31/05/2023 - 15:40

أطفال جائعون... العدالة الاجتماعيّة في أدب الفتيان (3/3)

أطفال جائعون... العدالة الاجتماعيّة في أدب الفتيان (3/3)

تصميم : علاء سلامة.

 

بالنسبة إلى الكثيرين منّا، يُعَدّ الطعام أكثر من مجرّد وقود، إنّه مصدر للأمان والطمأنينة الأسريّة والمتعة. يوفّر الطعام مصدرًا كذلك لحفظ الهويّة الثقافيّة والمجتمعيّة وتمثيلها. إلى جانب هذه الإسقاطات الّتي يحملها الطعام،

ناقشتُ في الجزأين السابقين لهذه المادّة تمثيل الطعام لرمزيّات ثقافيّة؛ بتضادّه للمجاعة وصقله لمفهوم الأمان الأسريّ والمجتمعيّ في الأدب الشعبيّ، وفي أدب الأطفال المصوّر. لكن ماذا يحدث عندما نروي قصصًا عن الجوع والطعام لأجيال أكبر؟ ماذا لو أصبح الطعام استعارة لاحتياجات إنسانيّة أعمق، مثل المساواة والعدالة؟ ماذا لو أصبحت وفرة الطعام ونقصه استعارات للطبقيّة المجتمعيّة، وانعدام المساواة في مجتمعات معيّنة؟

هذه بعض الأسئلة الّتي يستكشفها أدب الفتيان من خلال تصويره للطعام والأكل، ووفرته ونقصانه. مِنْ أنهار الشوكولاتة الغزيرة في «تشارلي ومصنع الشوكولاتة» (2011/1964) وموائد الأعياد الفخمة في سلسلة كتب «هاري بوتر» (1997-2010) ، إلى التقنين البائس للمدينة الفاسدة (الديستوبيا) في سلسلة «مباريات الجوع» (2008-2010)، للطعام دور مهمّ في تشكيل عوالم أدب الفتيان المعاصرة وشخصيّاته.

في هذه المقالة، سنستكشف العلاقة المتعدّدة الأوجه بين الجوع والأكل والطعام في أدب الفتيان، وكيف يعكس ويشكّل مواقفنا تجاه العدالة الاجتماعيّة.

 

عملاقان يلتهمان العالم

ربّما يكون تصنيف ’أدب الفتيان‘ تصنيفًا جيليًّا حديثًا، يتمحور في أجيال 12 حتّى 18 عامًا، ويعود مصدره الأساسيّ إلى كتاب «أليس في بلاد العجائب» مِنْ عام 1865، إلّا أنّ هذه مجرّد تسميات تصنيفيّة لها أهداف تسويقيّة تجاريّة أكثر منها أهدافًا أدبيّة. بالرغم من هذا سوف تعتمدها هذه المقالة في جميع مصادرها، إلّا واحدًا – هو سلسلة تشمل خمسة كتب من القرن السادس عشر تُدْعى «حياة غارغانتوا العظيم المروّعة» (1532/2020)، «والد بانتاغرويل» (1534/2020)، كونها تعرض الطعام ونهمه.

قصص «غارغانتوا وبانتاغرويل» هي سلسلة فرنسيّة ساخرة وفكاهيّة وفظّة تروي مغامرات العملاقين غارغانتوا وبانتاغرويل، من خلال التركيز على عامل الإفراط في كلّ شيء...

قصص «غارغانتوا وبانتاغرويل» لفرانسوا رابليه، هي سلسلة فرنسيّة ساخرة وفكاهيّة وفظّة، تروي مغامرات العملاقين غارغانتوا وبانتاغرويل، من خلال التركيز على عامل الإفراط في كلّ شيء، بما في ذلك التهام كمّيّات هائلة من الطعام؛ رمزيّةً للنقد الاجتماعيّ للطبقات البرجوازيّة. يعرض الطعام في السلسلة في ثيمة مركزيّة يشكّل من خلالها معالجة لقضايا مجتمعيّة، ونقد اجتماعيّ للمجتمع الفرنسيّ في القرن السادس عشر. بطلا السلسلة هما غارغانتوا وبانتاغرويل، اللذان يستهلكان كمّيّات هائلة من الطعام والشراب، ويشتركان في الولائم والمآدب العملاقة. تتضمّن السلسلة العديد من الأوصاف الكوميديّة والمبالَغ فيها للطعام والطبخ، إضافة إلى مناقشات فلسفيّة حول دور الطعام في حياة الإنسان. يمكن القول إنّ الرسالة العامّة للسلسلة هي أنّ الطعام مصدر للمتعة وخطر محتمل في نفس الوقت، وأنّ الاعتدال والتوازن هما مفتاح الاستمتاع به بشكل صحيح. عمليًّا، يمكن تلخيص حضور الطعام في السلسلة في أنّ الطعام هو مجاز للتربية والعدالة الاجتماعيّة، ومتعة الحياة[1]. رابليه يتعامل مع الطعام على أنّه أبسط عامل أساسيّ مشترك بين البشريّة أجمع؛ فالفقير والغنيّ والسيّد والعبد، وخاصّة المزارع والنبيل، جميعهم يأكلون ويحتاجون إلى الطعام، إلّا أنّ البعض يرونه ترفًا، وقد يجازفون في تبذيره. 

