04/02/2023 - 16:50

«قدر الغرف المقبضة»... جماليّة انقباض المكان

«قدر الغرف المقبضة»... جماليّة انقباض المكان

رواية «قدر الغرف المقبضة» (20216) للكاتب المصريّ عبد الحكيم قاسم

 

لا تقف جماليّة المكان عند استخدامه جزءًا من العمل الأدبيّ بل تمتدّ، لكون المكان عاملًا ومؤثّرًا داخل النصّ، لا فقط قالبًا يحدث فيه النصّ. عليه، من الصعب للغاية قصر المكان الأدبيّ في طبقة واحدة - أي قالب للأحداث لا غير - بل يمكن أن يتفاعل ويشكّل طبقاته الخاصّة من الجماليّة والأدبيّة؛ فإنّ تفلسف المكان يجعلنا نتساءل عنه في العمل الأدبيّ وماهيّة طبقاته، سواء في الأماكن المفتوحة أو المغلقة. وحتّى خلال السرد نفسه، خاصّة إن عُومِل المكان في السرد على أنّه البطل، كما في رواية «قدر الغرف المقبضة» (20216) للكاتب المصريّ عبد الحكيم قاسم، الّتي تتحدّث عن تفلسف المكان داخل نفسه وداخل عبد العزيز، البطل الآخر للرواية؛ فيصبح المكان في الرواية بطلًا أساسيًّا يحمل من جماليّته ما يثير التأويل والتبحّر في التأمّل، عبر تناول جماليّة المكان كلًّا ومجزَّأ، مثل جماليّة الغرف وفعل الانقباض على سبيل المثال. 

 

فعل اللغة في المكان

قدّم صلاح صالح في كتابه «قضايا المكان الروائيّ في الأدب المعاصر» ارتباط كلمة ’المكان‘ باللغة العربيّة، بفعل الكينونة كان، ارتباطًا لم تعرفه معظم اللغات الغربيّة، ومن بينها الإنجليزيّة والفرنسيّة. ورأى أنّ ذلك يزوّد الاستخدام العربيّ لهذه المفردة بشحنات دلاليّة إضافيّة في الاتّجاهين الذهنيّ والفلسفيّ[1]، إذ يخلق تصوّرًا لطبقات المكان وخصوصيّتها في اللغة العربيّة، حتّى مع ما ذُكِر في أدب الخطط عند المقريزيّ، وصولًا إلى تأويلات المكان في الأدب المعاصر، عبر خلق أفق للمكان يتعدّى كونه قالبًا، بل يفسح أمامه المجال ليفكّر داخل نفسه وداخل النصّ. ويتفاعل لاحقًا مع الشخوص والسرد، وبعدها مع القارئ.

عمليّة استنطاق المكان داخل النصّ لها علاقة بالكينونة لا بالإجبار؛ فينساب المكان في تلقائيّته ومخيّلته إلى مخيّلة القارئ وتفاعلاته معه، عبر ما كوّنه عن المكان في حياته...

لا يمرّ المكان بمراحل هادئة داخل النصّ الأدبيّ، بل بحركة مستمرّة من التأثير والتفاعل. ثمّ إنّ عمليّة استنطاق المكان داخل النصّ لها علاقة بالكينونة لا بالإجبار؛ فينساب المكان في تلقائيّته ومخيّلته إلى مخيّلة القارئ وتفاعلاته معه، عبر ما كوّنه عن المكان في حياته. ومن هنا تظهر عمليّات التأويل، وتعدّد قراءات المكان داخل العمل الأدبيّ؛ وبالتالي استنطاقه بشكل مرن وعفويّ، وهذا ما يقوده بشكل ما إلى شعريّته وأدبيّته؛ فتفاعلاته العفويّة والخفيفة بينه وبين نفسه، وبينه وبين الشخوص والقارئ لهي من أفعال التفكير داخل النصّ نفسه، الّذي من شأنه أن يثير فردانيّة المكان مكوّنًا من مكوّنات النصّ، على ألّا يُقْرَأ منفصلًا عن النصّ؛ فالمكان لا يعيش منعزلًا عن باقي عناصر السرد، بل يدخل في علاقات متعدّدة مع المكوّنات الحكائيّة الأخرى[2]، مثل الشخوص والحدث؛ فكما في رواية «قدر الغرف المقبضة» يحضر المكان بطلًا مركزيًّا في الرواية.

