14/10/2023 - 22:20

أيّها العالم الوقح

أيّها العالم الوقح

منشورات ألقاها الطيران الإسرائيليّ في سماء غزّة مطالبًا أهلها بالنزوح عن بيوتهم | محمّد عبد، Getty.

 

مرّ أسبوعٌ مِنَ الحرب ولم أكتب شيئًا. فما الّذي يمكن كتابته والممكن محدودٌ للغاية: إعادة نشر الأخبار، أو البكاء والندب؟

هذه الخيارات القليلة قيودٌ فوق القيود الّتي يفرضها الحدث الدمويّ حين يرغمنا على الصمت.

كأنّنا قلنا كلّ شيءٍ وما عاد في وسعنا أن نقول المزيد. ثمّ لمَنْ نقوله؟ لأنفسنا ونحن نعرف القصّة مِنْ أوّلها، وفي مختلف فصولها؟ للآخرين الّذين لا يريدون تصديقها ويصرّون على الذهاب إلى الرواية المضادّة، على اعتبار أنّ روايتنا هذيانٌ جماعيّ، رغم ما نتوفّر عليه مِنْ وثائقَ شخصيّةٍ ورسميّةٍ؟

عالمٌ وقحٌ. عالمٌ وقحٌ إلى درجة الملل، فلا يزال قادرًا على أن يفاجئنا في كلّ مرّةٍ بقدرته على القفز فوق معاناة شعبنا، وعدم الاكتراث بحياتنا أو موتنا، فمَنْ نحن حتّى تستحق الأسى؟

وكي يهرب مِنْ مواجهة الحقيقة يدخل هذا العالم البائس في حالة هستيريا. وفي لحظةٍ واحدةٍ يقرّر أنّنا الجزّارون الّذين يستحقّون المعاقبة. ثمّ يدخل سياسيّوه في تنافسٍ مقيتٍ على تقديم أفضل عرض أداءٍ للحقارة، وعلى الجميع أن يصفّقوا وحسب، ومَنْ لا يصفّق يُعَدّ خارجًا عن الجوقة، ولأجل هذا:

التصريحات السياسيّة عروض أداء.

المؤتمرات الصحافيّة عروض أداء.

سباق إعلانات التضامن عروض أداء.

تأكيد الوقوف إلى جانب إسرائيل عروض أداء.

البارجة الأمريكيّة العملاقة والمنح العسكريّة العاجلة عروض أداء.

صور الصواريخ الإسرائيليّة الّتي ستُطْلَق على غزّة ومحيطها عروض أداء.

وفي مثل هذه الأجواء الهستيريّة، الملأى بالوقاحة والخبث، توجد ثلاثة خيارات أمام كلٍّ منّا: إمّا الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطينيّ، أو اختيار صفّ الاحتلال الإسرائيليّ، أو استدعاء بعض المقولات الفلسفيّة المراوغة ليضمن أصحابها ألّا يُحْسَبوا على طرف.

بالنسبة لي، مشاعري وعقلي مع المحبوسين خلف جدران الفصل العنصريّ، ومع المجبرين على البقاء لتلقّي حمم الموت. مع أهل غزّة الّذين يعيشون الموت الزؤام كلّ يوم، ليس هذا اليوم بالذات، وليس أيّام الحرب وحسب، بل كلّ الأيّام الّتي عدّها الزمن في عدّاده منذ بدأ احتجازهم داخل أكبر سجنٍ في العالم.

هستيريا. هذه هستيريا. لن تكون إلّا هستيريا.

أشاهد المحطّات التلفزيونيّة الّتي تستضيف فلسطينيّين، وتقدّمهم متحدّثين باسم الإرهاب، وتطالبهم بإدانة الهجوم الإرهابيّ!

يضرب معلّمٌ تلميذًا لأنّه رفع العلم الفلسطينيّ في باحة المدرسة في برلين. تهجم الشرطة الفرنسيّة بوحشيّةٍ على متظاهرين سلميّين وتعتقلهم. ثمّ تأتي الضربة الأشدّ قسوةً؛ الكوفيّة الفلسطينيّة رمزٌ إرهابيّ!