تشمل السلسلة أوصافًا مبالغًا فيها للطعام وتمثيلات حيّة، وغالبًا ما تكون سخيفة وفكاهيّة للموائد العملاقة الّتي يلتهمها العملاقان، مثل عندما يمرض بانتاغرويل بسبب آلام في المعدة من كثرة الطعام، يوفّر له الأطبّاء جرعات أدوية. بعد أن ضخّه الأطبّاء بأكثر من طنّ من مسكّنات الألم، يستيقظ وينثر كمّيّات هائلة من البول الساخن في جميع أنحاء أوروبّا. يتجمّع بول بانتاغرويل في جميع أنحاء القارّة؛ ليصبح ينابيع ساخنة للشفاء، حيث يغطس فيها المرضى ويخرجون مُشافين ومعافين؛ أي أنّ وصف الينابيع الساخنة الأوروبّيّة هنا على أنّها علاج للمرضى، وصفًا أسطوريًّا يُظهر المصدر للظاهرة الطبيعيّة، يحوّل مفهوم مسكّنات الألم المارّة عبر جسد العملاق إلى أجساد المرضى، ويفرض سواسية الناس المحتاجين إلى هذا النوع من العلاج.

 

مطابخ «هوغوورتس»

أمّا في سلسلة «هاري بوتر»، المعاصرة أكثر، والصادرة منذ عام 1997 حتّى 2005، فنُسِج الطعام في نسيج العالم السحريّ الّذي صنعته رولينغ، حيث نجده يخدم وظائف متعدّدة داخل السلسلة. غالبًا ما يرمز الطعام في «هاري بوتر» إلى الراحة والدفء والأمان، خاصّة في الكتب الثلاثة الأولى من السلسلة، حيث يمثّل الطعام فيها بديلًا عائليًّا لمفهوم البيت عند هاري؛ اليتيم الّذي ترعرع في بيئة قاسية عند بيت خالته. العديد من مشاهد الأكل يحصل في قاعة الطعام في مدرسة السحر، «هوغوورتس»، حيث يستمتع الطلّاب بوجبات شهيّة وصداقة حميمة مع أصدقائهم، الّذين يصبحون العائلة البديلة الدافئة بالنسبة إلى البطل هاري، في المدرسة الداخليّة. لكنّ هذا السياق يبدأ بالتفكّك شيئًا ما في الجزء الرابع، عندما تكتشف إحدى بطلات السلسلة، هيرميون غرينجر، أنّ الطعام الّذي يأكلونه في القاعة المركزيّة ليس منتوجًا سحريًّا، إنّما هناك مَنْ يُعِدّه، وهم مخلوقات ’الجنّ-المنزليّ‘ (House-elves)، الّتي تمثّل في السلسلة العبيد عند السحرة.

عندئذٍ، تغضب هيرميون بشدّة، وتبدأ بالبحث عن طرق للنضال من أجل حقوق الجنّ-المنزليّ في مدرسة السحر. هكذا تنشئ جمعيّة تسمّيها «جمعيّة الحفاظ على حقوق الجنّ-المنزليّ» (S.P.E.W)؛ لتحوّل الطعام مصدرًا للنضال الاجتماعيّ من أجل حقوق العبيد. تطالب هيرميون وجمعيّتها في السلسلة بأن يُوَظَّف الجنّ-المنزليّ في المدرسة، بدل استغلالهم وتشغيلهم من غير أجر. هذا السياق الاجتماعيّ للطعام يمكّن رولينغ من حبك علاقة وطيدة بين الطعام والعدالة الاجتماعيّة، وتفتح باب كشف الاتّكاليّة العمياء عند أبناء الذوات وذوي الامتيازات، وفي هذه الحالة؛ السحرة. وبالفعل، من الكتاب الرابع، نجد السلسلة تأخذ منحًى مختلفًا، فيه تتوقّف رولينغ عن عرض السحر ثيمةً تظهر لتثير إعجابنا واستغرابنا، بل تتحوّل إلى أمر ’واقعيّ‘ في ذلك العالم، لكن هناك مَنْ يستغلّه من أجل الحصول على النفوذ. عرض الجنّ-المنزليّ كمَنْ يشغل منصب العبيد عند السحرة، وبخاصّة في مطابخ مدرسة السحر «هوغوورتس»، يبدأ بصدع الصورة المثاليّة، الّتي تخيّلها القارئ في الكتب الأولى عن قيم عالم السحرة، ومفاهيم الخير والشرّ فيه.

