21/05/2023 - 10:58

مظفّر النواب وسغب العراق

مظفّر النواب وسغب العراق

مظفّر النوّاب (1934 - 2022)

 

لن أكتب هذه المرّة عن الموت. سأكتب بدلًا من الموت عنه. إنّ الموت مشغول هذه المرّة بالعضّ على غريزته الّتي تحطّبها الفجيعة نارًا لرثاء ضروريّ، مثل تحيّة الصباح.

لسنا هذه المرّة - وكم مرّة ستختنق الجمل ’بهذه المرّة‘ قبل أن تضمّ أرض السواد ميمها - أمــام موت استثنائيّ، فالموت هو الموت على سرير أو تحت الركام. لكنّنا أمام استثناء، شاعر اسمه مظفّر النوّاب.

اعتاد حصان الشاعر أن يقف في مقدّمة المنجز الشعريّ: على يمينه خبب يصهل فوقه مجازه، وعلى يساره الرويّ الّذي يُنْزِل البحر إلى الأرض.

لكنّه مظفّر النوّاب الّذي يعيش في مخيّلتنا ولا يعرّفه الواقع. كم مرّة ستتوب مهارتي عن صياغة رثاء جدير بالمديح؟ كم مرّة ستبتدع عبارتي تورية تواري دمعًا يمرّغ أنفه في المحبرة؛ ليصير كلمة تحاول أن تليق برحيل يثغو كلّما مرّ قطن الأبديّة حاملًا الروح؛ روح الشاعر الّذي تبنّى هزائمنا، وأعدّ لنا قهوة الانتصار القادم؟

 

الحامل اللغويّ الخرافيّ 

ليس من باب المصادفة أن يفيض الجاهليّ بشبق الرثاء. إنّه أسلوبنا منذ أقدم نصّ في إعلان جدارتنا بحياة أفضل. تلك الشهوة الّتي تحفّزها حوافر الفقد. غير أنّه حظّنا السيّئ الّذي يجعل الشعر وليمة الموت دائمًا.

خسرنا بموت مظفّر النوّاب حاملًا لغويًّا خرافيًّا، يستشرف الهزائم العربيّة القادمة، فيعصر منها رذاذ ماء كنّا نرشّه على صورة الشهيد الجديد في مخيّلتنا، الّتي ألفت تزامن فكرة الحتميّة التاريخيّة مع فكرة العطاء المحموم.

وربح مظفّر النوّاب بموته ليلًا نقيًّا من القنوط والسواد. آثر أن يعيش بعيدًا وحيدًا إلّا من صوته الّذي يفد علينا مثل الوحي، وآثر أن يموت هادئًا مثل نبتة شقائق نعمان انبتّت على غير هدًى، في مقبّلات وصف ’الرحلة والراحلة‘، على ظهر معلّقة سلمت من لسان الخليلين، ومن يد القبيلة. تلك نبوءة الشعراء وقدرتهم الخارقة على جعل الأسطورة تمشي على اثنين، حين يُمْشى به لآخر مرّة على أربع.

وها هو الشعر يعاقبنا، ينقّي شيطان الشعر؛ إذ يرابط على الأرض ولا يصاحب الروح؛ فكيف يعرّج إلى السماء وقد خُلِقَ من نار، وخُلِقَت من طين؟ ما أنبل هذه المأساة الّتي تجعلنا ضحايا دائمين بسخاء.

ينقّي الشوك من الدمع، ويهرّب وصيّة الشاعر؛ إذ ينفخ بها في أفئدة الورثة. ومَنْ ورثة شاعر عاش الهامش على نفقة استعارته؟ سيضطرّنا هذا الغياب إلى التعثّر بجمل اعتراضيّة كثيرة، فذلك كلّ ما تبقّى لنا كي نواري مخارج الحروف، الّتي تشهق كلّما دنت القيامة من أحلامنا ومن موتانا.

