06/01/2019 - 03:02

"كتاب الأعمى" الّذي زادني بصرًا

كايت سالمون | scene360


الشعر - إن كان جميلًا - يدفعني إلى أن أختلي به، أكشف عنه صفحاته، وأفتّش داخلها عنّي أو عن الحياة كما أراها من حولي، وإن أوقعني الكاتب في شباكه، أستسلم لقطار صوره وصوت محرّكه، تكون روحي سككًا حديديّة غير منتظمة؛ الذنوب الخشب ليست متصالحة مع الذكريات الحديد.

الكاتب الحقيقيّ بالنسبة إليّ مَنْ يقسو على سككي، ويصرّ على الوصول إلى عمق لا أصله وحدي من روحي، وأنا بدوري أهتف وأصفّق للكاتب، وربّما أبكي انتصارًا وألعنه، كأنّه يعود سالمًا من حرب عالميّة أخيرة. حين تدلّني الكلمات على روح الكاتب - القمر الّذي أظنّه يتابعني وحدي في الطرقات - أركض إليه، وأصله ربّما قبل أن يصلني، أعانقه بحرارة وقدسيّة، وأقبّل عينيه اللتين تمكّنتا من أن تنالا من مخاوفي، في الحياة والطبيعة والحبّ.

 

من أذنيه إلى آذاننا

بدر عثمان، الشاعر الهامس والأعمى الجميل، يلقي علينا في "كتاب الأعمى" (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، 2018) لعنة الكتابة الأبديّة، ويروي لنا أثره في جبال وقرًى وصحارٍ عاشها، ويروي أثرها فيه، يروي لنا قصّته معنا، بصفته أعمى، ونحن بصفتنا رعاة أو ربّما أغنامًا، يروي لنا من أعلى قمّة من قمم الستّة والعشرين عامًا - بعد أن خدع، بالتأكيد، الزمن العجوز بأعوامه القليلة - سيرة الأعمى من لحظة تمكّنه من رؤية ما لا نراه، إلى لحظة عدم تمكّننا من رؤيته.

 

غلاف "كتاب الأعمى"



أغراني الكتاب بأن أختلي به، وأقنعني بأن أستسلم لقطاره يعتدي على سككي. وبدر عثمان، الّذي يحدّد "أنا لا أقول الأشياء الّتي أقولها لأنّني أفكّر فيها، أنا أقولها لأنّها لم تعد ما أفكّر فيه"، يقسو عليّ قارئًا إنسانًا، وأنا حين أصل بدرًا راكضًا، أراه قد سبقني في الوصول إليّ، وحين أهُمّ بتقبيل عينيه اللتين تبصران الشعر، أشعر بأنّني قد ظلمت عصاه وأذنيه! وهنا - من وجهة نظري المحدودة جدًّا في الشعر - تتجلّى أهمّيّة هذا الكتاب؛ فهو لا ينقل الصورة من عينيه إلى عيوننا فحسب، بل أيضًا من أذنيه إلى آذاننا، وأحيانًا كثيرة يرى الشاعر هنا بأذنيه وجلده، ويرى في العتمة ما لا يمكننا رؤيته مع النور.

 

كأنّه قصيدة واحدة

يدفعنا الشاعر إلى أن نتعلّق بمجمل الكتاب؛ فهو مترابط ببعضه بعضًا، كأنّه قصيدة واحدة مقسّمة إلى فصول، لا إلى قصائد منفردة، تبني بالشعر حدثًا مذهلًا، يكسر فيه أفكارًا سائدة مسلَّمًا بها في مجتمعات عدّة. كثيرًا ما يصعب علينا أن نفكّ مقطعًا واحدًا، من هذا البناء الجميل غير العاديّ، الممتع والمدهش.

يقول الأعمى في الصفحة الثامنة عشرة، من أصل مئة وثلاث وثلاثين من القطع المتوسّط: "الخيال مثاليّة الواقع العرجاء"، ومن هنا، ومبكّرًا؛ أُدهش. بالنسبة إليّ، إنّها أبرز جملة جاءت في الكتاب، إلى جانب العديد من الجُمل الّتي - كما ذكرت - يصعب فكّها من سياقها، والأجدر بي وبها أن أتركها بجمالها الّذي تنتمي إليه في سياقها.