هذا التداخل الّذي تحمله الرواية يخلق حالة من الانصهار داخل النصّ الروائيّ، من أجل الوصول إلى شعور مشترك تفاعليّ ما بين الشخوص المختلفة والقرّاء[3]، ما يخلق بُعدًا أعمق في جماليّة المكان وشعريّته؛ فلا يعيش القارئ منفصلًا عن المكان، بل يعيش داخله وفي مخيّلته المتشابكة مع مخيّلة المكان داخل النصّ، وهذا التشابك مع المكان، داخل النصّ وداخل ذهن القارئ، هو عمليّة لاستلهام المقروء، وتحويله إلى مرئيّ في ذهن القارئ ومخيّلته. وهذا ما يضيف إلى جماليّة المكان واندماجه في ذهن القارئ؛ بحيث يصبح لدى القارئ القدرة على تتبّع المكان داخل النصّ وداخل روحه، كأنّ المكان لديه روح وذاكرة. وبذلك يصبح كائنًا مؤنسنًا، ويسهل تأويله والتعمّق به.

ما يقوّي هذا التشابك ارتباط كلمتَي ’المكان‘ و’كان‘ لسانيًّا بنفس الجذر اللغويّ؛ إذ إنّه يفتح الآفاق إلى أبعد ما ذهب إليه صالح؛ فإن اعتبرنا لسانيًّا أنّ كلمة ’مكان‘ هي اسم الموضع، أو اسم المكان صرفيًّا من الفعل ’كان‘[4]، تصبح العلاقة بين الكلمتين علاقة أموميّة؛ إذ تصبح ’مكان‘ جزءًا لا يتجزّأ من ’كان‘. وإذا أتبعنا الاشتقاق بكلمة ’كائنة‘ أي الحادثة[5]، فالمكان في اللسان العربيّ مرتكز على ’الحدوث‘ وحاضنته؛ فلا حدوث بلا مكان، ولا مكان ذا وظيفة بلا حدوث[6]. بناء على ما تقدّم؛ يمكن اعتبار أنّ المكان يلعب في نطاق الوجود والعدم. ومحاولة استنطاقه داخل هذا الحيّز هي محاولة لفهمه وللإنصات إليه، والتأمّل في ما يودّ المكان قوله داخل النصّ الأدبيّ، من خلال رحلة تعرُّف المكان وما يخفيه في ثناياه، حيث إنّه يتشكّل في اللغة، وفي فضاء اللغة[7].

فالمكان معطًى سيميوطيقيّ يتغلغل في عمق الكائن الإنسانيّ، وبقدر ما يمتاز به من الوضوح والإدراك الحسّيّ يركن إلى الغموض والمجهول على الصعيد الدلاليّ[8]. ويتلاقى هذا معه لسانيًّا بكونه الموضع الّذي فيه تتموضع الأشياء وتُمارَس؛ فعلاقة المكان بالكائن الإنسانيّ تكون وفق قانون الفعل وردّ الفعل، أي أنّها علاقة متداخلة؛ فبقدر ما يؤثّر المكان في الإنسان فإنّه يتأثّر بالإنسان وفعاليّاته المستمرّة[9]. كما أنّ المكان يتأثّر بنفسه، ولقراءة هذا التأثّر المتعدّد الطبقات، كان لزومًا التطرّق إلى المكان بهيئته المفتوحة، والمغلقة، والمتعدّدة. من هنا، تبدع رحلة التأويل في نحت طبقات من جماليّة المكان، وفقًا لجماليّة الصمت الّتي تكون مرافقة له، وفعل التأمّل فيه. وهذا التأمّل سيكون عبر رحلة من ملاحظة فعل الانقباض وجماليّته في الرواية. إضافة إلى كيفيّة التنقّل بين الأماكن المفتوحة والمغلقة، ورحلته الأخيرة نحو الاستقرار المكانيّ إن وُجِد.

