22/08/2023 - 14:43

إحسان عبّاس... النهر الّذي جرى فأحيا

إحسان عبّاس... النهر الّذي جرى فأحيا

إحسان عبّاس (1920-2003)

 

النهر

تخبرنا الجغرافيا أنّ النهر له دورة حياة، مثل الكائن الحيّ؛ يُولَد ويشبّ ويشيخ؛ فإمّا أن يغيّر مجراه، وإمّا أن يموت. وعلامات شباب النهر عرض مجراه، وقلّة عمقه، وشدّة تيّاره. وعلامات شيخوخته ضيق مجراه، وعمقه في الأرض، وضعف تيّاره. ولا يغيّر النهر مجراه إلّا في الحالة الثانية بحثًا عن مجرًى يجدّد به نفسه، وإلّا تلاشى، وغلب عليه بعض فروعه أو انشقّ عنه مورد له فأفناه.

وليس يسيرًا - بغير المجاز - النظر في سيرة الراحل إحسان عبّاس (1920–2003) بصفتها سيرة نهر عظيم في الحياة الثقافيّة العربيّة؛ فقد أحدث بعدد من دراساته صدمة للنقد العربيّ الكلاسيكيّ، واشتقّ لنفسه منهجيّة مختلفة عن السائد، وجمع بين الكلاسيكيّ والحداثيّ جمعًا لا تجد له نظيرًا حتّى اليوم. كما أسّس لمعايير جديدة في التحقيق، والدراسة الأدبيّة والنقديّة، وكان نزقًا جدًّا في العلم، صارمًا لا يقبل المساومة، ولا يلتفت إلى مَنْ خالفه في الرأي أو المنهج، ولم أجد له يومًا ردًّا على مناوئ. قال حين سألته عن ذاك سنة 2001: "الجهد الّذي أبذله ضائعًا في الردّ، أبذل مثله أو أقلّ منه في إنجاز جديد".

ليس يسيرًا - بغير المجاز - النظر في سيرة الراحل إحسان (1920 – 2003) عبّاس بصفتها سيرة نهر عظيم في الحياة الثقافيّة العربيّة...

ومع أنّه أجاب سؤالي يومها: "لماذا لم تشكّل مدرسة من تلامذتك ومريديك؟"، فقال: "تعقّل؛ الفلسطينيّ لا يُسْمَح له أن يكون نهرًا؛ قصارى المتاح له أن يكون جدولًا، أو ساقية". مع هذا، فما زلت أصرّ - ويصرّ معي كثيرون ممَّنْ عرف الراحل عن قرب، وخَبرَ أثره في الثقافة العربيّة، ولمس عظمة إنتاجه العلميّ تأليفًا وتحقيقًا وترجمة، وتبيّن آثار ذلك في البحوث والدراسات والرسائل الجامعيّة منهجيًّا وموضوعيًّا - على أنّه جسّد نهرًا عذبًا صافيًا قويّ التيّار، أحيا به كلّ أرض موات في النقد والأدب والتحقيق مرّ بها، ورفدها بعطائه.

أفي هذا شيء من التحيّز لإحسان عبّاس؟ ولِمَ لا يتحيّز مثلي لمثله؟

ألا تكفي الناس قولة شيخه شوقي ضيف (1910 – 2005)، حين صدر كتاب إحسان «تاريخ النقد الأدبيّ عند العرب» (1971): "لقد حلّ إحسان بكتابه هذا مشكلة النقد العربيّ القديم، وكشف معالمه لنا جميعًا"؟ ومثلها وصف ناعيه مؤرّخ «كلّيّة لندن» لورانس كونراد بأنّه "راعٍ للتراث والثقافة العربيَّين، وشخصيّة هيمنت دراساتها على الحياة الفكريّة والثقافيّة في الشرق الأوسط لعقود"؟ ألا تكفيه قولة عبد الوهّاب البيّاتي (1926 – 1999) فيه بعد نشره دراسته عنه «عبد الوهّاب البيّاتي دراسة في «أباريق مهشّمة» (1955): "أنا مدين لهذا العالم الكبير الّذي كان لكتابته عنّي فعل السحر، أو فعل الحجاب باللغة الصوفيّة، فلقد منحتني وأنا في مقتبل العمر وبداية المضمار قوّة هائلة لتحدّي المستحيل"؟ وقد يتعذّر جمع شهادات الشعراء والنقّاد والأكاديميّين في الراحل، في مقالة تذكاريّة، غير أنّ الموقف يقتضي إثبات ما تقدّم، والوقوف عند هذا الحدّ.