عرض الجنّ-المنزليّ كمن يشغل منصب العبيد عند السحرة (...) يبدأ بصدع الصورة المثاليّة، الّتي تخيّلها القارئ في الكتب الأولى عن قيم عالم السحرة، ومفاهيم الخير والشرّ فيه....

إلّا أنّ الأكل في هاري بوتر لا يتمثّل فقط ثيمةً مجازيّة للعدالة الاجتماعيّة، بل له الكثير من المزايا الأخرى، مثل أنّه أداة يوظّفها السحرة لتغيير الهويّة والصورة الخارجيّة، من خلال جرعات ومساحيق مختلفة، مثل جرعة ’البولي جويس‘ (Polyjuice) الّتي تُصَنَّع من خلال استعمال خصلة شعر، من الشخص الّذي يسعى الساحر إلى تقمّص شخصيّته.

 

كارنفاليّة الطعام في بلاد العجائب

توظيف الطعام أداة لتغيير الهويّة، يظهر بوضوح أيضًا في كتاب «أليس في بلاد العجائب»، حيث نجد أليس تأكل كعكة وتشرب جرعة من قنّينة؛ لتتمكّن من الكبر والصغر، حين تكتشف أنّ جسدها مرن وقابل للتغيير بناءً على طعامها وشرابها. توظيف الطعام في الكتاب، غالبًا ما يأتي أداةً لتسليط الضوء على سخرية بلاد العجائب وفوضويّتها ولاعقلانيّتها، مقارنة بالعالم البشريّ الجامد في واقعيّته. من خلال تقديم أوصاف طعام مبالَغ فيها وغير تقليديّة؛ يتحدّى لويس كارول معايير المجتمع وتوقّعاته، بل يقدّم نقده لها بوضوح. يمكن اعتبار الطبيعة غير التقليديّة للطعام بمنزلة نقد للهياكل الاجتماعيّة الصارمة، والأعراف المجتمعيّة، حيث تعكس نيّة كارول لتخريب النظام القائم، والتشكيك فيه.

مثلًا، في فصل حفل الشاي المجنون، نجد أليس تحاول الانضمام إلى حفل الشاي، إلّا أنّ الأرنب وصانع القبّعات يدّعيان أنّه ليس لها مكان على المائدة، بالرغم من كون المائدة فارغة. رمزيّة المكان على المائدة، تحاكي المشاركة في العادات والتقاليد المجتمعيّة في بلاد العجائب، مقارنة بساعة الشاي في بريطانيا، وإن كان ثمّة مكان للجميع بالانضمام إليها. لكنّ هذه الرمزيّة هي مجرّد رمزيّة أساسيّة لكرنفاليّة باختين والنقد فيها للمباني الاجتماعيّة.

يشير مفهوم ميخائيل باختين للكرنفال، المتجذّر في كتابه «أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبيّة»، إلى شكل تخريبيّ وتحرّريّ للتعبير الثقافيّ. مثال باختين على الكرنفال في هذا الكتاب، يأتي مباشرة من نصوص فرانسوا رابليه، مؤلّف سلسلة «غارغانتوا وبانتاغرويل»، المذكورة أعلاه. الكرنفال تعليق مؤقّت للأعراف والتسلسلات الهرميّة الاجتماعيّة، ويتميّز بالضحك والسخرية وقلب موازين القوى الراسخة مجتمعيًّا. يرى باختين الكرنفال مساحة يكون فيها تحدّي الخطاب السائد، والتشكيك في السلطة، وظهور وجهات نظر بديلة. إنّه بمنزلة وسيلة للتعبير عن النقد الاجتماعيّ، والعكس المؤقّت لديناميكيّات السلطة؛ وهو ما يسمح بظهور نظام اجتماعيّ أكثر ديمقراطيّة وشموليّة، ولو لوقت محصور. هذا بالضبط ما يقترحه حفل الشاي المجنون في كتاب «أليس في بلاد العجائب»، وبالرغم من ’قلب الموازين‘ المقترح في هذا الفصل.