يعاقبنا الشعر بعد هذا الموت؛ فيسمح للفيل أن يدكّ آخر ملاحم الإغريق الّتي تغذّي نزعة البقاء فينا. أيّ غياب يذكّي رغبة الشعر في العقاب، ويصرفه من جماليّة القول إلى جبروت الفعل؟

إنّه حقيقة موت استثنائيّ مرّ؛ لأنّه جاء يذكّرنا بما لم ننله يومًا، وبما خسرنا إلى الأبد. مَنْ علّم الشاعر أن يكون إلهًا؟ ومَنْ علّم الشعر أن يعرك السماء فوق رؤوسنا؟

 

الفرديّ فينا 

صبّ هذا الموت الأخير، فالشعراء يموتون مرّات كلّما تعطّشت الخيبات إلى هزائم أكثر فداحة، لعنته على الفرديّ فينا قبل أن يهيج طروادة على المؤلّف الجماعيّ لذاكرتنا. بَقَر الخبر عنب الكروم. نمنا مطمئنّين إلى فاعليّة الفزّاعة في طرد مناقير العصافير السغبة، ولم يَصْبُ بنا خيالنا إلى أنّ الشاعر أولى بدمع العنب من جرّة العيد. مسخنا هذا الموت واحدًا واحدًا، ورحى أحزاننا الّتي خلنا أنّها هدأت أو أَفُلَت. ها هو موت شاعر بحجم مجرّة، يحيل خيبتي إلى شاعر صدّق أنّه وريث جرّة الشعر، وأنّني لا أعدو أن أكون أكثر من "علّة" شعريّة ضروريّة للتقطيع، وقليلة المعنى، مثل ’مكنسة الغبار‘، على حدّ تعبير شاعر آخر نفق في سرمد آخر.

الفرديّ فينا يعني في ما يعني ما آمنّا به، وما لن نمسّه مثل السراب: كأن يحكّ رحيل هذا الشاعر فيك رغبة النشيج على غزالة، طمعت في أن تجد مرادفاتها في لغات تتقنها، ولم تحفل بنظرة واحدة منها، أو بنصّ مدّك بعلامات الولادة، فقتله هولاكو الظروف القاهرة، وعلّق رأسه على سيف جفّ عليه قبل ذلك دم حسن أو حسين.

ربّما يفجّر فيك هذا الرحيل شعور الواله عندما ألقيت بحلمك في اليمّ؛ خشية فرعون معاصر شنق صهوة الأمومة، عندما شمّها حرسه في حليبك النافر من الرغبة في الكمال.

 

شاعر البسيط 

أعاد موت مظفّر النوّاب ترتيب انكساراتنا وقوّمها، صورة عن القصب المنكسر في راحة بحيرة نرسيس. وهو أيضًا شعور بفجيعة جماعيّة. لأنّ عالمًا بلا خرائط يحمل المجهول على قطار بضائع أنهكه السفر، كما أنهكته الدودة الّتي يجرّها الدهر وراء رأسه: يحسّ بثقلها ولا يراها؛ إذ لم يعلّموا الأحصنة أن تلتفت منذ لجموا المدى أمام عينيه.

لا شاعر يكتب عن البسيط الّذي يطهو رغيفنا العاديّ بعد اليوم. لم تُبَشَّر القبيلة بشاعر "تخرّ له الجبابر ساجدينا"، ولم ينفجر وحي من الأرض يبشّر بلسان عربيّ فصيح جديد، أو بديل، أو معادل.

هكذا سنسير منذ مطلع هذا الغياب، مثل قوافل الأسرى، مكبّلين ومكمّمين إلى هزائمنا الجديدة المشنوقة على فوّهات الدبّابات. وهكذا ببساطة الخاسر الّذي يتطلّع إلى ما أضاع الشطرنج منه، سنبصر ركام بيت الحكمة، ينثال صرحًا من خيال في خيط دخان سينفثه الرشيد، أعجميّ الاسم عربيّ الهزيمة.

 

هزيمة الشعر الجماعيّة

إنّها الهزيمة الجماعيّة للشعر، الّتي تعلن حدادها على بحر من الشعر، ينام في حفنة رمل تحت شمس العراق الحارقة. سقطت بموت النوّاب الأندلس بملوكها وطوائفها، والقدس، وبغداد، وبيروت، والشام، وبلاد المغرب، وأحرق المغول مقدّمة ابن خلدون، وتاريخ الطبريّ، ونماذج من الشعر الجاهليّ، وحجر نيرون على قمح النثر، الّذي يونع قصيدة أو متنًا معافًى من التفعيلة حسب الحاجة، وحسب مزاج الشاعر، أو مزاج البحر.