فوق ذلك تجري عمليّة سحقٍ للكرامة البشريّة الباقية في هذا العالم، خصوصًا في ألمانيا، الّتي تصدر فيها قراراتٌ غير دستوريّةٍ أو قانونيّةٍ، تبدو مِنَ الخارج أنّ الفلسطينيّين ممنوعون مِنَ التعبير عن التضامن مع شعبهم، لكنّها في العمق ليست سوى أنّ الإنسان ممنوعٌ مِنَ التعبير عن هويته.

هي هستيريا. لهذا مِنَ الطبيعيّ أن يحظى مجرم حربٍ وفاسدٌ مثل نتنياهو بهذه المكانة. ومِنَ العاديّ جدًّا أن يكون المهووس بن غفير مثار إعجاب.

بإمكان نتنياهو أن يذهب إلى «الأمم المتّحدة» ويرفع خريطة فلسطين التاريخيّة ويقدّمها على أنّها خريطة دولته. غير مبالٍ بكلّ الاتّفاقات والمواثيق الّتي أُبْرِمَت، أو الّتي يرعاها القانون الدوليّ. لكن لماذا يفعل ذلك وهو يعرف أنّ مثل هذا القانون لا ينطبق عليه!

أمّا مدنيّو المدينة المنكوبة فليس لديهم خياراتٌ سوى الموت. قال أحدهم لـ «وكالة رويترز» بعدما هرب مِنَ القصف إلى منطقةٍ أخرى تلقّى فيها مزيدًا مِنَ القصف: "هربنا مِنَ الخطر إلى الموت". وقالت المتحدّثة باسم مكتب «الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان»، رافينا شامداساني: "ما زلنا نتلقّى رسائل تفطر القلب مِنْ أناسٍ لا حول لهم ولا قوّة في غزّة، يتنقّلون مِنْ منزلٍ لآخرَ يشعرون بالذعر، يسعون إلى أمانٍ بعيد المنال".

وكتب غزّيٌّ فقد كلّ أسرته قبل انقطاع الاتّصالات منشورًا فيسبوكيًّا بقلبٍ مفطورٍ، يرثي فيه زوجته وأولاده وزوجة أخيه وأولادها. منشورٌ واحدٌ بلغ عدد الموتى فيه ما يتجاوز قدرة الكائن الفرد على الفجيعة.

وكما يحدث دومًا، المشاهد الصغيرة والبسيطة هي الأشدّ إيلامًا، بدءًا مِنْ طفلٍ يقف أمام جثّة قطّته الّتي أرداها القصف، إلى طفلةٍ أبتْ مغادرة المنزل دون أن تحمل عصفورها، أو مراهقٍ ينوء بحمل طراريحَ إسفنجيّةٍ لأهله الهاربين، مع أنّه ليس متأكّدًا مِنْ أنّ القصف سيعطيهم فرصةً لاستعمالها في ذلك المساء!

هل سيعترف الإسرائيليّون بأنّ دول التطبيع لَمْ تضمن لهم الأمن؟ هل سيدركون أنّ المشكلة موجودةٌ أمامهم وبينهم وحولهم؟ إنّها هؤلاء الّذين يستحقّون أن يعيشوا مثل كلّ البشر بكرامةٍ وحرّيّةٍ، مع حقٍّ كاملٍ في اختيار مصيرهم. إنّها هؤلاء الفلسطينيّون الباقون بوصف الشاعر توفيق زيّاد:

هنا... على صدوركم، باقون كالجدار

وفي حلوقكم

كقطعة الزجاج، كالصبّار

وفي عيونكم

زوبعةً مِنْ نار.

لا أعرف ما الّذي سيحدث من الناحية العسكريّة، لست مخوّلًا لاستشرافٍ أو تنبّؤٍ، ما أعرفه جيّدًا أنّ هذا ’الردّ‘ الإسرائيليّ أكثر مِنَ انتقام. إنّه عقابٌ جماعيٌّ، وفرصةٌ نادرةٌ للتطهير العرقيّ.

 


 

رائد وحش

 

 

 

شاعر وكاتب ومحرّر ثقافيّ فلسطينيّ – سوريّ. صدر له «دم أبيض» (شعر، 2015)، و«لا أحد يحلم كأحد» (شعر، 2008)، و«عندما لم تقع الحرب» (شعر، 2012)، و«قطعة ناقصة من سماء دمشق» (نثر، 2015)، و«عام الجليد» (رواية، 2019)، و«كتاب الذاهبين» (شعر، 2022).

 

 

التعليقات