26/01/2023 - 11:49

«إزميل رام»... نحت الجمال بأدوات ديستوبيّة

 «إزميل رام»... نحت الجمال بأدوات ديستوبيّة

«إزميل رام» | «دار الرعاة للنشر والتوزيع» (2020)

 

تشكّل رواية «إزميل رام» للكاتب الفلسطينيّ حسام معروف، والصادرة عن «دار الرعاة للنشر والتوزيع» (2020)، رحلة نحو التحرّر من واقع غارق ظلاميّ، خاصّة في نظرته المشوّهة إلى المرأة في المجتمعات العربيّة عمومًا.

الذات البشريّة الّتي تعيش أزمة وجوديّة، الرجل والمرأة، الشهوة، الطين والماء والهواء والتراب، النحت والقتل، الفنّان المرهف والقاتل السفّاح. هذه هي الثنائيّات والمحاور الّتي اجتمعت في هذا النسيج السرديّ لتثير في النفس تساؤلات كثيرة، أهمّها: أهو المجتمع مَنْ رسم هذه الصورة للمرأة الشرقيّة أم هي مَنْ رسّختها بصمتها وبخنوعها وبتعطيلها لذاتها؟ حيث ركّز الكاتب الأضواء على وضع المرأة في المجتمع الذكوريّ الشرقيّ، هادفًا إلى تعرية الواقع الكارثيّ المتجرّد من الإنسانيّة تجاهها؛ فهذا العمل الروائيّ بمخزونه العاطفيّ الشاعريّ  النثريّ والفكريّ الثريّ، وبالرؤية الفلسفيّة الّتي يحملها، يُعيد الكاتب الإنسان إلى ذاته لتكون المنطلق، والغاية معرفتها ونحتها، ليكون النحت الوسيلة الجوهريّة لارتقائها وسموّها.

تدور أحداث الرواية حول شخصيّة النحّات رام، الّذي يسعى إلى نحت التمثال الأجمل للمرأة، وقد تكدّست في داخله عُقد اجتماعيّة ونفسيّة أوصلته إلى القتل...

تدور أحداث الرواية حول شخصيّة النحّات رام، الّذي يسعى إلى نحت التمثال الأجمل للمرأة، وقد تكدّست في داخله عُقد اجتماعيّة ونفسيّة أوصلته إلى القتل؛ فنفّذ سلسلة من الجرائم الّتي راح ضحيّتها عدد من النساء اللواتي وثقن به وأحببنه، فكان يقتلهنّ بعد إقامة علاقة معهنّ، ثمّ يحوّلهنّ إلى منحوتات، ساعيًا إلى نحت منحوتته الأجمل.

 

هويّة الشخصيّات، تحوّلاتها ومصيرها

علياء، زوجة والد رام، تزوّجته في سنّ التاسعة عشرة وهو الأربعينيّ الّذي يكبرها بكثير، كانت تقدّم له التضحية وهو الّذي لا يفرّق بينها وبين حجر صغير يتعثّر به حذاؤه، إذ شبّه معروف تضحيتها بتضحية ’إيكو‘ في الميثولوجيا الإغريقيّة، الّتي ماتت منكسرة بعد أن اقتربت لاحتضان ’نركسيوس‘، الّذي قفز مبتعدًا تاركًا إيّاها تسقط لتحتضن الصخور؛ ليضيء الكاتب على قضيّتين جوهريّتين؛ زواج الفتاة بسنّ صغيرة من رجل يكبرها بالكثير، فتلجأ إلى غيره مثل لجوء علياء إلى رام لتلبية رغباتها ولتشعر بالاهتمام والحبّ، فالاهتمام هو القضيّة الثانية؛ لأنّ الإهمال يدفع الشريك في كثير من الأحيان إلى البحث عنه في غير العلاقة الزوجيّة، خاصّة عندما يكون الشريك فارغًا من العاطفة مثل والد رام.

مثّلت شخصيّة رام المجتمع الذكوريّ؛ مجتمعًا يُظهر الجمال والكمال والمثاليّة، بينما يمتلك عقلًا متخلّفًا موبوءًا، شهوانيًّا، يمارس الرذيلة بقوالبه، ويحقن نقصه في المرأة الضعيفة الّتي لا تفكّر.

