14/08/2019 - 23:45

ما بعد الحداثة... الإغواء بديلًا عن المواجهة

ما بعد الحداثة... الإغواء بديلًا عن المواجهة

phixino

خاص فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

قد يبدو من العسف المعرفيّ، اتّخاذ مواقف متطرّفة من الحركات الفلسفيّة الكبرى، "ما بعد الحداثة" نموذجًا، نظرًا إلى نتاجاتها الهائلة على الصعيد الإنسانيّ، العصيّة على التجاهل والهدم، لكنّ هذا لا يلغي حقيقة أنّ نقاشات محتدمة، ما زالت تأخذ مكانها على الساحة الأدبيّة والفكريّة في كلّ أنحاء العالم، نقاشات في مجملها تتجاوز الإلغاء والنمذجة إلى التأسيس والتأصيل المعرفيّ.

 

هل أنجز العرب شرط الانتقال؟

حتّى اللحظة، لم يخضع منهج "ما بعد الحداثة" في العالم العربيّ لفعلٍ بحثيّ كبير، هدفه التأصيل ورصد التحوّلات الّتي أحدثها على الأدب والفنون على وجه التحديد. يكاد الانشغال يكون الآن منصبًّا في معظمه على إرساء توصيفات فلسفيّة وأدبيّة لهذه الحركة؛ توصيفات لا تُحدث اختراقًا في جوهر الأنماط الفنّيّة والأدبيّة، الّتي ارتكزت على الغموض والدلالات والحوافّ المائعة، الّتي يستعصي القبض على معانيها وإشاراتها في المستوى الأوّل.

بصريًّا، تنحاز مجالات "ما بعد الحداثة" إلى الناحية الانطباعيّة المُغرقة في الذاتيّة؛ افتقار تامّ إلى الفهم الجماعيّ (الإدراك) للزاوية المشهديّة في العمل

تاريخيًّا، تبدو مهمّة الكشف عن ذلك كلّه في الغرب أسهل كثيرًا، بالتجاوز على ما طال الحركة من أسئلة تشكيكيّة وحركات نقديّة؛ نظرًا إلى أنّ "ما بعد الحداثة" جاءت في إطار متطلّبات التحوّل الجذريّ والعميق، على الصعيدين الاجتماعيّ والسياسيّ هناك، في حين أخذ الأمر - عربيًّا - شكلًا تأثّريًّا بالمنظومة الفلسفيّة الغربيّة، في الرسم والنحت والكتابة والعمارة، وغيرها من المجالات الّتي طالتها أيدي الحداثة وما بعدها، ولم يبنِ نفسه استجابةً لمتغيّرات عاصفة على الصعيد الداخليّ، طارحًا السؤال: هل أنجز العرب شرط انتقالهم، من مراحل التحديث والحداثة وما قبلها إلى ما بعد الحداثة؟

 

ذاتيّة وحدود سائلة

بصريًّا، تنحاز مجالات "ما بعد الحداثة" إلى الناحية الانطباعيّة المُغرقة في الذاتيّة؛ افتقار تامّ إلى الفهم الجماعيّ (الإدراك) للزاوية المشهديّة في العمل، في معاكسة متطرّفة للنمط السائد قديمًا، الّذي يرتكز على الإدراك محرّكًا أساسيًّا للعمل (ما الّذي جرى إدراكه؟).

فلسفيًّا، لا مواقف أخلاقيّة يمكن الإمساك في تلابيبها من نتاجات هذه الحركة؛ إذ تتمظهر كأنّها متحرّرة تمامًا من الشعارات الكبرى، أو الضمير الّذي يؤدّي دور المحرّك العاطفيّ للأعمال. ثمّة وعي مفرط بالذات، إذ إنّها تستند أساسًا على تكنيكات الكشف المكثّف عن مواطن الضعف والقوّة في النفس البشريّة، لتبدو في نهاية الأمر كذراعٍ صناعيّة للإنسان المهزوم عميقًا في عالم اليوم.

ثمّة تركيز بوتيرة عالية على الآليّات لا على الأهداف. ينطلق مجمل الأعمال في أنّها أعمال لا ترمي إلى شيء محدّد يمكن القبض عليه؛ حدود سائلة أو بلا حوافّ تفصل الثيمات المعرفيّة في العمل نفسه

منهجيًّا، ثمّة تركيز بوتيرة عالية على الآليّات لا على الأهداف. ينطلق مجمل الأعمال في أنّها أعمال لا ترمي إلى شيء محدّد يمكن القبض عليه؛ حدود سائلة أو بلا حوافّ تفصل الثيمات المعرفيّة في العمل نفسه. مجموعة من الدلالات المتناقضة والمختلفة والمتضادّة والمشتّتة، تقويضًا وتفكيكًا، منهج جاك دريدا نموذجًا.

