28/12/2021 - 22:13

الثقافات البصريّة المتضامنة مع فلسطين: نظرة تاريخيّة | ترجمة

الثقافات البصريّة المتضامنة مع فلسطين: نظرة تاريخيّة | ترجمة

 

المصدر: Journal of Visual Culture Palestine portfolio.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة.

 

على مدى الشهور القليلة الماضية، شهدت منصّات التواصل الاجتماعيّ انفجارًا في تعبيرات التضامن مع فلسطين. عبّرت وسوم مثل #أنقذوا_الشيخ_جرّاح و#غزّة_تحت_القصف و#فلسطين_حرّة و#من_النهر_إلى_البحر عن دعمها للفلسطينيّين الّذين يقاومون تشريدهم من بيوتهم، ورفضت الأبارتهايد الإسرائيليّ وعنصريّة المستوطنين الصهاينة، وأدانت وحشيّة الحصار المستمرّ والهجوم على غزّة. على الرغم من الحجب الأوّليّ، فإنّ الكثير من التغريدات والميمز (Memes) والصور انتشر على نطاق واسع، وربط النشطاء الفلسطينيّين في القدس الشرقيّة المحتلّة، والضفّة الغربيّة، وداخل إسرائيل، مع الفلسطينيّين في المنفى، ومع أعداد متزايدة من المتضامنين من كلّ أنحاء العالم. تبع ذلك تصريحات وبيانات قويّة عبّرت عن الدعم والتعاطف الدوليّ الأكاديميّ والفنّيّ، وقّعها الآلاف وأعلنوا بفخر تبنّيها عبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعيّ. كُتِبَت الوسوم نفسها على اللافتات، وتكرّرت في مسيرات تضامن في شوارع مختلف كبريات مدن العالم. فجأة، كُسِرَ الصمت. سُمِعَتِ الأصوات الفلسطينيّة الشجاعة الّتي لطالما حاربت من أجل العدالة والحرّيّة، وألهمت الكثيرين من أجل أن يرفعوا غطاء الخوف الّذي كان قد منعهم من أن يصدحوا بالحقّ ضدّ القوّة. متى حدث كلّ هذا؟

 

صورة 1: ملصق «فلسطين» صمّمه رفائيل إنريكيز لمؤسّسة التضام
مع شعوب آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينيّة، وكوبا. بلا تاريخ. مجموعة الكاتبة.

 

بالتأكيد، لا يعود الفضل كلّه إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ وحدها. لا شكّ في أنّ هذه المنصّات تسهّل الربط مع الفلسطينيّين وبينهم، في جغرافيا مجزّأة، وفي المنافي، وتوفّر بديلًا شديد الأهمّيّة لتعتيم الإعلام الغربيّ الواسع، والتزييف الوقح لواقع الفلسطينيّين ونضالهم المشروع. لكنّ الحراكات الاجتماعيّة لا تصنعها وسائل التواصل الاجتماعيّ. بل ثمّة سؤال سياسيّ في العمق حول الطرق الّتي تتشكّل من خلالها حركات التضامن العابرة للحدود، من خلال الأنشطة التواصليّة. هنا، يتعلّق السؤال بالكيفيّة الّتي يصبح فيها النضال الفلسطينيّ مفهومًا، من خلال ممارسات النشطاء الخطابيّة والبصريّة. على مدى السنوات القليلة الماضية، كنّا نشهد نشوء حقل خطابيّ مضادّ للهيمنة، يربط بين الظلم التاريخيّ الّذي يؤسّس للنضال الفلسطينيّ والحركات الأصلانيّة المتحرّرة من الاستعمار، وحركة «حياة السود مهمّة». بناء يتسارع في المساحات الأكاديميّة، وفي مساحات الاحتجاج العامّة[1][2]. حرّك معجم مفاهيم مترابطة – مع أدبيّات نظريّة وإمبريقيّة تعزّزه – الإطار المعرفيّ المتعلّق بالنضال الفلسطينيّ منذ عام 1948، وغيّر كيف يمكن أن يُوْصَف بشكل ذي معنى، ويُفْهَم، ويُقاتَل به، متركّزًا حول ثيمات تقاطعيّة، مثل التفوّق الصهيونيّ، والعنصريّة البنيويّة الممنهجة، والاستعمار الاستيطانيّ والأبارتهايد. نجح كلّ هذا في الوقوف في وجه الإطار التشويهيّ الّذي يقدّم ‘صراعًا‘ مبنيًّا على الدين، صراع غير متكافئ بين ‘دولة شرعيّة‘ و‘إرهابيّين‘. الأهمّ من ذلك أنّ نظام الخطاب المضادّ للهيمنة هذا، كسر إستراتيجيّة إسكات منتقدي إسرائيل عبر تهم معاداة الساميّة، الّتي لا أساس لها في أغلب الأحيان. إضافة إلى هذا التغيير في نظام الخطاب، ثمّة البُعْد العاطفيّ والخياليّ، الّذي يكون من خلاله التعبير عن التضامن العابر للحدود مع فلسطين واستخدامه. المهمّ هنا هو الطريقة الّتي تعمل بها سياسات التضامن البصريّة والثقافيّة على خلق شعور بالقوّة، وجماليّة تحمل بداخلها الأمل.

