06/02/2024 - 21:42

لن يعود شيء كما كان يا غزّة

لن يعود شيء كما كان يا غزّة

طفل فلسطينيّ نازح إلى رفح، قطاع غزّة، 05/02/2024 | عبد زقّوت

 

ربّما تُعَدّ الكتابة في مثل هذه الأيّام ضربًا من ضروب التخفيف عن الروح الركيكة، أو مواساة تجعلنا نعتقد أنّنا بتعبيرنا عن مشاعرنا إنّما مزّقنا حاجز العجز والفقد واللاتصديق. أغبط حقًّا كلّ مَنْ استطاع أن يفعل شيئًا آخر يجعله يصفح عن نفسه بعد سنوات، عندما سيحاسب كلٌّ منّا نفسه عن هذه الأوقات. أغبط كلّ مَنْ استطاع أن يكون حياديًّا أو قويًّا، كلّ مَنْ عضّ على يده حتّى سال الدم وتحمّل دون أن يصرخ، كلّ مَنْ فهم حقيقة البؤس ووحشيّة العالم منذ البداية، ولم ينتظر معجزةً تعيد للعالم لونه، وللوطن رائحته ومعناه.

يقينًا لن أشعر في حياتي بما أشعر به الآن من بحرٍ ينفتح في أعماقي من الخيبات والعجز، كلّ ما أردتُ عمله في بادئ الأمر المضيّ في العمل في الغربة؛ كي أتوازن نفسيًّا على الأقلّ وأنا أحلم بعودتي لغزّة، حيث يكون لي دور ما بصفتي طبيبة. ذلك ما أقنعتُ به نفسي وأنا أنادي ليلًا أهلي وبيتي وصديقاتي وبحرنا، عندما كنتُ أبكي أذكّر نفسي بالصبر، فلا بدّ من أن يأتي وقت يكون لي في بلدي دور، بل دور كبير.

طعم الأيّام مرّ، أمرّ من الموت، وعندما يكون طعم الأيّام ممكنًا؛ فذلك عندما أعتقد وهمًا وأملًا كاذبًا أنّني في حلم، وأنّ كلّ ما جرى في غزّة محض خرافات سنصحو على زيفها معًا...

طعم الأيّام مرّ، أمرّ من الموت، وعندما يكون طعم الأيّام ممكنًا؛ فذلك عندما أعتقد وهمًا وأملًا كاذبًا أنّني في حلم، وأنّ كلّ ما جرى في غزّة محض خرافات سنصحو على زيفها معًا، ونضحك معًا عليها، وقد اتّبعتُ مبدأ الإنكار طويلًا  كي أصمد في وحدتي وغربتي أمام الجنون، وأنا الّتي كنتُ أستخدم ورقة غزّة حلًّا وخلاصًا كلّما ضاقتْ عليّ وجوه الناس والأيّام.

لقد بدأتُ فقط مؤخّرًا أصحو على حقيقة أنّي لستُ في غزّة على الأقلّ الآن، وأنّ أغلب أبنائها في الخارج يعيشون صراعًا شبيهًا؛ إذ وجدوا أنفسهم مضطرّين إلى التعاطف مع أنفسهم وموتهم وموت ذويهم وأحبابهم،  والتعامل مع مدينتهم كأنّهم غرباء، وذلك قد يفضي في النهاية إلى فعلٍ ما خارج دائرة الدعاء، والتوجّع والبكاء، الّذي بدوره قد يسير أيضًا على نحو موازٍ مع كلّ ما سبق ذكره؛ ذلك الفعل الّذي نمارسه كخارجيّين للأزمة، متناسين فقدنا الشخصيّ، وألمنا وتمزّقنا الداخليّ ونحن نرى حجارة طفولتنا وحياتنا كلّها تهوي لبِنة لبِنة. فعل قد يكون هو ما يرفع عن روحنا الاختناق والثقل، وربّما هو ما سينفع بلادنا وأهلنا حقًّا، وهو الّذي سيحمينا من تحطيم مرايانا ونحن نحاسب وجوهنا فيها بعد سنوات، ونحن نسأل أنفسنا هل فعلنا كلّ ما في المستطاع حقًّا؟ أعني كلّ أنواع الفعل الحاليّ من تبرّع وتظاهر وحمل شعارات في وجه الإمبرياليّة الغربيّة والتقاعس العربيّ البشع. حتّى ذلك الّذي قد يعرّضنا للخطر أحيانًا قد يكون أعلى صوتًا من بكائنا وحيدين.