لذا، لذا أعترف أنّني وحدي غير قادرة على حمل هذا النعش، وأنّ لغتي واهنة أمام هول المصاب؛ فلا ضير في مؤازرة شعريّة من أسر لغويّة، هرّبت الحليب وإصبع موسى من لحية فرعون، ولا ضير في أن أعترف بأنّ الشعر وحده، بلا مظفّر، قاصر على إدراك بيان للنعي.

فليأتِ النثر... ولنحثّ الشعر والنثر معًا.

ليس موت النوّاب ما يفجّر صخر الفجيعة، بيد أنّه موت موتانا الّذين ما زلنا نحنّ إليهم، وموت أحلامنا الّتي ما زالت أحصنة العدوّ تمضغها على أرض كانت لنا، وموت حقّنا في الحلم بأرض عادلة كما بقيامة عادلة، وموت رغبتنا في حبّ لا يصوغ تعريفه من شحم النعوت الأنانيّة، الّتي تبشّر بالخيانة دائمًا، وبرغبتنا في رغبة خالية من المعنى المركّب: حرّة على سجيّتها أو غريزتها... رغبة من أجل الرغبة.

هبط موت مظفّر النوّاب على غيابنا المرّ مثل زيت المعصرة البكر. ليست المرّة الأولى الّتي يغتاله الموت، أو اللغط فيها حقيقة، لكنّها المرّة الأولى الّتي يحبو فيها مجازًا إليه.

 

ذاكرة شاعر جمعيّة 

هبط هذا الموت مثل العُقاب على نتف ذاكرتنا الجمعيّة والفرديّة على حدّ السواء؛ ذاكرة أرهقها "نصف الموقف"، وعرّى جذورها برد ’نصف الدفء‘.

أحيا هذا الأفول أمواتًا سقطوا حقيقة في مجاز يومنا، أو فلنقل في استعارة مفتوحة لا تندمل أركانها، كأنّ موته يحملك إلى حنين جارف؛ إلى بيت أمسى بعيدًا، أو صديق "أضحى التنائي بدلًا من تدانيه"، أو جدّة أفلت أقمارها فنفقت أشعارهن أو خيبة الجيوش العربيّة المصروعة في صحراء سيناء.

أعاد النوّاب صياغة سرديّة البسيط في شعره، وأعاد إلى اللاذع والبذيء وقارًا يصعب أن يناله مع شاعر آخر. إنّه البذيء الّذي يشبه واقعنا، ويحدّد الفارق بين الهزيمة والخرافة. واستطاع شعره الكثير أن ينوب طويلًا عن صمتنا الكثيف، وقد نجح صمته الطويل في أن يبعث في الشعر بحورًا وافرة، خلنا أنّها نضبت.

شيّدت ذاكرته الشعريّة حاضرتنا الثقافيّة، وكسر موته جرّة الصمت الّتي تحيط بأصوات داخله، تخفق دون أن يجرؤ أحد على تحسّس جلد تابوتها من الداخل. هناك، حيث بخار العواء ينثال دمعًا. جعل موته آخر تفعيلة تهزّ قلوبنا - وقلبي ضمن هذه النون - لتشجّ الأنفة العالية؛ أنفة تحول دوننا ودون أن نقول مثله للوطن: شرّدتنا ونحبّك. وللحبّ: خسرت ولم نربح شيئًا. ولنصف الموقف: دول عاهرة. وللقدس: لن نستعيد شبرًا واحدًا ما دام العراق سغبًا.

سلامًا على أحياء سيقتلهم البرد ونصف الموقف ’أكثر‘، بدءًا من اليوم. ليس موت النوّاب الاستثناء الوحيد، بل موت ’ظفرنا‘ باستثناء يخون كلّ هزائم الأرض، ويُبْعَثُ من ظلام القمقم حيًّا.

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراه، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة. 

 

 

التعليقات