 

ملصق «عاش التضامن العالميّ ضدّ الإمبرياليّة والصهيونيّة»، صمّمه الفنّان الفلسطينيّ
إسماعيل شمّوط، الهيئة الوطنيّة الفلسطينيّة من أجل مؤتمر شباب وطلّاب العالم، برلين،
منظّمة التحرير الفلسطينيّة، 1973. مجموعة الكاتبة.

 

لكنّ حقول التضامن الإلكترونيّ مع فلسطين ليست جديدة تمامًا؛ فقد مهّدت لها حقول الثقافات البصريّة والمطبوعات خلال عقد الستّينات حول العالم. كان التضامن العابر للحدود محوريًّا في الخيال الراديكاليّ، الّذي ربط اليسار الجديد وحركات الحقوق المدنيّة في الشمال بالنضالات ضدّ الاستعمار والإمبرياليّة في الجنوب[3]. ارتبطت حركة التحرّر الفلسطينيّة الشديدة التأثير مع الهياج العالميّ الثوريّ ضدّ الاستعمار. مع أنّه قد أُقْصِيَتْ حركة التحرّر الفلسطينيّة من تاريخ هذه الفترة المحمومة، إلى حدّ الصمت عنها تمامًا. لكن، في الستّينات، أزالت حركة المطبوعات السريعة الانتشار الغطاء عن القضيّة الفلسطينيّة، وعبّرت عن الجماليّات الثوريّة المناهضة للإمبرياليّة، وجعلتها مفهومة لحركات التضامن العابرة للحدود الوطنيّة (انظر إلى الصور 4،2،1). إنّ ما حدث من تسييس لدور الفنّان في ذلك المفترق التاريخيّ المهمّ أنتج حساسيّات جماليّة جديدة، حُمِلَتْ عبر المطبوعات الّتي تَسْهُل إعادة إنتاجها، كالملصقات والبطاقات والطوابع والمنشورات والدوريّات والكتب المصوّرة[4]. أُعيدَ تصوير الجماليّات العربيّة المتضامنة مع فلسطين لتلائم خطوطًا ثوريّة نقلت صناعة الفنّ من اللوحة الثابتة إلى المطبوعات الّتي تَسْهُلُ إعادة إنتاجها، وحرّرت الفنّ من صالات العرض إلى المساحات العامّة في الشوارع ومخيّمات اللجوء وقواعد الثوّار[5].

 

ملصق «الأوّل من أيّار»، صمّمه جهاد منصور (الاسم الحركيّ لمارك رودين، فنّان سويسريّ
المولد، التحق بالجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في لبنان في السبعينات)، القيادة المشتركة
للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين، بلا تاريخ.
​​من مجموعة أ. بو جودة.

 

