرى، بل أيضًا يطال بعض الطبقات الأساسيّة الّتي أوجدت «أمّ سعد» (1969).

المثقّف اليوم يسير في حقل ألغام أعتى ضراوة من زمن غسّان، وهذه حكاية يطول شرحها، فإنّ معركة الفلسطينيّين اليوم على الوعي المضادّ والسرديّات الّتي بات يتبنّاها ’المطبّعون‘ ليست المعركة الوحيدة، بل ثمّة معارك أكثر عمقًا وتغلغلًا، لذا؛ فإنّ الفعل الثقافيّ يحتاج إلى أدوات تأسيسيّة نوعيّة، وهذا هو جزء من حوار لمّا يبدأ بعد. ولو كان كنفاني بيننا اليوم، وكان يمكن أن يكون في السادسة والثمانين مجلّلًا بحكمة أخرى لربّما، ماذا كان سيقول؟ وكيف كان سيكتب؟ اغتيل كنفاني وبعده كثيرون وكثيرات، لكنّ الشمس... لا يمكن اغتيالها.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ يتزامن مع مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

عايدة فحماوي - وتد

 

 

 

أكاديميّة فلسطينيّة وباحثة في الأدب الفلسطينيّ والأدب الحديث. 

 

 

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

23/08/2022
مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

11/07/2022
غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

01/08/2022
قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

25/07/2022
قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

25/07/2022
أن تكون مثقّفًا مزعجًا

أن تكون مثقّفًا مزعجًا

05/07/2022
شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

19/07/2022
مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

08/08/2022
"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

19/07/2022
عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

24/07/2022
أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

01/08/2022
بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

03/08/2022
أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

18/07/2022
بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

07/08/2022
«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

14/07/2022
المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

22/08/2022
«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

13/07/2022
غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

16/07/2022
صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

07/07/2022

التعليقات