 

فعل الانقباض والجماليّة

حمل المكان في الرواية مركز الحدث والسرد في نفس الوقت. إذ كانت روح المكان طاغية ومتشرّبة في النصّ، بدءًا من السرد المفصّل، وصولًا إلى التأمّل في ثناياه وطبقاته، ولذا؛ تنوَّعَ المكان ما بين اختلاف العتبات وبيت الجدّ وبيت الطفولة والجدران والأثاث، وصولًا إلى المكان في روح عبد العزيز - بطل الرواية – وبحثه الدائم عن الغرفة، وما يمكن أن تطرحه الغرفة مكانًا مغلقًا في روحها، وفي قراءة عبد العزيز لها؛ فكان عبد العزيز دائم البحث عن غرفة أحلامه في البداية الّتي كان يحاول أن يطبّق فيها رؤيته للجمال، من الأثاث الفاخر، والجدران المبيّضة المزركشة، والشرفة المطلّة على الشارع. في حين أنّ ذاكرته عن مكان بيت الطفولة، وانقباضه، وقبحه، كان دائم البحث عنه، ودائم الوجود فيه.

 كانت روح المكان طاغية ومتشرّبة في النصّ، بدءًا من السرد المفصّل، وصولًا إلى التأمّل في ثناياه وطبقاته...

ظهر تتبُّع جماليّة فعل الانقباض في المكان، وتشابكه مع فعل القبح والألفة. وفكرة الانقباض نفسها على أنّها قُبح، وما يجعل القبح قبحًا؟ أهو رفضه أم عتمته؟ وصولًا إلى التحوّل الكبير الّذي شهده المكان، بدءًا من آليّات الحركة في التكوين والإيقاع فيه، والتركيب والتعقيد والتناقض، وتعدّديّة المفردات الخامّ – مثل الحائط العاري ومفرش الجدّة الّذي تقاسم ثمنه الإخوة بعد بيعه على سبيل المثال - وقيم الضوء والظلّ واللون - مثل غرف القبو - إلى جانب شبكة العلاقات بين مفردات المكان –مثل الحارة والحيّ والشارع والسقف والجدار - ومحتواه الدلاليّ[10].

عبر هذا التتبّع والتشابك بين مفردات المكان وإيقاعها داخل النصّ، كان ثمّة رصد للعالم الخارجيّ، المرئيّ، للشخصيّة نفسها – المكان بدلالاته وعبد العزيز - والحدث نفسه[11]. كما أنّ لهذا الرصد إمكانيّة الاتّساع، سواء كان المكان مغلقًا أو مفتوحًا. وأفق الاتّساع هذا يتحقّق عند التعمّق في وصف أدقّ التفاصيل وأعمقها للأمكنة في الرواية[12]. هذه الدقّة في الوصف من شأنها تحديد أبعاد المكان وطبقاته[13]، وتتبّع الانتقال ما بين الأماكن ودرجات انقباضها وعريها من ’الجمال‘. حتّى رحلة عبد العزيز مع المكان، وانتقاله من غرفة إلى أخرى، ومن مصر إلى ألمانيا، وما تضيف إليه هذه الرحلة من حواره مع المكان وتأمّله له، وصولًا إلى عودته لبيت الطفولة بعد أعوام من الانقطاع، وكيف يراه مرّة أخرى أكثر قبحًا بلا استغراب، حيث أَلِفَ قبحه، وازدياده قبحًا لم يُثِر دهشته، بل حسرته فقط.

 

في جماليّة مفردة المقبضة

يُسائِل عنوان الرواية جماليّة المكان وارتباطه بكلٍّ من الغرف والمقبضة. ولِمَ هي غُرف لا غرفة واحدة؟ وفي هذا تأويل نحو رحلة عميقة في الغرف على اختلافها وتشابهها في آن واحد. لا يفطن المكان في البداية أمام نفسه بأنّ هذه الغرف تحمل القبح جينًا وراثيًّا جغرافيًّا، وتمتدّ في الشوارع والحارة، وتتسلّق الحوائط والجدران، مع مراعاتها لحساسيّة الجدار والحائط أمام بعضهما بعضًا، منتقلة لاحقًا للباب ذي المقبضين باستدراكيّة عتبة الشرفة.

"الباب الّذي في الشرفة، المفضي إلى الردهة الكبيرة، كبير من خشب، منحوت عليه رسوم فروع مثمرة مورقة يبدو أنّها كانت جميلة يومًا، لكنّ المطرقتين الحديديّتين على المصراعين كسرت واحدة منهما. ورغم الصدأ ترى الأخرى على هيئة يد رشيقة، تمسك بكرة صغيرة تطرق بها على سندان لطيف"[14].