أنا نفسي - ابنة غزّة - لا أعلم إن كان ذلك ما قد يرفع عن الغزّيّ وجع أنّه بلا بيت، وأهله بلا مأوًى، وأنّ ما يرسله من نقود لهم يصل متأخّرًا، وقد لا يصل، وأنّه يتابع حياته مرغمًا بينما تغيب وجوه الحبّ في وطنه في ضياع، وهو يغيب أيضًا في ضياع أكبر وأكثر رماديّة.

لكن يبقى السؤال الحقيقيّ: إذا لم نستطع أن نقدّم دمنا لغزّة فماذا نقدّم؟ أيّ شيء أرخص من ذلك ماذا قد يفيد؟ أعني الخلاص من عقدة النجاة هذه، هل يشفيها الرجوع بعد سنين منساقين إلى الحنين الشائك كحقول أقحوان أحمر ومدجّجين برغبتنا لتعويض مَنْ عانوا عن معاناتهم؟ هل يكفي أن نقول لغزّة كلّ مساء "سامحينا"؟ هل يشفيها تكريس كلّ عائد نفسيّ ومادّيّ لاحق للمكان وأهله؟ وهل أبدو عاطفيّة إلى هذا الحدّ؛ إذ أنفي كلّ ذلك أو أدّعي أنّ الأمر برمّته ليس سهلًا؟

ربّما تكون العاطفة، وربّما القهر أو أيّ مسمًّى لذلك الشعور الّذي جمّدني طيلة أشهر وأنا أحاول أن أفهم أميالًا تُحْفَر بيني وبين واقعي، وتجعلني أشعر بالخجل بأنّي لستُ مكان أهلي، وإنّما تلك الفتاة الّتي تكتب بحزن عنهم، بعيدة كلّ البعد في عالم منفصل جغرافيًّا وجافًّا كلّ الجفاف، وبائس بل مشترك في الجريمة، وأنّي تلك الفتاة الّتي ستحمل القصص معها، ككثير من المغتربين، حتّى بعد فناء العالم، في زوايا خفيّة للروح.

لكنّي في نهاية الأمر لا أريد أن أكون متشائمة، ولستُ أكتب لأقول إنّ البكاء أو الكتابة أو المشاركات على مواقع التواصل شيء ركيك، لكن لكي أفكّر بصوت عالٍ في ما يجب فعله، وفي ما أستطيع أنا هنا والآن فعله، وهي وهو. ليس بأمر هيّن عندما تكون أنت نفسك صاحب النزيف والكسر.

على ما يبدو سنكبر جميعًا بذلك الندب، لكن لا بأس، على ذلك الندب أن يكون ساطعًا كشمس على سواعد صمدتْ وقاومتْ، وليس على سواعد انكسرتْ وانهزمتْ

 لقد أردتُ أن أثني على القادرين الماضين في دروب حقيقيّة، رغم أنّه لم يَعُدْ هناك شيء حقيقيّ بكلّ معنى الكلمة. ربّما علينا جميعًا أن نحاول بأيّ شيء مهما صغر أن نغيّر واقعنا، بدلًا من أن نحلم بأن يعود الواقع كما كان؛ فعلى ما يبدو بعد مرور نحو أربعة أشهر لن يعود شيء كما كان، وهذا موطن آخر وأبديّ للوجع.

بتُّ أحاول أن أروّض نفسي، أن أخيط الجرح وأضع الضمّادات، بدلًا من تخيّل مظهر الجلد قبل ذلك، فعلى ما يبدو سنكبر جميعًا بذلك الندب، لكن لا بأس، على ذلك الندب أن يكون ساطعًا كشمس على سواعد صمدتْ وقاومتْ، وليس على سواعد انكسرتْ وانهزمتْ، وذلك أضعف الإيمان.

 


 

آية رباح

 

 

طبيبة وكاتبة من غزّة، تخرّجت في كلّيّة طبّ فلسطين عام 2017. فازت بعدّة مسابقات للقصّة القصيرة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، وتنشر المقالات والقصص في مواقع ومجلّات فلسطينيّة وعربيّة.

 

 

 

التعليقات