الكرنفال هو تعليق مؤقّت للأعراف والتسلسلات الهرميّة الاجتماعيّة، ويتميّز بالضحك والسخرية وقلب موازين القوى الراسخة مجتمعيًّا...

حفل الشاي المجنون حدث فوضويّ وعبثيّ، يتحدّى الأعراف السائدة في مجتمعات الشاي البريطانيّة التقليديّة، حيث تنخرط الشخصيّات المشاركة في المشهد في محادثات مسلوبة المنطق والعقلانيّة والمعنى، بتجاهل تامّ لآداب الطعام والموائد، وبتعطيل عبثيّ وساخر لترتيب الحدث الاجتماعيّ الرسميّ المتمثّل بحفلة الشاي. يصبح المشهد مساحة تتعطّل فيها التوقّعات الاجتماعيّة العاديّة؛ فيعطي صوتًا لوجهات النظر غير التقليديّة، ويتحدّى جمود الأعراف المجتمعيّة. يشكّل المشهد صورة واضحة لإحدى أبرز اللحظات الكرنفاليّة، الّتي تتحدّى الأعراف والتسلسلات الهرميّة الاجتماعيّة. وهكذا، تتحوّل مائدة الشاي المألوفة في الثقافة البريطانيّة، إلى حدث اجتماعيّ نقديّ من الطراز الأوّل.

 

«مباريات الجوع» من أجل النجاة

يمكنن من عنوان السلسلة فهم مركزيّة الجوع في «مباريات الجوع»؛ حيث تتمحور جميعها على صراع طبقيّ على الموارد الطبيعيّة المتمثّلة بالطعام والنفوذ. تدور الفكرة الرئيسيّة لثلاثيّة كتب «مباريات الجوع»، لكاتبتها سوزان كولينز، تدور حول مجتمع بائس يُدْعى بانيم، يعيش في واقع ما بعد كارثيّ، حيث تستغلّ سلطة العاصمة، الكابيتول، المناطق الفقيرة، وتقمعها. في الواقع البديل المقترح في السلسلة، الدولة مقسَّمة إلى اثنتي عشرة محافظة، كلّ واحدة مسؤولة عن إدارة مورد معيّن؛ فيؤثّر هذا في مكانتها الاجتماعيّة والطبقيّة. في كلّ سنة، يُجَنَّد فتًى وفتاة ليشاركا في برنامج تلفزيونيّ واقعيّ اسمه «مباريات الجوع»، وفيه على الفتيان والفتيات الصراع حتّى الموت في حلبة مصوّرة. يكتشف القارئ أنّ «مباريات الجوع» هي أداة سلطة الكابيتول للسيطرة على الأفراد وعلى جميع المحافظات؛ من خلال تقديم ذرّة أمل صغيرة وضئيلة جدًّا، تتمثّل في المرشّحين من كلّ محافظة. عندما يحارب الفتيان بعضهم، يواجهون الجوع والعطش بوضوح في حلبة المباريات. استعارة الطعام في السلسلة تُسْتخدَم لترمز إلى الظلم الاجتماعيّ، وعدم المساواة، والسيطرة.

ثمّ إنّنا نجد في السلسلة أساليب متابعة «مباريات الجوع» في المحافظات والمنطقة المختلفة في بانيم. تتناقض الاحتفالات الّتي تجريها المحافظات الغنيّة في مبنى الكابيتول، بشكل حادّ، مع المجاعة والحرمان في المحافظات الفقيرة؛ ممّا يسلّط الضوء على الفوارق الاجتماعيّة والاقتصاديّة الصارخة. تؤكّد هذه الاستعارة على ديناميكيّات القوّة في المباريات، وتؤكّد تلاعب الكابيتول وإخضاع المحافظات من خلال ندرة الطعام وغيابه. يمثّل حضور الطعام في السلسلة نقدًا لاذعًا لمفاهيم القمع المنهجيّ، وعدم المساواة المؤسّساتيّة، وأهمّيّة العدالة الاجتماعيّة في مواجهة الأنظمة القمعيّة.

في أحد أبرز المشاهد في السلسلة وأقساها، ظهر في الكتاب الثاني في الثلاثيّة، «ألسنة النار»، يحضر البطلان كاتنيس وبيتا، اللذان يأتيان من أكثر المحافظات فقرًا، إلى حفلة في مبنى الكابيتول، حيث يلتقون أفرادًا من ذوي الامتيازات، أبناء المحافظات الغنيّة ومواطني الكابيتول. خلال الحفل، ينغمس مواطنو الكابيتول في وليمة فخمة، تليها ممارسة غريبة، تمثّل مفهوم الكابيتول لأكل الحلوى، حيث يواصلون الأكل، ثمّ يأخذون جرعة من مشروب يحفّزهم على التقيّؤ؛ بهدف تفريغ معداتهم ليتمكّنوا من مواصلة تناول الطعام، والاستمتاع بالمزيد من الطعام، وتذوّق أطعمة جديدة ومختلفة.