مريد، صديق رام المقرّب، يكره النساء، لكنّه في نفس الوقت كان على علاقة، ولمدّة سنتين، بـبان شقيقة رام دون علمه، فقتله رام في غرفته السرّيّة عقابًا له على فعلته هذه. يمثّل مريد نظرة المجتمع الملوّثة للمرأة، وأنّها لا تصلح لشيء إلّا للإنجاب؛ فهو يريد امرأة تقتنع بأنّ عقلها قد شُمِّع. كما لا تخلو شخصيّة مريد من نوع من المعارضة لواقع المرأة الّذي لم تكن بريئة منه، فيرى أنّها تفتعل المسكنة بحجّة الضعف والاضطهاد لتصل إلى ما تريد، فتستخدم هذا الأسلوب، وترسّخ فكرة ضعفها لكي تصل إلى مرادها، بدل استخدام عقلها.

أمّا ماريا، فهي فنّانة تشكيليّة، نحّاتة، عشرينيّة، ترمي بالحزن في الطين، كانت ضحيّة من ضحايا رام، بسبب ضعفها واستسلامها له. كذلك ليلى أزهر، طبيبة الأسنان، كانت أيضًا من ضحاياه، وتفتقر إلى العمق، على حدّ تعبيره. وتشرين، المخرجة الّتي تمثّل المرأة الواعية، هزمته مرّتين؛ المرّة الأولى عندما علّق لها عاطفته عارية على عيونه؛ لتقضمها متى تشاء، بعد أن كان الطريق الوعر، لا امرأة يمكن أن تدخلها دون أن تتكسّر، والمرّة الثانية هي أنّها امرأة مختلفة ليست ماء سبيل في درب من يعاني من العطش، لكنّها تقطر النقطة في قلبه فتُسبّب احتراقه.

 

بين عين القلب والارتقاء

لم يتوقّف معروف خلال سرده عن تسريد رؤيته وفلسفته عبر ما ينسجه مع خيوط حبكته الروائيّة؛ فتطرّق إلى فكرة الحدس النابعة من القلب، حيث خصّص رام على يسار الصدر عينًا لكلّ منحوتة هي عين القلب، هي "تلك الّتي يمتلكها القلب فقط، هي الّتي تمتلك الرؤية، وتغزو الأفكار العاديّة..." (ص 16). الحدس الّذي يعتبره برغسون منهجًا للتفكير، والّذي يحدّده ديكارت بأنّه المعرفة المباشرة الّتي لا تحتاج إلى برهان، لأنّ الفكرة الحدسيّة واضحة بذاتها بدون برهان. ويرى ديكارت أيضًا أنّه لو بدأنا في الفلسفة بمجموعة من الأفكار الحدسيّة لكان ذلك أساسًا متينًا لإقامة المعرفة اليقينيّة.

كما نجده يتطرّق إلى فكرة الارتقاء والسعي إلى التغيير؛ من خلال حديثه عن النحت من الداخل (نحت الذات)، هذا النحت الأخطر والأصعب.

"لقد قتلتهم رتابتهم من قبل، لقد كانوا أناسًا عاديّين"، (ص 128). أوّل ما يراود ذهن القارئ عند قراءة هذه العبارة، أنّها دعوة إلى قتل كلّ إنسان عاديّ، بينما يسعى الكاتب من خلالها إلى استنهاض الإنسان وحثّه على التغيير، وهنا نجد تفاعلًا نصّيًّا مع فكرة الإنسان المتفوّق الّذي تنبّأ به نيتشه، هذا الإنسان الّذي يختلف عن الإنسان العاديّ "فما الإنسان العاديّ إلّا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوّق عليه؟".

مثّلت شخصيّة رام المجتمع الذكوريّ؛ مجتمعًا يُظهر الجمال والكمال والمثاليّة، بينما يمتلك عقلًا متخلّفًا موبوءًا، شهوانيًّا...

ففكرة النحت الّتي يسعى إليها الكاتب هي نحت الذات لكي تنجز بشكل أفضل، يقول: "... كم نثرت من جزيئاتي الخاصّة ليصدر منّي ما يتفوّق على تركيبتي!"، (ص 16). هو ضدّ الرتابة، الّتي تجعل من الإنسان عالة على المجتمع، وهدفه الأسمى توجيه الإنسان إلى استعمال الملَكة الّتي مُيِّز بها من سائر المخلوقات، وهي ملَكة العقل؛ فالعقل هو الحياة الّتي تجترح نفسها في الحياة.

