04/07/2022 - 17:45

الوطن حين يقبلك ميّتًا

الوطن حين يقبلك ميّتًا

مظفّر النوّاب (1934-2022)

 

تساءلت عندما رحل النوّاب قبل أسابيع، ولا أزال: هل هذا ما كان ينقص الشاعر؛ أن يُسجّى بالعلم العراقيّ بعد أن حُرم تراب العراق؟ هل كان حريًّا بالوطن أن يستذكر أبناءه بعد الممات؟ لقد عاد إلى أرض طالما عشقها، وتغنّى لها، لكنّه حُرم منها قسرًا، فقد كانت أقسى أمانيه:

أي إلهي! إنّ لي أمنيةً أن يسقط القمع بدار القلب

والمنفى، يعودون إلى أوطانهم ثمّ رجوعي

 

لقد عاد أبو عادل، لكن بعد تغريبة شاقّة، أنهكته الرحلة، وخارت قواه، لكن لم تنل من عنفوانه، خمسة عقود تنقّل فيها بين عواصم العالم هربًا ممّن كانوا يعتبرون لسانه سيفًا مسلّطًا على رقابهم، غادر مسقط رأسه هربًا، وأبقى الحنين داخله يقتله، ورفض أن يكون لسانًا بما ينطق به الحكّام، نطق بما يعجبه لا بما يعجبهم، وبدأت الرحلة:

غادرت الفردوس المحتلّ

كنهرٍ يهرب من وسخ البالوعات حزينا

أحمل من وسخ الدنيا أنّ النهر يظلّ لمجراه أمينا

 

هل كان النوّاب محقًّا في اكتساب عداوة حكّام بلاده؟ كان بإمكانه أن يقبل الهدايا والمغريات الّتي قُدِّمَتْ له، ويحيا حياة أشبه بحياة الملوك، لكن كيف بحرّ يرى بلاده مستعمرة، وخيراتها منهوبة، وحكّامها مغلوبًا على أمرهم، ألّا تحرّكه النخوة والحميّة؟

خجلت أقول له قاومت الاستعمار فشرّدني وطني

 

آمن النوّاب بمعتقدات وثوابت كان من الصعب التنازل عنها في ظلّ القمع العربيّ الّذي كان يلاحق الأقلام والألسن، فأُغْلِقَتْ في وجهه عواصم، وفُتِحَتْ أخرى، كان يخفي بداخله حزنًا عميقًا تفضحه الكلمات أحيانًا، كانت خشية الأنظمة من النوّاب أكبر من أن يصدّقها عقل، بدءًا بالملاحقة السياسيّة، ومحاولات الاغتيال، وتغييب الشاعر أدبيًّا، فلم يكن من السهل أن تجد أشعاره ودواوينه - الّتي طُبِعَت سرًّا – بسهولة، في ظلّ الرقابة الشديدة الّتي انتهجتها الأنظمة العربيّة على النوّاب، ومع ذلك كلّه فهو يأبى الذلّ ولا يخشى العواقب:

ولست أخاف من أجل قولٍ جريءٍ ومعتقدِ

قبّةٌ وضريحٌ

إذا كان بعضٌ يفكّر في النيل منّي

فهذا أنا

لست أملك إلّا القميص الّذي فوق جلدي

وقلبي وراء القميص يلوح

 

النوّاب شاعر أدمن التشرّد والنفي، فتنقّل بين بيروت ودمشق والقاهرة وأريتريا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا، وصولًا إلى الشارقة، وفي رحلته هذه يبحث عن وطنه الّذي ما غاب عن ذاكرته، لكنّ الوطن الّذي رسم له صورة يعشقها كلّ حرّ كان يعاني من الغربة الّتي عانى منها الشاعر نفسه، فالمنفى يصبح حقًّا مشروعًا إذا ما شعرت بأنّك مطارد في أشعارك وأفكارك ومبادئك، حين يصبح الوطن مزرعة لمجموعة من المستثمرين:

لماذا يدخل القمع إلى القلب

وتستولي الرقابات على صمتي وأوراقي

وخطوي ومتاهاتي

ألا أملك أن أسكت، أن أنطق

أن أمشي بغير الشارع الرسميّ، أن أبكي؟

ألا أملك حقًّا من حقوق النشر والتوزيع للنيران مجّانًا؟

 

عندما أيقن النوّاب أنّ صوته مصادَر، وكلماته مراقَبة، تبدأ رحلة البحث عن الذات، وعن العروبة الّتي فقدها الشاعر، وفقدتها الشعوب العربيّة، عساه يجدها في قطر عربيّ، وأنّى له ذلك؟ ففي حلّه وترحاله كان يجد أنّ ما يعيشه العراق تعيشه باقي الأقطار العربيّة، فسادت حالة التشرذم والفرقة:

لأمرٍ يهاجر هذا الّذي اسمه المتنبّي

وما قدّر أنّه في الجزيرة يوما

وفي مصر يوما

وفي الشام يوما

فأرضٌ مجزّأةٌ والتجزّؤ فيها جزاء

 

كان يعلم أنّ أشعاره ستجد صداها في الجماهير العربيّة ("سيكون خرابا، سيكون خرابا")، ويعلم أيضًا أنّ الثبات على المواقف والمبادئ الّتي تبنّاها يحتاج إلى تضحية، فالمثقّف العربيّ المعارض الناقد إمّا مسجون وإمّا منفيّ وإمّا مقتول، لكنّها المبادئ الّتي لا تتجزّأ، ولا يقبل بها إلّا مَنْ باع نفسه، أمّا النوّاب فعلم أنّ الثمن سيكون غاليًا، فقبل التحدّي ولم يبع نفسه:

سبحانك! كلّ الأشياء رضيت

وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان

وقنعت بأن يكون نصيبي كنصيب الطير

لكن سبحانك!

حتّى الطير لها أوطان وتعود إليها، وأنا ما زلت أطير

 

ليس عيبًا أن تكون جزءًا من كلّ قطر عربيّ، وأن تكون من منظومة وقوميّة عربيّة لها وحدتها وكينونتها واستقلالها، وليس عيبًا حسب ما اعتنقه النوّاب وآمن به أن تكتب وتقول ما تقتنع به، وتقنع الآخرين به، لكن من العيب ألّا تجد لك موطئ قدم في بلدك إلّا في باطنها، وأن تموت وفي قلبك حسرة العراق، وأن تعود إلى حضن الأرض ميّتًا:

أهلنا كلّ تراب الأرض فما واراه

وشوشنا في أذنيه: فلسطين (بغداد)

تلوّن خدّاه، وطاب ثراه

 

كان النوّاب شاعر رفض وتمرّد، غرس فينا غرسًا نستعين به ونستذكره في كلّ انكسارة وخيبة، وفي كلّ محنة تعصف بالوطن العربيّ، رحل مَنْ هجا أقبح الحكّام بأقبح العبارات، رحل من جعل القدس فاضحة لحكّام مهرولين مطبّعين.  

   


 

د. موفّق عودة

 

 

 

مدير مدرسة ثانويّة. حاصل على الدكتوراه في اللسانيّات من جامعة النجاح الوطنيّة. كتب رسالة ماجستير بعنوان: مظفّر النوّاب، التلقّي النقديّ واختلاف الطبعات.

 

 

التعليقات