هنا، يظهر أنّ فعل الوصول من الشرفة إلى الردهة الكبيرة، الّتي كان يفرط عبد العزيز في الإنصات إلى صمتها، كان متعلّقًا بالباب الكبير. وكبر الباب فيه طبقة من المعنى تفيد الاتّساع لا الانغلاق. وكونه منحوتًا بالفروع له تأويل، من الممكن أن يقود إلى تلمّس الحياة السابقة للقبح والانقباض في هذا الباب. خاصّة أنّ هذه الفروع مثمرة ومورقة؛ أي أنّ الحياة ما زال فيها متّسع للتجدّد، رغم القبح الغازي للبيت والحائط المقشّر والصامت، وأثر إطارات الصور المعلّقة عليه بعد تعريته منها.

الباب هنا وعتبته يحملان من الحياة ما يمكن أن يضيفه القدر من علوّ وهبوط. وقد يكون الهبوط متمثّلًا بقبضة الباب المكسورة، وأنّها هي مَنْ أشاعت القبح في البيت بعد كسرها. كأنّ النحس تسلّق من عتبة الشرفة إلى هذه المطرقة فكسرها، وأضاف صدأ إلى الأخرى؛ لكنّها ما زالت رشيقة. وهذه الرشاقة هي محاولات عبد العزيز في البحث في ما وراء القبح، وسبب لجلوسه الطويل في الردهة، ولانفصاله لأوّل مرّة بغرفة على السطح، وكشف الحارة ودهاليز بيوتها المتلاصقة من السطح.

هنا، ومن هذه القبضة الّتي تمسكها بفعل قبض، وبفعل انقباض لتفتح الباب على مصراعيه، كان ثمّة سماح للقبح بالتسلّل، ومن ثَمّ بالتفشّي داخل البيت، ليكون قدرًا للعتبة وللغرفة وما مسّها من فعل الانقباض والجدران العارية والمتآكلة. بذلك يشكّل كلٌّ من الغرف والمقبضة والقدر في جملة واحدة شعورًا بأنّ المكان ينقبض على نفسه وعلى قاطنيه؛ أي يمسكهم ويتنقّل معهم أينما ارتحلوا، ويحمل حزنهم وحزنه؛ فالبيوت تعيش معنا طوال حياتنا[15]، خاصّة لو كانت بيت الطفولة، حيث يُعَدّ جذر المكان[16].

كلّما ابتعدنا عن بيت الطفولة حلّت ذكراه، واستشعرنا بالأمان والراحة باستحضاره في كلّ شيء حولنا، ففيه تمارس الشخصيّة طقس ألفتها...

عليه؛ فكلّما ابتعدنا عن بيت الطفولة حلّت ذكراه، واستشعرنا بالأمان والراحة باستحضاره في كلّ شيء حولنا[17]؛ ففيه تمارس الشخصيّة طقس ألفتها - حيث كان عبد العزيز يتآلف مع البيت، بعد انتقاله من بيت الجدّ الكبير إلى بيته هو مع عائلته، وكيف كان ينصت ويحاول أن يفهم البيت وأسراره ولغته - وبالتالي تهيمن بسلطتها على ما يوجد داخله[18]. يمكن رؤية هذا بخلق المساحات المتعدّدة داخل البيت؛ فقام عبد العزيز بخلق مساحته حين صعد إلى السطح باستخدام السلّم، الّذي يأتي بشيء من الأعلى لإنضاج حركة في الأسفل[19]. هذه الحركة كانت انتقال عبد العزيز، بعد إنصاته وألفته للردهة والبيت والغرفة، إلى الصعود إلى غرفة السطح ليألفها ويألف ما تطرحه له؛ وبالتالي هيمن على غرفة السطح، وهيمنت عليه غرفة السطح بشمسها، ونافذتها، وما تقدّمه له من رؤية ماسحة لبيوت الحارة والحيّ والشارع.

