08/07/2016 - 15:34

"كلّ المعارك": مصارعة الأشباح فوق الحلبة

ما الّذي يشدّ الملاكم/ المقاتل إلى كلّ هذا العنف؟ ما الّذي يغويه في انهيارات جسده المتتالية؟ وما الّذي يقوده إلى التّعمّق في وجعه ووجع منافسه؟

"كلّ المعارك": مصارعة الأشباح فوق الحلبة

“أنت الآن مقاتل، فكّر في لحظات صمته. لستَ مدير تنفيذ استراتيجيّات تسويقيّة مختصًّا بالسّلع السّريعة المبيع والإعلانات التّكتيكيّة، بل مجرّد مقاتل. صنعة أزليّة يفهمها أجداد أجداده ويهزّون رؤوسهم بصمت موافقين'.

يأخذنا معن أبو طالب في روايته الأولى، 'كلّ المعارك' (كتب خان، 2016)، إلى عالم الملاكمة ليسترجع عبره سرديّات متّصلة بالعنف والقتال؛ فالشّخصيّة الرّئيسيّة، سائد حبجوقة، شابّ أردنيّ يسكن في عمّان الغربيّة ويعمل في شركة إعلانات ويقيم علاقة مع امرأة من أسرة ميسورة. حتّى الآن، كلّ الإشارات تنبئ بمستقبل وحياة حدودهما مرسومة، متوقّعة، خالية من التّقلّبات. لكنّ شيئًا ما يدفع سائد إلى رفض انسيابيّة الأحداث في حياته وحتميّتها، فيتوقّف ويغوص في ما يقبع تحتها وخارجها، أي إلى المنبوذ منها والمحجوب عنها. فمن خلال جولة اعتياديّة على اليوتيوب، يقع سائد على نزّالات ملاكمة تشدّه إليها وتحوّل مسار حياته.

أين هم؟

إلى عمّان الشّرقيّة عَبَر، وفي أزقّتها جال يبحث عن نادي الملاكمة، وفي عالمه نسي نفسه. فجأة بدأ يتمرّن، وبسرعة قياسيّة فاز بنزالات على خصوم محلّيّين؛ وعند حصوله على عقد عمل يشترط عليه التّمرّس والسّفر والتّخلّي عن حياته السّابقة، أصابته الحيرة. ما سرّ افتتانه بالقتال؟ بهذا السّؤال توقّف سائد عند مآلات أجيال متعاقبة من المقاتلين الّذين لم يبقَ أثر لهم. أين هم؟ وماذا بقي منهم؟ ولمَ هذه القطيعة مع إرثهم؟ تلك هي الأسئلة الّتي ترافق الملاكم/ المقاتل وتقوده في عنفه ووجعه وانهيارات جسده المتتالية لمواجهة أشباح تجول في ذاكرته وعلى جسده وتترك ندوبًا فيهما.

في عالم 'كلّ المعارك' الرّوائيّ، تبدو الحدود بين الجماعة والفرد، المحسوس والمجرّد، الماضي والحاضر، الشّخصيّ والسّياسيّ، وكأنّها في مخاض دائم. فمن خلال رحلة اكتشاف حدود جسده، في عنفه وضعفه، يعود الملاكم إلى ما كان دائمًا حوله لكنّه لا يراه،  إلى قصّة جدّه الشّركسيّ الّذي قاتل الرّوس حتّى آخر رمق في قريته بالقوقاز؛ وإلى قصّة خاله المقاتل الّذي هجّرته النّكبة طفلًا وجنّدته النّكسة شابًّا يقاتل في المعسكرات فيمدّها بقوّته ويستمدّ قوّته منها.

سرديّات

قصص الخال والجدّ الظّاهرة/ الخفيّة، سرديّات معاركهما وتنقّلاتهما وبطولاتهما ونهاياتهما الّتي لم تكن قد بدأت تتكوّن في ذهن سائد، تمثل أمامه، لا من خلال القول، بل من خلال كلّ 'جملة لكميّة' يتعلّمها الملاكم/ المقاتل. في لحظة تجلّي سيرة المقاتل الأوّل، تتّضح لسائد سرديّات مقاتلين آخرين قاتلوا ومضوا كأديب الدّسوقي، بطل فلسطين في الملاكمة بالثّلاثينات، والّذي أصبح بعدها بطل العالم العربيّ، لينتهي بطل ذاكرة مفقودة لم تُبقِ منه شيئًا.