من حيث الثيمات، اسْتُحْضِرَت صورة النضال الثوريّ الفلسطينيّ في صورة الفدائيّ العابرة للمناطق (يشير اسم الفدائيّ حرفيًّا إلى الفداء من أجل الخير الأعظم). حاز الفدائيّ الفلسطينيّ على مكانته إثر اتّخاذ حركة التحرّر الفلسطينيّة شكل حرب الشوارع، بعد الحرب العربيّة الإسرائيليّة الكارثيّة عام 1967. أتت هذه الشخصيّة الرمزيّة لتمثّل قطعًا مع صورة الفلسطينيّ بوصفه لاجئًا سلبيًّا، وتحوّله إلى البطل الثوريّ المحارب من أجل الحرّيّة (انظر الصورة 3). اسْتُبْدِلَتْ بالإشارات اللغويّة العربيّة تمثيلات بصريّة للفدائيّ؛ وهو ما وضع التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ ضمن التصوّرات العابرة للحدود للنضالات ضدّ الاستعمار والإمبرياليّة. هذا الانزلاق كان ما أعطى الفدائيّ طبيعته العابرة للمناطق. الكوفيّة المحلّيّة الثابتة، رداء الرأس الفلّاحيّ الشاميّ الّذي وظّفه الفدائيّ من أجل إخفاء هويّته، تحوّلت إلى رمز قوميّ فلسطينيّ، ومقاومة رمزيّة ضدّ الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ؛ إذ إنّ رمز الفلّاح يشكّل رابطًا عضويًّا بالأرض[6]. لكنّ الفلّاح الّذي تحوّل إلى مقاتل من أجل الحرّيّة في وجه الاستعمار في فلسطين، كان كذلك في طور الخروج كيانًا ثوريًّا في الصين وكوبا وفيتنام، في الفعل الحربيّ والفكر الثوريّ. كما لاحظ فريدريك جامسون أنّ صورة المقاتل الثوريّ الجوّال، تسبق التحوّل اليوتوبيّ الثوريّ خارج ‘المضمار الحقيقيّ‘ للسياسة والجغرافيا والطبقات الاجتماعيّة التاريخيّة، والانقسام بين عمّال الثورة (الفلّاح والجنديّ والعامل والمثقّف الطليعيّ)، "إنّه بذاته، تجسيد للمجتمع الثوريّ المتحوّل الّذي سيأتي"[7]. لقد كان الفدائيّ مجازًا جوهريًّا عَبَرَ الحدود، وتجاوز التخيّلات، وألهم بالقوّة حين حُوِّل إلى شيء جماليّ في الأفلام، والملصقات والدوريّات. كانت قدرة هذه المساحات الإعلاميّة على التحرّك والتطويع، هي ما نشرت المخيّلة الثوريّة عبر الحدود الوطنيّة والحواجز اللغويّة، وساعدت على تعريف المفاهيم – والحساسيّات الجماليّة - الخاصّة بالتضامن العابر للحدود بين القرّاء والمشاهدين. كانت المخيّلة، إذن، في قلب التضامن العابر للحدود خارج التجربة المباشرة. هنا، يكون دور البصريّات العابرة للمناطق - بوصفها مساحة للتعريف الإبداعيّ والتغيير - أساسيًّا في التضامن.

 

رسمة توضيحيّة في كتاب، رسمها الفنّان السوريّ برهان الدين كركوتلي في
«أطفال غسّان كنفاني»، دار الفتى العربيّ، 1977. مجموعة الكاتبة.

 

إذا ما كانت صورة الفدائيّ المذكّر، لابس الكوفيّة وحامل السلاح، قد جعلت النضال الفلسطينيّ للتحرّر مفهومًا عبر الحدود في الستّينات الثوريّة الطويلة، فإنّنا اليوم أمام فرصة جديدة للتأثير في أفق الفهم. إنّنا أمام فرصة تضع فلسطين نموذجًا للتحرّر العمليّ من الاستعمار، وتربط نضال الفلسطينيّين من أجل الحرّيّة مع المقاومة الدائرة ضدّ العنصريّة والقهر الاستعماريّ، وكلّ أشكال الظلم التقاطعيّة. إذا ما بدأنا بفهم "فلسطين قضيّة نسويّة"، كما يدعونا التجمّع النسويّ الفلسطينيّ، فإنّ بإمكاننا أن نتخيّل، وأن نبني مستقبلًا مختلفًا تمامًا وعادلًا للجميع. كما كان الردّ البليغ لنورة عريقات، الباحثة الفلسطينيّة والناشطة من أجل حقوق الإنسان، على المخاوف الإسرائيليّة عمّا ستحمله الحرّيّة الفلسطينيّة لهم: "بإمكانكم أن تبقوا، ولكن ليس أسيادًا لنا".

 


إحالات

[1] Omar Jabary Salamanca, Mezna Qato, Kareem Rabie & Sobhi Samour eds. (2012) Past is Present: Settler Colonialism in Palestine (special issue). Settler Colonial Studies, 2:1.

[2] Noura Erakat and Marc Lamont Hill eds. (2019) Black-Palestinian Transnational Solidarity (special issue). Journal of Palestine Studies, 48: 4.

[3] Maasri Zeina (2020) Cosmopolitan Radicalism: The Visual Politics of Beirut’s Global Sixties. Cambridge: Cambridge University Press.

[4] Maasri Zeina (2020) Cosmopolitan Radicalism: The Visual Politics of Beirut’s Global Sixties. Cambridge: Cambridge University Press.

[5] Boullata Kamal (1970) Nahwa fan Arabi Thawri (Towards a revolutionary Arab art). Mawaqif, 2(9) (May–June), 26–44

[6] Swedenburg Ted. (2003) Memories of Revolt: The 1936–1939 Rebellion and the Palestinian National Past. Fayetteville, AR: University of Arkansas Press.

[7] Jameson Fredric. (1984) ‘Periodizing the 60s’, in Jameson et al. The 60s Without Apology. Minneapolis: University of Minnesota Press in cooperation with Social Text, 178-209.

 


الكاتبة زينة مصري، محاضرة في مدرسة العلوم الإنسانيّة في «جامعة برايتون»، إنجلترا. يتمحور عملها البحثيّ حول الشؤون العالميّة في التصميم البصريّ.

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

 

 

التعليقات