22/01/2023 - 19:27

«التشهّي»... رواية تخون الهزائم

«التشهّي»... رواية تخون الهزائم

«التشهّي»، للكاتبة العراقيّة عالية ممدوح (2007)

 

اعتدنا روايات تكتب عن الهزائم المتعاقبة على أجسادنا، وعلى عروبتنا، وعلى أوطاننا. لكنّ «التشهّي» (2007)، للكاتبة العراقيّة عالية ممدوح ، جاءت تخون هذه الذاكرة المهزومة، وتطعن في شرف الهزائم الّتي تتبجّح بـ ’وحشيّتها‘.

في «التشهّي»، تسقط - منذ السطر الأوّل - ورقة التوت، وتشرئبّ الأعين لتسمع دويّ الانفجار الضخم الّذي فجّره السطر الأوّل؛ لقد رصّت عالية ممدوح حروفها وعللها ومركّباتها لتطلقها في سرديّة واحدة: إنّها تلفظ أمشاج الهزائم العالقة بمشرط كاتبة.

إنّ وحشيّة الهزائم فرضت نصًّا وحشيًّا ومتوحّشًا وموحشًا؛ فلم يَعُدْ أمام الرواية خيار سوى أن تكون ندًّا لهذه الخسارات ولهذا الخذلان.

 

المترجم الجيّد

منذ الصفحات الأولى يجد القارئ عينيه أمام مسارين: فمَنْ شاء دلف باب الفطنة فيصير عليمًا بمخابئ النصّ ومعانيه الثوانيِ، ومن شاء تكلّس على السطح، وقرأ الرواية جنسًا خالصًا عن الجنس.

منذ الصفحات الأولى يجد القارئ عينيه أمام مسارين: فمَنْ شاء دلف باب الفطنة فيصير عليمًا بمخابئ النصّ ومعانيه الثواني، ومن شاء تكلّس على السطح...

لا شيء متروكًا هنا في هذه السرديّة المغموسة في الفجيعة للصدفة: الأسماء، وتواتر الأحداث، والقادح، وحضور شخصيّات أدبيّة، والإتيان على عناوين منظّمات وُجِدَتْ ونفقت أو تلاشى جلّها: تنهض الشخصيّة الرئيسيّة على فقدان ذكورتها، ولا تنفكّ تحاول بعد ذلك أن تنهض من ضمورها.

مترجم منفيّ في صقيع لندن يفقد ’عضوه‘ بعد أن فقد عضويّته، ويعجز عن ترجمة ما يختلج داخله، هو المترجم ’الجيّد‘ الّذي تمحّص هذه ’الموهبة‘ وأجادها. لم يكتفِ المنفى بـ ’تجميد‘ بلده وعواطفه وتجربته السياسيّة، فجمّد فحولته وفتوّته وذكورته. وليست تلك آخر الهزائم، فلم تشفع له كلّ هذه الخيبات ليحمل وزر اسمه حدبة تجثم على ذاكرته ورجولته: سرمد. طين من السرد يخلق رجلًا لانهائيًّا وأبديًّا بلا وطن وبلا قوّة وبلا ذكورة. أيّ شخصيّة تستطيع أن تصمد وهي تحمل عبء اسمها ولعنة ماضيها وماضي شعبها؟

لعلّها من آيات الخلق أنّ وشائج تجمع بين مدلولَي ’السرمد‘ و’السرد‘؛ فيستحيل المعنى جناسًا ناقصًا حرفًا وفحولة، ولعلّ من أسباب الفجيعة أيضًا أنّ هذا الاسم يجعل من حامله مخلوقًا منذورًا للهزائم والخيبات، دون أن يصبح أسطورة، ودون أن يصير حرًّا.

وللمتلقّي أن ’يتفجّع‘ كذلك؛ إذ يرى نفسه في فلك الرواية سرمدًا يحترق من مائه الشحيح، ويخاف أن تحلّ به لعنة الأبديّة. في «التشهّي» ليست الأبديّة بيضاء كما يتشهّى الخيال أن يصوّرها. إنّها صحراء بلا كلأ وبلا قوافل وبلا رسوم. خواء وفراغ مفزع، وعنوان سرمديّ للهزائم، ومكبّ طبيعيّ لكلّ الهزائم العربيّة القادمة والمحتملة.

 

’سرمد‘... الأزليّة المتآكلة

تلوح «التشهّي» كقطعة شطرنج بلا قلاع – إذ دمّرتها الحروب - وبلا ملوك – فالعراق مشاع اليوم - وبلا خيول – فالفتوّة العربيّة أدركها الخصاء – بيادق تجيء وتغدو على غير هدًى. بيادق مسلوبة التاريخ والاكتمال. يبدو النصّ من بعيد رقعة تغلي بالبيادق، جنود بلا ذخيرة. تسقط على هذه الرقعة الروائيّة كلّ القيم والأنظمة تباعًا: اليمين واليسار الفاشل، والقوميّين والشيوعيّين، والنساء والرجال، والحبّ والسلام والشبق.