لكن ما الّذي يشدّ الملاكم/ المقاتل إلى كلّ هذا العنف؟ ما الّذي يغويه في انهيارات جسده المتتالية؟ وما الّذي يقوده إلى التّعمّق في وجعه ووجع منافسه؟

الشّبح

عند اكتشاف سائد لذاته في السّرديّات التّاريخيّة، واكتشاف السّرديّات التّاريخيّة في سيرة جسده، يلتحم البعدان العاطفيّ والسّياسيّ من خلال تجربة الأجيال المتتالية مع الذّاكرة؛ فالأجيال بهذا المعنى، مؤسّسات زمنيّة تتناوب على تأطير الذّاكرة وممارساتها. كلّ جيل يُظهر آليّة مختلفة لتذكّر العنف الّذي ينتج عن توالي أحداث مؤسّسة؛ ففيما يمرّ الجيل الأوّل من أبطال الملاكمة والقتال بتجربة الفقدان العنيفة (والتّهجير والنّكبة والنّفي)، يعيشها الجيل التّالي، أي جيل الأهل، بصمت ونكران، فيما يرِثها الجيل الثّالث، جيل سائد، ويقف على حطامها.

ذكرى العنف التّاريخيّ الّتي ورثها سائد لا يمكنها أن تصلنا خطابيًّا، لأنّها سبق وجُرّدت من كلّ دلالاتها ومفرداتها، فوقعت خارج الزّمان وخارج القول. لذلك، بدلًا من أن تتجلّى في القول، تظهر سطوتها في المعيش الانفعاليّ والجسديّ للملاكم/ المقاتل، فتتحوّل الأسرار الدّفينة والألم والصّدمات المتعلّقة بالأجيال الماضية إلى وسواس، إلى شبح يسكن سائد ويعود ليعبث بحياته، هو الغافل عن ماضيه. فهذه الأسرار الّتي تحتلّ الملاكم تهيمن عليه وتتحوّل فيه وتحوّله إلى كائن يرجو حتفه ويسعى إليه.

على الشّبح أن يحتلّ مكانًا وأن يتموضع، حرفيًّا ومجازيًّا. في 'كلّ المعارك' يتحوّل جسد الملاكم إلى ذاك الوعاء، مسرحًا للمطاردة العابرة للأجيال؛ فإذ تعود إلى القوقاز ثمّ النّكبة، أي اللّحظات الأولى للفقد الجماعيّ، تتحوّل هذه الذّاكرة الجماعيّة إلى مطاردة شبحيّة تحوم حول جسد الملاكم. فكما نزق الشّبح يصير جسد الملاكم قلقًا ومتقلّبًا، وكما يسكن الشّبح أماكن مهجورة منسيّة، يسكن جسد الملاكم ويفرض عليه انتكاساته. بهذا المعنى يتصرّف الشّبح ككيان طفيليّ يعرّف عن نفسه فقط من خلال الخراب الّذي يمارسه.

تفتّت الجسد

يشير العنف المصاحب لسقوط الملاكم إلى جماليّات المنبوذ؛ فالمنبوذ هنا يتجلّى في مشاعر الخوف والقرف جرّاء رؤية تفتّت جسد، أو شمّه، أو تذوّقه في لحظات انهياره. المنبوذ هنا هو الدّماء والبول وسائر السّوائل الآدميّة الّتي يواجهها الملاكم/ المقاتل ويواجه محيطه بها. لكنّ جسد ملاكم 'كلّ المعارك'، إذ يدمع ويتعرّق ويبول دمًا، يتحوّل إلى كائن يثير الرّعب والقرف والسّخط، لكن يشير، من خلال تفتّته، إلى أنّه حيّ. الجميع ينظرون إليه، يمسحون دماءه وينظّفون جراحه بذهول. هم يرون حتفهم بآلامه ونهايتهم بهزيمته، فهو شاهد على إمكانيّة حياتهم وزوالها.  

في 'كلّ المعارك'، يرتطم الملاكم أرضًا وينكسر، لكنّه يواجه رهطًا من أشباح الذّاكرة، تعود إليه لتسرد له قصصها ثمّ تمضي، لكنّها لا تتركه بسلام.

* أستاذة الأدب العربي في جامعة نورث كارولينا.

التعليقات