من هنا، كان بدء عبد العزيز بالبحث عمّا يشبه بيت طفولته بوعي أو بدون وعي. ورغم تشابه الغرف؛ فإنّ كلّ مشهد جاء مستقلًّا بذاته[20]، معبّرًا عن إخفاق جديد في رحلة البحث عن الأمان، ومصدومًا بطبقات من القبح المتجذّر في الواقع، وما جعله يزيد من تحكيم قبضة الغرف عليه.

 

جماليّة الغرف

الغرف بفردانيّتها وتجريدها متعدّدة؛ فالغرف فيها من التنوّع والخصوبة ما يجعلها كلّ شيء بالنسبة إلى الإنسان خارج الفضاء الأرضيّ المتّسع[21]. بذلك تشكّل عوالم لساكنها ولنفسها على حدّ سواء داخلها وخارجها؛ فهي تمكّن قاطنها من اكتشاف الفضاء الأوسع خارجها، وخلْق فضائهم الداخليّ الآمن الأليف الأموميّ فيها. قد لا يكون من اليسير تتبّع العوالم الّتي تخلقها الغرف؛ فهي تخفي في تكوينها الفكريّ حاجات لا بديل لها، وحاجات تتزايد بتعدّد الحاجات الجديدة، وهذه الحاجات تشكّل طبقات من المعنى والعلاقات المتشابكة داخل الغرفة نفسها. وبهذه العلاقات المتشابكة ترافق الغرف قاطنيها في رحلة لا نهاية لها، ومشبعة بطبقات المكان أمام نفسه وقاطنيه المتغيّرين.

الغرف بفردانيّتها وتجريدها متعدّدة؛ فالغرف فيها من التنوّع والخصوبة ما يجعلها كلّ شيء بالنسبة إلى الإنسان خارج الفضاء الأرضيّ المتّسع...

مثّلت الغرفة في الرواية مجالًا سرديًّا محرّكًا للأحداث، وقامت بعمليّة الربط ما بين الأحداث والشخصيّات بصورة بانوراميّة ممتدّة لطبيعة تلك الغرف، فيمكن اعتبار الغرفة بطلًا حقيقيًّا تمكّن من مسرحة المكان، واستيعاب تفاعل الشخصيّات داخله بشكل تبادليّ ومتشابك. إذ يمكن اعتبار الغرفة غطاء للإنسان يدخلها فيخلع جزءًا من ملابسه، ويدخلها ليرتدي جزءًا آخر، وعندما يألفها يتحرّك بحرّيّة أكثر، وإذا ما اطمأنّ بدأ بالتعرّي فيها، أي التعرّي الجسديّ والفكريّ، لكنّه عندما يخرج منها يعيد تماسكه، ويبدو كما لو أنّه خرج من تحت غطاء خاصّ[22]. بذلك أتاحت الغرفة رحلة التفكير والنضج، وتتبّع التكوين النفسيّ والإنسانيّ لعبد العزيز والشخصيّات الأخرى. حتّى لو كان هذا النضج ضمنيًّا، ويحوم في السوداويّة والقبح. 

كما أنّ الغرف، على تعدّد ذكرها وسردها، حملت تنوّعًا إيجابيًّا وسلبيًّا على حدّ سواء. لكنّ السمة السائدة هي لفعل القبض، أي الغرف بتأثيرها السلبيّ القابض على ساكنيها، على الرغم من تنوّع الغرف جغرافيًّا ما بين القبو والسطوح. ولكثرة ترحال عبد العزيز بين هذه الغرف، أصبحت محطّات عبور في حياته، وفي حياة الغرف نفسها، بشكل مكثّف. إضافة إلى تنامي الشعور بالقهر حين الانتقال من غرفة إلى أخرى. هذا الشعور شكّل لدى عبد العزيز معاناة بصريّة في ما يشاهد أمامه، وروحيّة في ما تعكس هذه الذاكرة البصريّة فيه.