«مباريات الجوع» هي أداة سلطة الكابيتول للسيطرة على الأفراد وعلى جميع المحافظات؛ من خلال تقديم ذرّة أمل صغيرة وضئيلة جدًّا...

يخدم هذا المشهد أبرز أنواع النقد الطبقيّ لتجاوزات مجتمع الكابيتول وانحطاطه، في تناقض حادّ مع المناطق الفقيرة، والجوع الّذي يعاني منه غالبيّة سكّان بانيم. يسلّط سلوك مواطني الكابيتول الضوء على انفصالهم عن نضالات المحافظات الفقيرة ومعاناتها؛ ممّا يؤكّد عدم المساواة الصارخ بين الكابيتول والمناطق المضطهدة. من خلال تصوير فعل تناول الطعام إلى درجة التقيّؤ كشكل من أشكال الترفيه؛ تسلّط الكاتبة الضوء على شعور مواطني الكابيتول الملتوي بالمتعة، وتجاهلهم للاحتياجات الأساسيّة وكرامة الآخرين. يسلّط هذا المشهد الضوء على الطبيعة البشعة لأسلوب حياتهم الامتيازيّ، وعدم حساسيّتهم للمعاناة الّتي تحدث خارج فقاعتهم المميّزة. كما يكشف المشهد عن دور مواطني الكابيتول في إدامة النظام القمعيّ المتمثّل في «مباريات الجوع»، وهو بمنزلة تذكير بالتناقض الصارخ بين ثراء الكابيتول وحرمان المقاطعات؛ وهذا يغذّي السخط والمقاومة الّتي أدّت في النهاية إلى التمرّد ضدّ مبنى الكابيتول.

 

خلاصة

في هذه المشاهد الأخيرة من «مباريات الجوع»، أنهي هذه السلسلة المكوّنة من ثلاث موادّ حول تمثيلات الجوع والطعام في الأدب الشعبيّ، وأدب الأطفال، وأدب الفتيان. في المادّة الأولى عرضت كيفيّة تعامل الأدب الشعبيّ مع التجارب الحياتيّة المختلفة، الّتي عاشها الناس في العصور الوسطى، أمام معاناتهم من قلّة الطعام، ومحاولاتهم لاكتساب لقمة العيش، إذ اختاروا تمثيل كلّ هذا في أدبهم الشعبيّ؛ من خلال نصوص مثل «هنزل وغريتل» و«ليلى الحمراء» و«طنجر طنجر». أمّا في المادّة الثانية فانتقلت إلى الحديث عن الأهمّيّة الإيجابيّة في عرض الطعام في أدب الأطفال المصوّر؛ دليلًا على الحميميّة والأمان الأسريّ، وكيف يُمَثَّل الطعام أداةً لتشجيع الأطفال على النموّ الفرديّ، والشعور بالانتماء المجتمعيّ في ذات الوقت. تمثّلت هذه الثيمات في العديد من كتب الأطفال المصوَّرة، العالميّة والعربيّة، مثل «البطّيخة» و«لماذا أمطرت السماء كوسا وورق عنب؟».

أمّا في هذه المادّة فانتقلت إلى مناقشة تمثيلات ثقافة الجوع والأكل والطعام، مجازًا للمقولة المجتمعيّة المطالبة بالعدالة الاجتماعيّة، الّتي تتمثّل في أدب الفتيان؛ حيث تشير دراسات سوسيولوجيا أدب الفتيان إلى مركزيّة المقولة الاحتجاجيّة، في هذا النوع من الأدب، تحديدًا لكون قرّائه مطّلعين على الاحتجاجات الاجتماعيّة، الّتي تدور حول العالم في العقدين الأخيرين.

الأكل مورد طبيعيّ يُجَنَّد أداةً قمعيّة ضدّ الطبقات المستضعفة، وأدب الفتيان يوظّفه أداةً لتشجيع الجيل القادم على الاحتجاج على هذا الظلم.

 


إحالات

[1] Mahon, E. N. M. (1992). "Gargantua, Pantagruel" and Renaissance Cooking Tracts: Texts for Consumption. Neophilologus, 76(2), 186.‏

[2] ميخائيل باختين، أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبيّة في العصر الوسيط وإبّان عصر النهضة، ترجمة: شكير نصر الله، (بغداد: دار الجمل، 2015).

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».

 

 

التعليقات