06/09/2023 - 14:11

سرد من عجين... في ’خبز على طاولة الخال ميلاد‘

سرد من عجين... في ’خبز على طاولة الخال ميلاد‘

رواية «الخبز على طاولة الخال ميلاد» (2021)

 

لم أر كاتبًا استطاع أن يسخّن رغيفًا من الخبز على مدفئة السرد، كما نجح في ذلك الكاتب الليبيّ محمّد النعّاس في روايته «الخبز على طاولة الخال ميلاد» (2021). لقد نجحت سرديّته في استدعاء رغبة كلّ البطون الخاوية لالتهام رغيف سرديّ معجون من سمسم الحبكة وطحين الحكاية. شخصيّات قمحيّة اللون والجنس، علّمها النعّاس كيف يخمّر السرد ويرتاح لينضج في ما بعد كواعب أترابًا. فإذا جعلت رواية «الخبز الحافي» (1972) الرغيف يمشي على بساط السرد حافيًا، فإنّ رواية الخال ميلاد كانت زرابيّ مبثوثة لسرديّة معجزتها في دفئها الدائم، مهما زلزل مزاج  الحبكة أقدام قوافل القرّاء الحاجّين فوقها إلى معجزة يسوع.

هو رغيف غير مألوف؛ لأنّه يرطن بالإيطاليّة، الّتي بنت في ليبيا الطرقات، ونهبت الخيرات، لكنّها دسّت في نفوس بعض السكّان جوعًا دائمًا إلى خبز المعجّنات. فهل رأيتم قبل هذه الساعة رغيفًا منذورًا لسرد عربيّ معمّد من طواحين إيطاليّة، عركت أجساد الليبيّين ردحًا طويلًا من الزمن، كما عركت القمح النافر من الأرض؟

إذا جعلت رواية «الخبز الحافي» (1972) الرغيف يمشي على بساط السرد حافيًا، فإنّ رواية الخال ميلاد كانت زرابيّ مبثوثة لسرديّة معجزتها في دفئها الدائم...

نعم، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، غير أنّ رغيفًا واحدًا أرسل إليه النعّاس من روحه فتمثّل سردًا سويًّا. وتلك خصوصيّة الرواية الّتي تحمّر حروفها على مجمرة المخبز، قبل أن تبثّها في طبقات العجين الكثيفة. هكذا صار السرد حارًّا مثل الرغيف يسدّ الرمق، ومثل الرمق يغرورق منه الدمع، أليس العجين إلّا قمحًا وماءً؟ ألا يدرّ الجوع الدمع؟ إنّها الرواية الّتي تربط بين الدفء والسرد والدموع. ولذا؛ تلوح غير مألوفة، فمكوّناتها سوائل لم يعتدها السرد العربيّ كثيرًا، ومادّتها قمح مرحيّ يسمن ويغني من جوع.

لم يشبع القارئ العربيّ قبل أن يتذوّق حرارة الحرف المسلوخ من حرارة الرغيف الهارب للتوّ من فرن الحبكة القاسي، بل ربّما سيدرك كلّ قارئ أنّ سرديّة مثل سرديّة ميلاد خالًا، أو شخصيّة كاملة أو مبتورة، من شأنها أن تبعث في نفس ذائقته الدفء كما الامتلاء. جاءت الرواية تذكّر أنّ تطوّر البشر كان مشترَطًا بتطوّر القمح، "علاقتنا بالقمح تشبه تلك الّتي تربط السيّد بالعبد، هو السيّد في هذه العلاقة ونحن عبيده".

 

معادلة الخبز والخبّاز

صام الميلاد في هذا المتن، ورفع عن كلّ شخوص الرواية وزرها. أتمّ عليهم معجزة الخبز من طبريّا حتّى ليبيا، وذهب باسمًا إلى الصليب. لقد ناب صمت العجّان، أو الشخصيّة، في هذا المتن أصوات الإنكار والشجب في كلّ المتون الروائيّة السابقة، حتّى بات عجين الخبز حيلته الوحيدة لئلّا يهلك أسًى ويتجلّد، "رغيفي مليء بالصبر والانتظار، وتحمّل ثقل الوقت". ولذا؛ كافأه الخال ميلاد في ما بعد. كافأ الخبز طبعًا؛ فرفعه من مكوّن سرديّ عابر في سرديّات غابرة، يحضر على طاولة الشخصيّة كما يحضر أيّ شيء لا قيمة له، إلى شخصيّة كاملة البناء، طويل النجاد، رفيع العماد، على طاولة الخال ميلاد، غير أنّ الطاولة هذه المرّة شرفيّة لأنّ الخبز "كثير الرماد".

ولا يحفل الخال ميلاد ولا رغيفه من سخرية الشخصيّات المحشوّة في المتن، بل يخرج من مواقفها السمجة كما الشعر من العجين؛ فلا العبسيّ ولا والده ولا شقيقته ولا مادونا ولا زينب، استطاعوا أن يوقفوا مدّ الرغيف فيه، وبهذا المعنى لم يستطيعوا أن يسحبوا من قلبه دفء خبزه؛ فمزاج الخال ميلاد مرتبط بالخبز كما أنبأنا راويه، راويه الّذي يغذّ في الكتابة كلّما اشتدّ سخاء فرن ميلاد عليه. إنّ "الرغيف السعيد مرح، والرغيف الكئيب كجثّة فقيد".

لا يحفل الخال ميلاد ولا رغيفه من سخرية الشخصيّات المحشوّة في المتن، بل يخرج من مواقفها السمجة كما الشعر من العجين...