لقد ظلّ إحسان نهرًا جاريًا لم يغيّر مجراه، وفيًّا للعلم والمنهجيّة العلميّة الصارمة، والتراث العربيّ الأدبيّ والنقديّ، والانفتاح على المدارس النقديّة الحداثيّة، وتلقّي الشعر العربيّ الحديث، والكتابة عن الشعراء الناشئين المغايرين الّذين لم يجرؤ أحد على تناول شعرهم بالدرس المنهجيّ. وتعجب إذ تجده يجانب الكتابة عن ’الكبار‘، ويشارك الشعراء الشباب خطاهم في الطريق؛ فيرصد ظاهرة عند هذا، ويجلّي إبداعًا حقيقيًّا لافتًا عند ذاك. ألم تكن لفتة ألمعيّة كتابته بحثًا في شعر ناصر شبانة عنوانها: «و’قتل قابيل هابيل‘ في الشعر العربيّ الحديث»؟

 

في الشعر واستعادته 

هل كان إحسان يكتب «أبو حيّان التوحيديّ» (1956) لولا أنّه استشفّ "من نفسيّة التوحيديّ، ومن طبيعة موقفه في الحياة، أمورًا كانت تخفى" عليه، فآثر أن يعيد صياغة الشتات عن حياته في ’قصّة‘ لم يَمْحُ شيء منها صداقته لأبي حيّان، ولولا إحراق أبي حيّان كتبه حين افتقر وأحسّ نفسه وحيدًا في مواجهة زمن قاسٍ يسود فيه الجهلة، ويملكون زمام كلّ شيء، وهو العالم يأكل الأعشاب حتّى لقد اخضرّ لون جسمه كما يذكر في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»: "وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صحّ لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء"، ولولا قولة أبي حيّان: "يا هذا، الغريب في الجملة من كلّه حرقة، وبعضه فرقة، وليله أسف، ونهاره لهف... يا هذا، أنت الغريب في معناك"، كما يذكر في كتابه «الإشارات الإلهيّة»؟

ولم يكن إحسان ليكتب في الماجستير «الأدب العربيّ في صقلّيّة الإسلاميّة» (1952) لولا مشابه بين طرد العرب منها إلّا قلّة قليلة، وتهجير الفلسطينيّين إلّا أقلّهم من ديارهم. كانت صقلّيّة الضائعة في أبيات ابن حمديس هي عين غزال وحيفا وعكّا المغتصبة عام 1948، ويبدو أنّها كانت دافعه لجمع «ديوان ابن حمديس» (1959)، وكان يبكي كلّما مرّ بها، أو مرّت به:

ذكـــــرتُ صــقـــلّــيّـــــةً والأســـــى

يهــيّــجُ للــنّـــــفــــــسِ تذكــــــارَهـــا

فإنْ كـــنـــتُ أُخْـــرِجْـــتُ مِـْن جـنّـةٍ

فـــإنّــــي أحــــــــدّثُ أخــــــبــــارَهــــا

ولـــولا مــلــوحـــةُ مــــاءِ الـــبــكـــاءِ

حـــســـبـــتُ دمـــوعيَ أنــهـــارَهـــا

ضـحكتُ ابنُ عشـرينَ مِنْ صبوةٍ

بكـيــتُ ابـــنُ ستّـــيــــنَ أوزارَهـــــا
 

وبمثل ذلك يمكن فهم إقباله على تحقيق المكتبة الأندلسيّة؛ فالأندلس كانت ملاذًا روحيًّا وإنسانيًّا وعلميًّا وأدبيًّا لكثير من العلماء مثله ذات حين من الزمن، كأبي عليّ القالي، وصاعد البغداديّ، وابن حمديس، بل لبقايا بني أميّة بدءًا بعبد الرحمن الداخل... وضياع الأندلس شبيه بضياع صقلّيّة، وبعد بضياع فلسطين. وإحياء تراث الأندلس تعويض لنفس نازفة الجراح، وبعث أمل باستعادة ما فات.

إنّ أكثر الّذين كتب عنهم إحسان عبّاس قد مثّلوا جانبًا ما من شخصيّته وذاكرته، بل لعلّ الأدباء الّذين حرص على تدريس نصوصهم أضاء كلٌّ منهم نقطة ما في نفسه المغرقة في أسًى شفيف، هكذا كان بشّار في ضاديّته يذكّره بأخيه وصديقه بكر عبّاس:

غمضَ الحديدُ بصاحبيكَ، فغمّـضـا 

وبقيتَ بعدهما تـحــاولُ مَــنْــهَـضــا

وأخٌ فٌجِعْتَ بِهِ، فأذكرهُ أخٌ يمضـي،

وتـذكـــرُكَ الــحــــوادثُ مــا مـضـــى

فــاشـــربْ عـلـى تلـفِ الأحـبّـةِ؛ إنّـنـا

جـزرُ الـمـنـيّـةِ ظــاعـنـيــنَ، وخـفّـضــا

ولقدْ جريتُ معَ الصَّبا، طَلَقَ الصِّبا

ثمَّ ارعويـتُ، فَـلَـمْ أَجِـدْ لِـيَ مركضـا

وعلمـتُ مـا عـلـمَ امـرؤٌ مِـنْ دهــرِهِ

فعصيتُ عاذلتي، وأعطيتُ الرضـا
 

وكذلك كانت صرخات ابن خفاجة الّذي "كان يخرج من جزيرته، ويسير بين الوديان والجبال، وينادي بأعلى صوته: يا إبراهيم، تموت!" كما يرد في كتاب «الفنّ ومذاهبه في النثر العربيّ» (2005)، ليسمع صداها يتردّد في جنبات الوادي فيغشى عليه، المؤثّر الأكبر في إقباله على شعر ابن خفاجة ’الحداثيّ‘ الوجدانيّ العميق، ودفعته إلى رائعته في مناجاة القمر:

لقدْ أصخـتُ إلـى نجـواكَ مِــنْ قــمــرِ 

وبتُّ أدلجُ بـيــنَ الــعــيــنِ والــنــظــــرِ

تمرُّ مِـنْ نــاقــصٍ حــورًا، ومـكــتــمــلٍ 

كـورًا، ومِـنْ مـرتــقٍ طـورًا، ومـنـحـدرِ

والناسُ مِنْ مُعْرِضٍ يلهو، وملتفـتٍ 

يرعى، ومِـنْ ذاهـلٍ ينســى، ومدّكـرِ

يلهــو بــســاحـاتِ أقـــوامٍ تـحــدّثُــنـــا 

وقدْ قَضَوْا، فَمَضَوْا، أنّـا عـلـى الأثرِ

فإنْ بكيتُ، وقد يبكي الخليلُ، فَعَنْ 

شجوٍ يفجّرُ عينَ المــاءِ فـي الحَـجَـرِ
 

وكذلك كانت نجواه للجبل الراسي الّذي تمرّ به الدنيا والخلائق في أطوار وهو مقيم، يودّع ولا يجد أحدًا يودّعه، ويفارقه الصحب كلّ حين وهو طامح في السماء. وبمثل ذلك نفهم إصراره على تدريس سينيّة ابن زيدون؛ الّذي بلغ ما بلغ من منزلة فلُقِّب بـ ’ذي الوزارتين‘، ثمّ آلت به الدنيا إلى القيد في السجن:

مـا عـــلــى ظــنّــيَ بــاسُ

يـجـرحُ الـدهــرَ، ويــاســو

ربّـمـــــا أشــــرفُ بـالــمــر

ءِ عــلــى الآمـــالِ يـــــاسُ

وكـــذا الــدهــــرُ؛ إذا مــــا

عـــزَّ نـــــاسٌ، ذلَّ نـــــاسُ

أنـــــا حـــــيــــــرانُ، ولــلأمـ

ـــرِ وضــوحٌ والــتــبـــاسُ

إِنْ قـسـا الـدهـرُ، فلـلـمـا

ءِ مِنَ الصخـرِ انبـجـــاسُ

ولئنْ أمسيتُ محـبــــــــو

سًا، فللغيثِ احــتــبــاسُ

فتـأمّــلْ كـيــفَ يغـشــى

مقلةَ المجدِ النـعــــاسُ!

ويفتُّ المسكُ في التر

بِ، فــيُــوطــــا ويُــــداسُ
 

كان الراحل الكبير منسجمًا تمامًا في تآليفه، وتحقيقاته، والنصوص الّتي حرص على اختيارها بعناية، وجلّها ممّا يتّصل بوجدانه وذائقته، ولعلّه حرص على انسرابها إلى تلامذته ومريديه وقرّائه. وأذكر هنا أنّه لاحظني حين كنت ’أدروش‘ وهو يقرأ ضاديّة بشّار، في لقائنا الثاني به من شتاء 2000 حين التحقت ببرنامج الدكتوراة في «الجامعة الأردنيّة»، أذكرني شبه غائب عن محيطي؛ إذ فارقت زوجتي وولديّ وابنتي في فلسطين، والقصيدة من محفوظي في البكالوريوس، وحين انتهى اللقاء خاطبني: "أنت، خلّيك". فبقيت، كنت أجلس قبالته، وحين خرج الصحب ناداني ووقف فانتحى بظهره: "هات المعطف، ألبسني". ففعلت. فأخذني من يدي: "ما لك، كنت تخيخم معي وأنا أقرأ؟"، قطرت دمعة من كلينا، فاصطحبني معه، وكانت فاتحة صحبة لا تنسى.