في ذلك يقول عبد الوهاب: "يطلّ البطل على عالم من الحيطان الكالحة، والأثاث الرثّ، والبيوت المتداعية، والأزقّة المعتمة، والحجرات المتناثرة على أسطح العمارات؛ عالم تنطق حجراته الضيّقة وقذارة مراحيضه ونتانة شوارعه بمستويات متراكمة من بؤس يخيّم رازحًا"[23]. بالتالي، انقباض النسق المكانيّ في الرواية يقهر روح الأمل، رغم وجوده الضئيل المتمثّل في محاولات عبد العزيز وترحاله، ما أضاف إليه من شعور الاغتراب في علاقاته بالمجتمع. وحتّى حين زار ألمانيا كان عقله ممتلئًا بالخوف، وكان يبحث عن ليالٍ قاهريّة كما ذكرت في السرد؛ فكان يبحث عن المكان ليقلّ اغترابه النفسيّ في المكان الجديد، ممّا جعله يلجأ إلى الغرفة، ويخلق فيها عالمه الهامشيّ، خاصّة في المناطق الراقية - اقتصاديًّا - الّتي عاش فيها؛ إذ إنّ هذا ضاعف شعوره بعدم انتمائه إلى هذا المكان، وأنّ غرفة السطح المتروكة لمستأجر فقير، وتطلّ على ميسوري الحال، أكّد له شعوره بالتهميش وبرفض الآخر له. هنا، أحكمت الغرفة قبضتها عليه، وأثارت جوًّا بالخواء ورعبًا حاوط عبد العزيز بنسيان هويّته وإنسانيّته.

انقباض النسق المكانيّ في الرواية يقهر روح الأمل، رغم وجوده الضئيل المتمثّل في محاولات عبد العزيز وترحاله، ما أضاف إليه من شعور الاغتراب في علاقاته بالمجتمع...

اشتركت غالبيّة الغرف في نسقيّة مكانيّة متقاربة، مثل انعزال الغرف ما بين غرف القبو والسطوح، فمن السطوح من الممكن أن ينظر بشكل مسحيّ إلى أغلب الحيّ من فوق. بذلك؛ لا يستطيع قراءة المدينة بشكل فاحص ومتمكّن من السطح، لكنّه يتمكّن من معرفة الملامح العامّة لها، مثل رؤية جيرانه الطليان على سبيل المثال، بينما في القبو لم يكن متمكّنًا من رؤية السطح ولا الأدوار العليا، فكأنّما كانت رؤيته ذات بُعد واحد وما على مدى النظر. هنا كانت رؤية القبح متعمّقة ومتجذّرة بروح عبد العزيز، وروح المكان نفسه؛ وبذلك يثير التأمّل في هندسة العمران أثناء ممارسة فعل المشي في الشارع، والانتباه إلى أنّ أغلب الأماكن - مثل حيّ الغربال - تتشارك في كونها رثّة ومتهالكة وغير صالحة للحياة الإنسانيّة؛ وبذلك تستهدف ألفة عبد العزيز وإنسانيّته وقدرته على الحلم.

في هذا يُظهر عبد العزيز تذمّره ورفضه المبطَّن لهذا القبح بصوت الراوي العالم: "قد تكون الحياة رديئة، لكن أن يكون ثمّة أيضًا العجز عن الحلم، إنّ ذلك يكون كثيرًا، يكون كثيرًا جدًّا"[24]. وفي تكرار ’كثيرًا جدًّا‘ مدعاة إلى التفكير في جماليّة الرفض للقبح نفسها، ردَّ فعل على توغّله في المكان ومكوّناته المختلفة، ما بين الشارع والبيوت والغرف والحيّ والحارة، وغيرها من المشاهد. ثمّ إنّ الرفض كان صريحًا في الزنزانة، لكنّه ما زال متضمّنًا بسرد الراوي العالم، لا إقرارًا من عبد العزيز نفسه: "هل كان يعرف المصير؟ بالقطع لم يكن يعرفه، أو كان تصوّره عنه ليس بشعًا إلى هذا الحدّ، لكن لو أنّه عرفه؟ القضيّة هي قبح المساكن، وأنّ الواحد يُلْقَى من حفرة إلى حفرة، وأنّه يهان، وأنّ كلّ حسّ فيه بالجمال لا يُحْترَم، إلى درجة تهدّد بفقدانه لوعيه وإحساسه بذاته إنسانًا، عندئذٍ، لا بدّ من أن يقول لا؛ ليس بسالة ولا نبلًا ولا عشقًا للمخاطرة، بل هو التأوّه الإنسانيّ الطبيعيّ من وقع الإهانة، تأوّه لم يكن من الممكن كتمانه... لم يكن من الممكن كتمانه"[25].