الكتاب غنيّ بلغة بسيطة، فيها الدهشة والوصف الخفيف الممتع، ويظهر ذلك جليًّا في الصفحتين  69 - 70:
‏"السماء
تأكل طرفَي القرية
‏والشمس واضحة
‏الهواء هنا بعيد
‏قريب
‏كالله
‏نوافذ البيوت زجاجيّة
‏كما عينيّ الأعمى   
‏وفي القرية
‏سبع نخلات يجعلن السماء
‏أبعد
‏وكان سقف الليل
‏أزرق حينًا
‏وحينًا أسود
‏والقرية أرض صغيرة
‏تُعيلها المواشي".


يلخّص هذا المقطع، الّذي يرد في الفصل الرابع من الكتاب، العناصر أو البيئة العامّة الّتي يعيش فيها هذا الأعمى، ويجعلنا نعيش معه ومثله فيها. وكما نلاحظ هنا، نلاحظ في كلّ الكتاب قلّة عدد الكلمات في السطر الواحد؛ ما ساعدني قارئًا على الانزلاق بسهولة إلى عالم الفراغ والعمى، كما ساعدني أيضًا على الاستمتاع بكلّ كلمة، والشعور بقيمتها داخل النصّ.

ويعتمد الشاعر كثيرًا - دون غلاظة أو ثقل - في وصفه، على استخدام تراكيب البدل، مثل "الحصان الريح" و"عجوزٌ خشبٌ" و"الغيم الحجر"، ويبدو ذلك مثيرًا؛ إذ إنّ الشاعر بتعريفها هكذا؛ يزيد كثيرًا من تعلّق القارئ بالنصّ، وإحساسه مجدّدًا بأنّه منحاز له، لا خارجه يتصيّد أخطاءه.

 

أبيض وأخضر

يذكر الشاعر في الكتاب، في الصفحة الثالثة والخمسين:
"بيضاء رائحة النهار
خضراء رائحة الليل".

ويلتقط الفنّان الكرديّ بهرم حاجو هذا ببراعة؛ إذ يستخدم اللونين الأبيض والأخضر في لوحة الغلاف لهذا الكتاب؛ فنرى ما يوحي بشجرتين باللون البنّيّ الداكن يحرّكهما الريح، متعانقتين ومتباعدتين في جذورهما، حيث تقف شجرة على ما يبدو كنهر لونه أبيض، في ما تقف الأخرى على نهر أخضر. وما لفت انتباهي أيضًا في اللوحة، أنّ النهر الأبيض، الّذي يرمز إلى النهار، طوليّ وضيّق ومحدّد الاتّجاه؛ يعكس طبيعة النهار، وكذلك بالنسبة إلى الليل، يبدو النهر الأخضر عريضًا وواسعًا ومجهول الاتّجاه.

 

لليافعين أيضًا

صدر الكتاب بداية عام 2018، عن "مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ" في رام الله، و"دار الفارابي" في بيروت، والكتاب حقًّا جدير باهتمام ناشرَين كبيرَين في الوطن العربيّ، وأرى أنّ هذه خطوة مهمّة في مشوار "مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ" في النشر؛ إذ إنّ المؤسّسة تستهدف فئتَي الأطفال واليافعين، ولكنّها تركّز على تقديم القصّة والرواية لهما أكثر من الشعر، وهذا كتاب شعر مناسب بالطبع لليافعين وغيرهم، وسيغني ذائقتهم واهتمامهم بالشعر، ولا سيّما أنّه شعر غنيّ بالقيم الإنسانيّة والحكمة.

ممّا لم يعجبني كثيرًا في هذا العمل، استخدام أسطورة سيزيف قرب نهاية الفصل الثاني، الّذي رأيت أنّه بعيد قليلًا عن جوّ الفصل العامّ وبيئته البسيطة، إضافة إلى أنّ هذه الأسطورة استُخدمت كثيرًا في الشعر؛ ما يتعارض مع الجديد الكثير الّذي يقدّمه الكتاب.

هذا الشاعر الفلسطينيّ يقدّر بوضوح الأرض والإنسان، وما يتعلّق بهما من مفاهيم ومدلولات بسيطة عظيمة. هذا الكتاب بالتأكيد من النوع الّذي يملأ آباري، ويجعلها تفيض فأكتب.

 

 

يحيى عاشور

 

شاعر فلسطينيّ من مواليد غزّة عام 1998. يدرس علم الاجتماع وعلم النفس في جامعة الأزهر – غزّة. عضو في عدد من الأطر والمبادرات الأدبيّة والأكاديميّة. حصل من "برنامج اليس" على منحة للتبادل الثقافيّ مدّتها عام في ولاية أوهايو الأمريكيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "أنت نافذة... هم غيوم" (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، 2018)، وهو حاصل على جائزة "كتابي الأوّل" من مؤسّسة تامر.

 

 

التعليقات