 

المكان بين الواقع والوهم

تُظهر خارطة الأمكنة في رواية «إزميل رام» أنّها بغالبيّتها ذات مرجعيّة واقعيّة، غزّة و«المعهد الفرنسيّ» فيها، الشاطئ وشارع الرشيد حيث «جاليري تشرين». وثمّة إيطاليا الّتي استطاع السفر إليها، وزيارته للمعبد الرومانيّ. فكما أشار حسن البحراوي إلى أنّ المكان لا يمكنه أن يقوم بمعزل عن تجربة الإنسان، أو خارج الحدود الّتي رسمها له، ثمّ إنّ المكان الّذي ينجذب نحوه الخيال، لا يمكن أن يكون مكانًا لامباليًا ذا أبعاد هندسيّة فحسب، وإنّما هو تكثيف للوجود، على حدّ تعبير باشلار.

نجد في تمثيل المكان الروائيّ، من خلال زاوية الرؤية، أنّ الحدث مرتبط بوجود الشخصيّة في المكان، وهذا ما نلحظه عندما قدّم الكاتب المكان إلينا في رواية «إزميل رام»؛ انطلاقًا من حضور الشخصيّات فيه، واختراقها له. ينظر الراوي إلى «جاليري تشرين» من زاوية مختلفة عند ذهابه إليه. تحدّث عن نسبة الجمال في الداخل، وكيف يحفّز المارّين على تأمّل المكان. هو الغريب الّذي يرى أنّ الأماكن مثل النساء، لكلّ مكان دهشته وخيبته؛ فالمكان قُدِّم إلينا ممزوجًا بالحالة الشعوريّة الّتي يعيشها، وهي دهشته الدائمة بالأماكن، دهشة توازي دهشته بأجمل امرأة قابلها، وهو الّذي يسعى خلف الأشياء كأنّها وجبته اليوميّة ليبقى على قيد الدهشة؛ فالإنسان له دور مهمّ في نقل المكان من الإطار الهامشيّ إلى إطار الأحداث، فيأخذ دورًا بنيويًّا فاعلًا، والمكان في رواية «إزميل رام» كان له دور فاعل في تجسيد رؤية الكاتب، وفي إظهار ما يختلج في قلبه ويعبّر عن ذاته.

 

رؤية مرتبطة بهموم الذات

ويقول عن «المعهد الفرنسيّ» الّذي أقام العرض فيه: "بمجرّد أن أدخل أرض «المعهد الفرنسيّ» في غزّة، أشعر بأنّي سافرت خارجها ..." (ص 14).

إنّ هذا المعهد بمكنوناته، كما رآها الراوي، لا تبدو حياديّة في رؤيته؛ فهو ينظر إليها مقرونة برغبة دفينة في السفر، هذه الرغبة المرتبطة بحبّه للسفر، وبمنعه منه، وفقدان الأمل في حصوله؛ لذلك فإنّها رؤية مرتبطة بالهموم الّتي تسكن الشخصيّة، وخاصّة في ظلّ ما يشهده قطاع غزّة من إغلاق لـ ’معبر رفح‘ على الحدود المصريّة من قِبَل الاستعمار الصهيونيّ، وكذلك القيود المفروضة على السفر على ’معبر إيرز‘ شمال غزّة.  ففكرة السفر ومنعه هي من الهموم الّتي يعانيها ليس فقط رام الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية، بل هي همّ  مشترك بين أهالي غزّة.

في مقال لمعروف نُشِر في موقع «رصيف 22» في 10 تشرين الأوّل (أكتوبر)  2022، بعنوان «عن السفر الممنوع... ها أنا أتحدّث معكم من زنزانتي الواسعة»، قال: "أشعر مثل الكثيرين من أهل غزّة، وفي بعض الأوقات، بأنّ رفاهيّة السفر قريبة، لكن يراودني في نفس الوقت شعور الرجل الكهل بملابسه الرثّة، ولحيته الطويلة البيضاء، يحاول المضيّ نحو شبابه من جديد، لكنّه مقيّد بسلاسل ثقيلة في قدميه. أنا الشابّ الّذي تركته فكرة السفر كهلًا". وعلى الرغم من صعوبة السفر في الواقع في غزّة، إلّا أنّ الكاتب جعلها ممكنة في الرواية، وحقّق رغبته في سفره إلى إيطاليا.