تمكّن عبد الحكيم قاسم في روايته من أن يتّخذ ترحال عبد العزيز مع المكان مثالًا لجماليّة المكان، بكلّ أبعاده ومكوّناته، وتأكيد إمكانيّة كون المكان بطلًا أساسيًّا في العمل الأدبيّ؛ أي فاعلًا لا مفعولًا به فقط، وتحوّلات هذه الرحلة، وكيف يمكنها أن تخلق ديناميكيّة المكان وتفاعلاته مع نفسه ومع الشخصيّة، والموجودات في المكان نفسه؛ فالمكان ليس مقتصرًا على شيء واحد أو حتّى معنًى واحد، بل هو متعمّق ومتجذّر في فلسفة المشي فيه وتأمّله، فحتّى القاطن في المكان هو عابر، تمامًا مثل عبد العزيز.

 


إحالات

[1] صلاح صالح، قضايا المكان الروائيّ في الأدب المعاصر، (القاهرة، شرقيّات، 1997)، ص11.

[2] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائيّ: الفضاء – الزمن - الشخصيّة، (بيروت، المركز الثقافيّ العربيّ، 1990)، ص26.

[3] رولان بونوروف، ريال أوئيليه، ترجمة: نهاد التكرلي، عالم الرواية (بغداد، دار الشؤون العامّة، 1990)، ص18.

[4] ابن منظور، لسان العرب، مادّة: مكن، (القاهرة، دار المعارف، 2007)، ص4249.

[5] مرجع سابق، في مدار النقد الأدبيّ: الثقافة – المكان - القصّة، ص52.

[6] مرجع سابق، ص52.

[7] خالد حسين حسين، جماليّة المكان في الرواية الجديدة: الخطاب الروائيّ لإدوار الخراط نموذجًا، (الرياض، مؤسّسة اليمامة الصحفيّة، 2000)، ص78.

[8] مرجع سابق، في مدار النقد الأدبيّ: الثقافة – المكان - القصّة، ص47.

[9] مرجع سابق، جماليّة المكان في الرواية الجديدة: الخطاب الروائيّ لإدوار الخراط نموذجًا، ص 60.

[10] كريم رشيد، المكان ... الفضاء ... الحيّز، (مجلّة عمان الثقافيّة، العدد 43، 1999)، ص 10.

[11] محمّد ذنون الصائغ، ثنائيّة المكان - الاغتراب في أدب الرواقصصيّ يحيى الطاهر عبد الله، (الشارقة، دار الثقافة والإعلام، 2004)، ص 74.

[12] مرجع سابق، ص 74.

[13] محمّد شوابكة، دلالة المكان في مدن الملح لعبد الرحمن منيف، (مجلّة أبحاث اليرموك، المجلّد 9، العدد 2، 1991) ص 36.

[14] عبد الحكيم قاسم، قدر الغرف المقبضة، (القاهرة، دار الشروق، 2016)، ص 8.

[15] غاستون باشيلار، جماليّات المكان، (بيروت، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، 1984، ط2)، ص 37-38.

[16] مرجع سابق، ص 6.

[17] طارق مختار سعد، نسقيّة المكان بين مواجهة القبح وتشظّي الذات: قراءة في روايتَي العدو لجيمس دروت، وقدر الغرف المقبضة لعبد الحكيم قاسم، مجلّة الدراسات العربيّة، المجلّد 38، العدد 1، 2018، ص 203.

[18] صدوق نور الدين، البداية في النصّ الروائيّ، (سوريا، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1994)، ص 52.

[19] ياسين النصير، الرواية والمكان: دراسة في المكان الروائيّ، (دمشق، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، 2010)، ص 108.

[20] مرجع سابق، ص 206.

[21] مرجع سابق، ص 94.

[22] مرجع سابق، ص 95.

[23] محمود عبد الوهاب، دراسة: قراءة في روايات عبد الحكيم قاسم، مجلّة أدب ونقد، العدد 11، فبراير 1985) ص72.

[24] مرجع سابق، قدر الغرف المقبضة، ص63.

[25]  مرجع سابق، ص89.

 


 

منى المصدر

 

 

 

شاعرة وكاتبة فلسطينيّة تعيش في قطاع غزّة، صدر لها عن دار الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (2020)، «أعدّ خطاي» عن «دار فضاءات» (2017). 

التعليقات