تُضمر هذه الرواية الرحمة وتُظهر العذاب؛ فالتآكل الّذي يقضم من ’سرمد‘ أزليّته كلّما تقدّمت القراءة يُبين للعيان الظاهر هول الخسارات الّتي تسبح فيها الشعوب العربيّة؛ إذ يمتدّ سيلان العراق المبحوح إلى كلّ الشرايين العربيّة المكلومة، ولكنّها تضمر رحمة بالسرديّة السرمديّة الّتي كُتِبَ على أجيال سابقة أن تقيم فيها، وعن سرمديّات سرديّة قابلة للقبول، قد تعيشها أجيال لاحقة قابلة للقبول أيضًا. يرأف المتن الروائيّ بواقعنا السرمديّ المعطوب فكرًا ووطنًا وعضوًا، فتبعث من روحها إليه ’أليفا‘ يؤنس وحشته، ويبدّد فزعه، دون أن يصبو في النهاية إلى التخفيف من الخسارة.

إنّها لوحة حيّة فارّة من متحف لمّا يُشَيَّد بعد ليعرض حضارة شيّدت عنفوانها في رواية واستسلمت لقاتلها؛ لوحة تسيل منها الزيوت والدماء والماء: تتفسّخ وتتداخل لتأخذ شكلًا جديدًا.

ليست رائحة الذكورة المبتورة الفارّة من النصّ. إنّها رائحة الخيانة تخيّم على كلّ الرواية، بل إنّ غاية النصّ أن يغلب رائحة الخيانة على رائحة السائل المنويّ...

ليست رائحة الذكورة المبتورة الفارّة من النصّ. إنّها رائحة الخيانة تخيّم على كلّ الرواية، بل إنّ غاية النصّ أن يغلب رائحة الخيانة على رائحة السائل المنويّ؛ لأنّها أشدّ وأفظع في النفوس من شعور رجل فتك بجسده السقم، فبات مبتور الذكورة والأحلام. رواية تشنق التاريخ الرسميّ من خصيتيه، وكذا تفعل بالتاريخ ’المهزوم‘ الّذي ترثه أجيال الخيبات للتباكي.

والرواية مثل مرآة ساحر لغز: كلّما اتّخذت زاوية للرؤية أماط السرد عن لوحة جديدة ومعانٍ وليدة. لا يكفّ هذا النصّ عن توليد دواله رغم الزمان العاقر الّذي خُلِق فيهِ: من صورة المثقّف الخانع للنظريّة دون الفعل تحسّبًا "للشرط الإنسانيّ"، أو اكتفاء "بالطرح الأيديولوجيّ"، إلى شبكة العلاقات المعقّدة في المجتمعات العربيّة بين المرأة والرجال، و’فتوى‘ الرفاق الّذين يؤثرون ساعة التصويت رجلًا لفحولته على امرأة على جدارتها.

 

معنًى من الخسارة

تخون «التشهّي» كلّ أنقاض الهزائم الّتي ما زال الإنسان العربيّ يتعثّر فيها، وتخون كلّ الهزائم الّتي قد يتعثّر فيها في أزمنة لاحقة. إنّ هذه الرواية إنّما جاءت لتقلب الموازين قولًا وسردًا. جاءت تستشرف الماضي الّذي نشيح بأعيننا عنه؛ لأنّنا نخشى أن نعترف فيه وبه، أن نقرّ بخيباتنا وبالخذلان الّذي ما زال يفتك بالجسد العربيّ. وهي رواية لا تعرّي فقط هزائم سكّانها، بل تفخر بها "كشرط تاريخيّ" لحتميّة السيرورة ’التاريخيّة‘ أيضًا.

رواية تجترح من جراح شخوصها معنًى جديدًا للحياة منبثقًا من الخسارة. تطلب رائحة الخيانة إلى النصّ ثمّ تطردها، وتجمّد عضوًا سرمديًّا لتوقّد الرغبة في الحياة من جديد. ليس ’سرمد‘ قربانًا، لكنّه مخلوق أسطوريّ شكّكت في نسبه الملاحم القديمة، فنسبته الرواية إلى سردها؛ فإذا كانت المخلوقات الأسطوريّة وُجِدَت لتعتبر الناس منها، فإنّ ’سرمدًا‘ وُجِد ليُعْتبَر من الناس، فهل رأيتم شخصيّة تنهل من الناس؟ وإذا أوجد الإغريق أساطيرهم لتخليد حضارة فإنّ الرواية أوجدت ’سرمدًا‘ ليخلد في كلّ إنسان. سيظلّ ’سرمدًا‘ ينبعث في كلّ إنسان عربيّ، بل في كلّ إنسان حتّى يكتمل فتغادرنا الهزائم ويعود ماؤه. آنذاك فقط سيستطيع ’سرمد‘ أن يغيّر اسمه في رواية تُولَد زمن النصر لا زمن الهزيمة.