 

تعدّد حياته وموته

العجيب أن تقف على اختلافات جسيمة في أمر يتّصل بحياة الراحل ووفاته؛ فإحسان ملأ الدنيا وشغل الناس، وأخباره كثيرة. هكذا تقرأ في «ويكيبيديا» أنّ وفاته كانت في 1 آب (أغسطس) 2003، ثمّ تجدها في 29 كانون الثاني (يناير) 2003، مع أنّ الأوّل هو تاريخ دفن جثمانه في مقبرة وادي السير بعمّان، أمّا وفاته فكانت يوم الثلاثاء 29 تمّوز (يوليو) 20223. وتجد صديقًا له يكتب: "عام 1970 أو 1971 غادر إحسان عبّاس «الجامعة الأمريكيّة»... والتحق بــ «الجامعة الأردنيّة»، مع أنّ إحسانًا كان أستاذًا زائرًا في «جامعة برينستون» 1975-1977، ورئيسًا لدائرة اللغة العربيّة في «الجامعة الأمريكيّة» 1982-1983 في بيروت الّتي غادرها أواخر 1985، حين التقاه الأمير الحسن بن طلال في مؤتمر علميّ، واستقطبه ليعمل في «لجنة تاريخ بلاد الشام» الّتي أُسِّسَت في 1972، وأنجز فيها 7 كتب، فطلب نقل مكتبته إلى عمّان.

لقد حفر إحسان عبّاس في التراث العربيّ ما لم يتهيّأ قبله، ولا أراه يتيسّر لأحد بعده. وأنجز من الدراسات النقديّة ما أسّس لبحوث ودراسات كثيرة برؤًى منهجيّة لم يعهدها الحقل الأكاديميّ قبله...

لعلّ أسوأ هذه الأخطاء ما تجده على موقع «وكالة الأنباء الفلسطينيّة» (وفا): "حصل على منحة من «الكلّيّة العربيّة» في القدس، في الفترة الواقعة ما بين 1937-1941، وعمل فيها مدرّسًا لسنوات عدّة، قبل أن يلتحق بـ «جامعة القاهرة» في عام 1948، وحصل فيها على البكالوريوس في الأدب العربيّ 1946. فإحسان عمل مدرّسًا في صفد بعد تخرّجه 1941-1946، ثمّ التحق بـ «جامعة القاهرة»، وأُعْفِي من السنة التمهيديّة، وكان قد تزوّج في عام 1944، وحين حدثت النكبة في 1948 كان في السنة الثالثة، وانقطعت منحته فعانى ليعيل أسرته، وحصل على الليسانس في 1950، وفي 1951 التحق مدرّسًا بـ «كلّيّة غوردون» في الخرطوم.

 

سيرة متأخّرة 

لقد حفر إحسان عبّاس في التراث العربيّ ما لم يتهيّأ قبله، ولا أراه يتيسّر لأحد بعده. وأنجز من الدراسات النقديّة ما أسّس لبحوث ودراسات كثيرة برؤًى منهجيّة لم يعهدها الحقل الأكاديميّ قبله. ومَنْ ينسى رائعته في ترجمة رواية «موبي ديك» (1851) لملفيل؟ بيان سهل جميل يفهمه القارئ بلا عناء ولا مواربة. لكنّ هذا النهر العظيم الّذي حفر مجراه عميقًا في الأكاديميا والثقافة العربيّة، وصار يسترفد منه كبار الباحثين من المستشرقين، بلغ من المدى أن "حلّمته التجارب" بوصف الراحل نهاد الموسى (1942 – 2022)، ووجد نفسه يكتب في سيرته «غربة الراعي» (2006): "وإذا كان هناك من عيب في الإقدام على كتابة مثل هذه السيرة، فذلك هو أنّها تأخّرت في الزمن، وكان من الحقّ أن أكتبها قبل حلول الشيخوخة وامتلاء النفس بألوان من المرارة والخيبة"، ويضيف واصفًا الطفل الّذي كانه في عين غزال: "لم يكن يفهم الرموز في ذلك العمر، ولو كان يفهمها لما فاته أن يرى أنّ درب الحياة الّتي يسلكها، ويسلكها الناس، يفضي بهم إلى مزبلة".

 


 

خالد الجبر

 

 

 

أكاديميّ فلسطينيّ، أستاذ نقد وبلاغة، خبير لغويّ في «معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة».

 

 

 

التعليقات