ومعادلة الخبز والخبّاز صنو لمعادلة الكاتب والكتابة. يتهيّأ الكاتب لاستقبال منجزه كما يستعدّ الخبّاز لملاقاة رغيفه فارسًا تامّ الأبجديّة والفتوّة. ينتبه الكاتب إلى نظافة ورقه، وصلوحيّة قلمه، وحسن ابتدائه كما اجترح له النقد القديم اسمًا، وينتبه الخال ميلاد إلى حميميّة علاقته بالعجين الّذي سيستحيل بعد زمن معلوم خبزًا يحيي المعجزات؛ "أحيانًا أرتدي المئزر حول قميص نظيف، كويته مع سروال لا أستعمله إلّا للذهاب إلى المدينة، لكنّي لا أفعل ذلك إلّا إذا هممت بصناعة رغيف جديد". يوثّب ميلاد رغبته لصناعة الرغيف، ويوثّب النعّاس حواسّ سرده ليستقبل الدفء المنبعث من رغيف شخصيّته. إنّه الترياق الّذي به تحيا الرواية، يُذهِب عنه النعاس، ويضمن "للصنعةِ" السرديّة أن تكون كاملة البناء والرجولة.

 

مثل معجزة الأنبياء

ومن رغيف الخال ميلاد يتعلّم السرد حاسّة الشمّ؛ فيصيخ السمع إلى قلبه ليكتشف معنى الحبّ حين تحترق به الشخصيّات في النصّ، ومعنى الرغبة حين تتّقد فيها فتتصاعد منها كما يتصاعد الرغيف من شبق الفرن الحارّ. إنّها ذات الرغبة تلدغ الرغيف ممدّدًا في فرنه، كما تلدغ عاشقًا أوقعه الوصف في حبّ ’زينب‘، فمنعت عنه الجرّ والتنوين، وتركت له فنّ العجن.

كانت زينب تقضم من رجولة ميلاد الّذي أحبّها وأحبّت فيه قدرتها على تجاوز حواجز المجتمع البالية – في نظرها - إلى سماء أحلامها الأولى؛ فكان الرغيف المعجون يرأف بميلاد، وينسج من خلايا العجين ما تمضغه أنانيّة زينب. علّم العجين الأبيض الهادئ ميلادًا الصفح والحلم، حتّى صار مثله عجينًا من اللحم والدم، يحمّره فرن الحياة تحت كبد شمسها.

هكذا يصبح الرغيف معجزة الرواية والشخصيّة والقرّاء الخالدين - على حدّ تعبير ريتسوس - فميلاد الخال والخِلّ يرى الرغيف في كلّ مكان حتّى "في الجنّة" وهو فارّ من جحيم المعسكر الّذي رمته قسوة الأب فيه؛ علّه يصير في فرنه الصحراويّ رجلًا، غير أنّه عاد طفلًا يودّع أحلامه فوق غمامة اسمها العجين. ومن شدّة التصاق الرغيف بحواسّه؛ أضحى ميلاد لا يرى أشياء الكون إلّا بدءًا منه، وصار النعّاس لا يحبك صورة إلّا مخبوزة من العجين، فيحبّ الوالد "البحر كحبّه للرغيف"، ويشبّه انبعاث أصوات الزغاريد في عروقه "كسريان الخميرة الجائعة في العجين". نعم، نجح ميلاد في جعل نصّ النعّاس طريًّا مثل العجين، ودافئًا مثل الخبز، ومعجزة مثل رغيف الأنبياء.

 

العجين... مادّة السرد الأولى

لقد أنقذ حبّ الرغيف لميلاد كلّ براءته السرديّة الّتي اعتمدها النعّاس؛ فصار الخال خليلًا للرغيف، يجلس مثل قطّ البيت الأليف "على كرسيّ مقابل الفرن لأشاهد مراحل نضجه وصعوده إلى أعلى، وتغيّر لونه". إنّ ميلادًا أدرك الحواسّ واللغة والمشاعر والتفكير والرغبة والأبوّة من الخبز: "كانت الأبوّة حلمًا مرتبطًا بالخبز".

مثّل العجين في هذا النصّ مادّة السرد الأولى الّتي عصرها النعّاس على طاولة خاله ميلاد؛ ليتعلّم من فنّ العجن فنّ الحياة، ومن فنّ الخبز فنّ الحبكة...

مثّل العجين في هذا النصّ مادّة السرد الأولى الّتي عصرها النعّاس على طاولة خاله ميلاد؛ ليتعلّم من فنّ العجن فنّ الحياة، ومن فنّ الخبز فنّ الحبكة، ومن فنّ الجوع النافر من حرارة الرغيف فنّ الرغبة الفارّة من عينَي زينب، ومن قسوتها عليه الخيانة؛ فتعلّم أن "يخونها على الطاولة الّتي غزاها الدقيق". خانته الأبوّة فكان الرغيف له ابنًا، وقسا عليه والده فكان الرغيف بين يديه طيّعًا، وأحرقه ’المادونا‘ في المعسكر؛ فجعل العجين الرغيف تحته سريًّا، وماتت أمّه فناداه العجين من تحته ألّا يحزن.

إنّها معجزة أحمد؛ جاء نصًّا من السرد من لدن العجين المنذور للحرف والرغيف؛ حرفًا للقارئ الجائع إلى رواية تليق بالسرديّات والأدب العربيّ، ورغيفًا منذورًا للفقراء الحالمين بعالم أكثر عدلًا، وأقلّ غدرًا ونفاقًا.

إنّها الرواية الّتي تتطاير منها رائحة العجين ما إن تفتح صفحتها الأولى، وهو العجين الّذي يقصّ أحسن القَصص ما إن يتساقط في العيون الملتهمة حروفًا جذلة من الرطب جنيًّا. 

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراة، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة. 

 

 

التعليقات