ليست هذه سرديّة عاديّة، وليست استثناء. ليست استثناء بمعنى أنّها ليست ابتداعًا روائيًّا يفترس الجنس في سطوره، ولكنّها ليست سرديّة عاديّة لأنّها جاءت تعرّي إنسانًا غير عاديّ. لقد جاءت الخصوبة السرديّة بديلًا من إمساك الذكورة، سردًا يدبر ويفرّ ويروي ويمتدّ ويزجر ويخنق قبل أن يعفو. ولذا؛ تعطّل هذه الرواية الحواسّ كما تعطّل دلالات المكان والزمان. يفرّ الزمان والمكان من تعريفهما المتكلّس في الفكر العربيّ، ففداحة الخسارة في نفس مثقّف من ’الوزيريّة‘ لا تختلف في جوهرها عن خسارة فادحة في بيروت أو في الرباط. أمّا حاسّة الشمّ القويّة فتذكّي تقبّل فكرة الهزيمة لتجاوزها.

 

تي إس إليوت ضيفًا

لأنّ الحياة تنتصر دائمًا على كلّ ’عقم‘، تنتصر الرواية للأدب فتستضيف داخل دهاليزها أصوات شعراء وفنّانين حتّى أنّ السياسيّ الوحيد الّذي أفلت من مقصلة الحسم هو "هو شي منّه" لأنّه كان شاعرًا. أيّ نثر يقبل شفاعة الشعر؟ وفي ذات النصّ يجيء إليوت الأمريكيّ. تفرّق الرواية بين الأمريكيّ الّذي غار من "سمراء قوم عيسى"، فأتى على بغداد غازيًا، وبين شاعر يكتب للإنسانِ حيثما كان.

بهذا المعنى، لا يبدو حضور إليوت اعتباطيًّا ألبتّة. لقد أرّقته مجازر ’الثورات السوداء‘، فكتب «الأرض الخراب». ومن أرق سقوط العراق وسقوط السقوط، نفرت «التشهّي».

تعلّق الرواية ضحايا سجّلتهم كتب التاريخ الرسميّ المنحاز إلى الخيانة والبلاط. تسحبهم من هزيمة التاريخ لتعلّقهم على باب الرواية؛ عبرة لقاتلهم هذه المرّة منذ أن فتكت مشتقّات الرشيد بالحكمة بيتًا وفكرة، فصار دم الأخ زلالًا على المآرب الشخصيّة إلى العرب الّذين أباحوا بغداد سنة ثلاث وألفين لمغتصبها الجديد، ودم الخرّميّ لا يزال ينزّ من ثقوب ماء الرافدين.

 

شهيّة على التعدّد

تفتح هذه الرواية شهيّة التأويل، فتنفتح الشهيّة على التعدّد، وتنبش في الذاكرة الجماعيّة لشعب ملّ الخسارات، وتعلّم أنّ الحبّ والأكل متساويان، وأنّ من الحبّ ما "كسّر العظام" كما تقول الرواية لـ ’كيتا‘ الشخصيّة.

لا يبدو حضور إليوت اعتباطيًّا ألبتّة. لقد أرّقته مجازر ’الثورات السوداء‘، فكتب «الأرض الخراب». ومن أرق سقوط العراق وسقوط السقوط، نفرت «التشهّي»...

ومن سخاء النصّ في الرواية، رغم عطب الماء، أنّها تمنح شخصيّات قديمة حقّ الإفلات من قمقم الانتظار؛ لتخرج معلنة ’هزيمتها‘، وقد طلب منها دائمًا أن تدّعي الانتصار. شخصيّات ولدتها سجون قديمة وخيبات بالية لروائيّين آخرين: على الصراط تمشي وتخرج من مدينة الأشباح إلى التشهّي: أشباح علقت فوقها شخوص وشخصيّات سابقة غامرت في "شرف مروم".

يعود هذا النصّ بالإنسان إلى سجيّته الأولى، وبالسرد إلى نثريّته الأولى: الإنسان الخامّ المجرّد من الحضارة ومن التحضّر كما تتشهّى الذاكرة أن تتخيّله: هجينًا ومتوحّشًا. بيد أنّها سيرورة الخلق تنتهي لتبدأ من جديد. و«التشهّي» يجرّد إنسان اليوم ليعيد تعريف الخصوبة والانتصار والوطن.

إنّه نصّ يختنق بالدهشة؛ دهشة من قدرة السرد على العطاء أمام تعطّل السوائل. يصيّر من ماء الإنسان اسم جمع تخلع عليه كلّ سوائل السرد قميصها فتعيد البصيرة، ولذا، هو نصّ خارج عن المألوف من الهزائم؛ إذ لم يتخيّل التاريخ أن تناطحه سرديّة ترمي حصى نثرها في بئر ظاهرها "أخبار الأيّام والدول"، إلى ما هو أبعد من "الأيّام الأُوَل".

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراه، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة. 

التعليقات