06/11/2023 - 16:13

بعد مدرسة الفاخورة بشويّ

بعد مدرسة الفاخورة بشويّ

نازحون غزّيّون إلى مدرسة الفاخورة، 09/10/2023 | محمّد زعنون (Getty).

 

ماذا يريدون من ذاكرتنا؟

من وسط هذا الانهيار الكامل للمفردات، انهار السياق كلّه فوق رؤوس الغزّيّين، وصرنا جميعًا نجدّف في مركبٍ واحد، لا نحمل معنا فيه شيئًا سوى ذاكرتنا الّتي استهدفوها هي الأخرى، دون أن يفكّر مُطْلِق الصاروخ في القصص الّتي أطلقها عليه.

ما يحدث في غزّة ليس إبادةً للبشر والحجر والكائنات فقط، هي حرب تشويهٍ للسياق والذاكرة والحواسّ. الأصوات المكتومة والحزن المكتنز، صوت الموت الّذي يلتفّ ليعانق كلّ مَنْ نحبّهم. كلّ هذا يشبه لعبة لوتو لا نعرف مَنْ سيكون ضحيّتها القادمة.

 

تيك

تاك

بوم
 

خبر عاجل


لكنّ الأخبار العاجلة لا تموت مثلما يموت كلّ شيءٍ الآن في غزّة، الشاشات لا تتكسّر من المشهد، الكاميرا لا تبكي، ونحن ممدّدون على نعشٍ كبيرٍ قد يستضيف كلّ مَنْ نحبّهم في لحظةٍ واحدة.

جميعنا تحوّلنا في لحظةٍ ما إلى مشهد، والمخرجون جميعهم خارج الكادر، إلا أنّ القصّة مشوّقة جدًّا، "لا مكان للنجاة". كنت أستقبل الأخبار بقلبٍ مجرّحٍ ومعطوب، وفي خضمّ العبث الكبير في ذاكرتي كانت الفاخورة.

الصور والفيديوهات الّتي خرجت لمجزرة «مدرسة الفاخورة» الّتي قصفتها إسرائيل يوم 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، والّتي كانت ملجأً لآلاف النازحين في شمال قطاع غزّة، كانت بملامح مختلفة تمامًا عن المدرسة الّتي درس فيها إخوتي وأبناء الجيران على مدار عقود.

لمَنْ لا يعرف الفاخورة، فهو حيّ في شمال القطاع، سكّانه أكثر الناس بساطةً على وجه الأرض، ببيوتهم البسيطة وقلوبهم المفتوحة على مصاريعها، ووجوههم البشوشة الّتي تعانقك طيلة الوقت. المدرسة في هذا الحيّ كانت بمثابة ركنٍ نفهم منه الكثير من الأشياء، كانت نقطةً واضحةً في الخريطة، حين يريد أن يزورنا أحدٌ نقول: "بعد مدرسة الفاخورة بشويّ"، حين نريد أن نظهر بسالةً في النضال نقول: "هاد الصبي تعلّم في الفاخورة".

«مدرسة الأونروا» الهادئة الّتي كان بيّاعو العوّامة والحلب والفستق والترمس والمهلّبيّة يتجمّعون على بوّابتها في الصباح، لم تكن هي ذاتها الّتي تحوّلت في لحظة إلى جثمان كبير وكارثة تصرخ على الفضائيّات. خبز ملطّخ بالدماء على الأرض، أمّهات يركضن أمام الشاشات، أطفال تحوّلوا لأشلاء، كراسي المدرسة تغيّر شكلها تمامًا، لقد استهدفوا كلّ شيء، استشهدت المدرسة مع عشرات الشهداء.

هذه المدرسة في الحقيقة ذاكرةٌ منتعشة، لكن لا أعلم ما هي أزمتهم مع الذاكرة؟ هل توجعهم؟ كيف من الممكن أن نرثي ذكرياتنا؟

هل يكفي أن نكتب عنها لنعود مرّةً أخرى إلى حيث كنّا قبل أعوامٍ طويلة، ونحن نمشي بجانب المدرسة ونسمع النشيد الوطنيّ الصباحيّ، ونشاهد الباعة على البوّابة ونبتسم للأطفال وهم يدخلون المدرسة، مثل النمل المتسرّع المتعجّل إلى شيءٍ ما.

شيءٌ ما متوحّشٌ غدر بذاكرتنا، وشيءٌ ما فينا يريد أن يتذكّر كلّ شيء، وشيءٌ ما يريد أن يبكي، وشيءٌ آخرُ يريد أن يتوقّف كلّ شيءٍ لنفهم أنّ هذا يحدث، يحدث فعلًا. قصفوا الشارع والبيت والمدرسة والجامعة والفكرة والجرح، لكن لا أعلم حقًّا، كيف أرثي فكرةً أؤمن بها بأنّ الذاكرة لا تموت... أنّها فقط تتجرّح.

 

 

إنّها الحقيقة

بعد معاركَ طويلةٍ مع الصراخ

عرفتُ أين أنا

إنّها بئرٌ عميقةٌ مِنَ الموتى

والحزن الطويل

 

الصراخ صار له شكلٌ جديد

وله رائحة «البونبون»

وها أنا ذا كلّما صرخت

ردّد ورائي الأطفال

ردّدتْ ورائي كلّ المشاهد الّتي ماتت فجأةً أمامي

ردّدوا جميعهم نشيدًا واحدًا

نشيدًا ذائبًا في الصورة

ذائبًا في الغياب

وذائبًا في الموت

 

وها أنا كنتُ كلّما صرختُ صرخةً

سمعتُ الفاخورة

أبو حسين

وشارع المدرسة

شارع الجامعة

مستشفى الشفاء

مستشفى القدس

المعمدانيّ

الجيران

الأصدقاء

الأعياد وأصوات الأطفال

الضجيج والسيّارات وشارع الجلاء

شارع الوحدة

شارع صلاح الدين

سمعتُ صوت الخبز وهو يذوب في الدم

سمعتُ طقطقة الخشب وهي تغلّف كلّ شيء

لكنْ شاهدتُه وهو يموت

شاهدتُه

رغيف الخبز

 

قال لي أحدٌ ما: لقد مات الحيّ كلّه

وحاولتُ أن أفهم ما يقول

كيف مات الحيّ؟

فبكى وتركني أحاول

 

قال شخصٌ آخرُ: مات كلّ أصدقائي

وبكى وتركني أحاول

قال آخر: العطش في كلّ مكان، وللموت رائحة

لم أفهمه، وتركني هو الآخر أحاول

 

لا أعلم كيف أمكنهم أن يقتلوا مدينةً

أن يقتلوا الطريق

والسياق

والبيوت

Live

وكيف قتلوني هكذا... باحترافيّة

باحترافيّة

 


 

نور بعلوشة

 

 

كاتبة فلسطينيّة من قطاع غزّة، تقيم في السويد؛ تعمل في مجال حقوق الإنسان؛ حاصلة على ماجستير في الشرق أوسط من «جامعة ستوكهولم»، وهي عضو «اتّحاد كتّاب فلسطين».

 

 

التعليقات