 

الزمن الروائيّ انطلاقًا من أزمة ذاتيّة وجوديّة

افتتح الكاتب روايته بزمن نفسيّ بامتياز، يخصّ هذه الذات (ذات رام)، وهذه البداية تدلّ على أزمة ذاتيّة نفسيّة؛ فنقطة بدء السرد كانت لحظة استيقاظ رام، اللحظة الّتي لا يصدّق فيها أنّه عائد إلى الحياة؛ لنجده عبر تقنيّة المناجاة الّتي تقاطعت مع الحلم، والّتي عادة ما يقوم التفكير من خلالها بصوت عالٍ على إهمال الحوادث، في سبيل إضاءة داخليّة للشخصيّة كما أشار عبد المجيد زراقط، وعندما تتقاطع مع غيرها من التقنيّات في الذات، تتقاطع لتخدم الحاضر وتفسّره وتضيئه. كما تدلّ على انقطاع هذه الذات الّتي امتلأت بالقاذورات على حدّ تعبيره عن العالم الخارجيّ، والعودة إلى ذاته، وغرقه التامّ في مشكلاته الوجوديّة والحياتيّة، يقول: "لا أعرف لماذا تحديدًا تأتيني هذه الأفكار بمجرّد صحوي من النوم، لربّما كنت أركب قطارًا في الحلم، وتعرّضت لكمّيّة غير قليلة من الهواء الملوّث...".

كان يسترجع عبر تقنيّة ’الفلاش باك‘ حكايات من طفولته مع أمّه، مثل حديثه معها عن الموت، ومع زوجة والده علياء الّتي اعترفت له بحبّها في لحظة ضعف. وبعض المواقف الّتي أثّرت في طفولته، مثل منع والده الرجل الغيور والمعقَّد أمّه الخروج من المنزل، وهي المرأة الشغوف بالحياة.

 

حقيقة صادمة ونهاية ديستوبيّة

تنتهي الرواية باكتشاف حقيقة رام على يد تشرين بعد عودته من سفره؛ إذ لاحظ اختفاء الشعر الّذي اقتصّه من أجساد النساء، المحتفظ به في السقيفة، ارتعب وتملّكه الخوف؛ ليجد بعد ذلك تشرين في المكان المظلم الّذي اعتمده في جنونه؛ فيختتم معروف عمله بروايتين: الأولى بصوت رام الّذي قتل تشرين بعد أن استطاع السيطرة عليها، بعد أن ضُرِب رأسها بشيء حادّ في العتمة، فتملّكها وأفرغ شهوته فيها، ثمّ شقّ جمجمتها وأخذ عقلها ووضعه لتمثاله الأمثل.

على الرغم من صعوبة السفر في الواقع في غزّة، إلّا أنّ الكاتب جعلها ممكنة في الرواية، وحقّق رغبته في سفره إلى إيطاليا...

الرواية الثانية بصوت تشرين، فيُقْتَل على يدها لتكتمل المنحوتة ’الأجمل‘ في عقله هو؛ لنجد الكاتب من خلال هذه السرديّة الغرائبيّة السوداويّة، ومن خلال الأسئلة الوجوديّة والفلسفيّة الّتي طرحها يعرّي الواقع، ويكشف عن أحد أسباب غرق المجتمعات العربيّة، وهو أنّ المرأة الّتي تمثّل نصفه تعيش بلا شخصيّة ضعيفة مهمَّشة، ساعيًا إلى استنهاضها وإيقاظها من سباتها، مشيرًا إلى أنّ الطريق إلى التحرّر، والتخلّص من المخلّفات العالقة في عقولنا، هو بالرجوع إلى أنفسنا أوّلًا، وبإعادة نحتنا لذواتنا لنحصل على ذوات تتفوّق على ذواتنا القديمة.

 


 

أماني فارس أبو مرّة 

 

 

 

باحثة دكتوراه في «اللغة العربيّة وآدابها» في «الجامعة الإسلاميّة» في لبنان. كتبت في العديد من المجلّات والمنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

التعليقات