 

في النقد

على صعيد النقد، وبصعوبة بالغة، يمكن إخضاعها لمنهجيّات النقد المتعارف عليها؛ نظرًا إلى أنّها لا تعترف بالحدود الّتي تفصل الأجناس الأدبيّة، حطّمت قواعد الأجناس، فشرّعت أجناسًا أدبيّة لا تنتمي إلى سابقاتها المتعارف عليها، وهو ما حيّد هذه الأنماط عن التصنيفات الكلاسيكيّة: عمل رفيع يقابله عمل هابط.

ففي الوقت الّذي يقول المدافعون عن حركة "ما بعد الحداثة"، إنّها حطّمت القواعد الأبويّة الّتي شكّلت إطارًا ناظمًا للأدب والعمارة والنظرة إلى الأشياء، وأحدثت فيها تنميطًا وتصنيفًا، فإنّها تجاوزت ذلك كلّه إلى فضاء يقوم على الحرّيّة والشكّ والريبة من المنظومة والقوانين والقواعد الأخلاقيّة، في حين أكّد الإيطاليّ أمبرتو إيكو أنّ "ما بعد الحداثة" ليست تيّارًا قائمًا حتّى يتسنّى تحديدها زمنيًّا، بل هو باب مثاليّ وأسلوب عمل نموذجيّ، ويضيف أنّ "تأثيرها الرئيسيّ يكمن بالإثارة المزعجة والمبهجة في آن معًا"، في حين تركّز أيضًا على السعي إلى تحقيق الكمال والمثاليّة، والتناغم بين الشكل والوظيفة ولا سيّما في العمارة، حسب كلٍّ من والتر غروبيوس ولو كوربوزييه وفيليب جونسون.

قدّم عالم الاجتماع المصريّ عبد الوهّاب المسيري نتاجات الحركة على أنّها أداة من أدوات النظام العالميّ الجديد، للمواجهة المباشرة مع العالم الثالث

في السياق ذاته، يمكن استعراض جوهر الآراء النقديّة الّتي قدّمها الكاتب الأمريكيّ ناعوم تشومسكي، بأنّ "ما بعد الحداثة" تفتقر إلى المعنى، لأنّها لا تضيف شيئًا إلى المعرفة التحليليّة والتجريبيّة؛ متسائلًا عن المبادئ الّتي تقوم عليها، وعلى أيّ الحقائق تستند هذه الحركة. في حين ينطلق عالم النفس الفرنسيّ فيليكس جواتاري في نقده، بأنّها تفتقد المرونة والقدرة على التعبير عن الاحتياجات الاجتماعيّة والنفسيّة للمجتمعات في هذه المجالات.

 

صراع على المعنى

عربيًّا، قدّم عالم الاجتماع المصريّ عبد الوهّاب المسيري نتاجات الحركة على أنّها أداة من أدوات النظام العالميّ الجديد، للمواجهة المباشرة مع العالم الثالث؛ إذ كان لا بدّ لها من اللجوء للإغواء بدلًا من المواجهة، مشيرًا إلى أنّ جوهر أدوات النظام العالميّ يكمن في الآليّات لا في الأهداف، مؤكّدًا أنّ النظام العالميّ عمد إلى تسييل العالم والهجوم على الحدود المتعيّنة، حدود الذات (الوعي القوميّ، والذاكرة القوميّة، والرؤى القوميّة)، وحدود الموضوع (السوق القوميّ، والدولة القوميّة، والمصالح القوميّة المشتركة)، والنسبيّة الكاملة، والقصص الصغرى، وتناثُر المعنى، والنصّ المفتوح، وما شابه ذلك من مصطلحات ومفاهيم .

من المؤكّد أنّ الصراع على المعنى في هيئتَيه الممسوكة والعائمة، سيواصل احتدامه، لا مؤشّرات على قرب الانتهاء منه، بل لا أحد يريد ذلك، يبدو الأمر كأنّه صراع أسطوريّ أبديّ لا ينتهي، وهو كذلك على طريقة جوش ماكدويل، عالم اللاهوت الأمريكيّ، في اجتهاده بتعريف ما بعد الحداثة: "إنّها النظرة إلى العالم، تتميّز باعتقاد أنّ الحقيقة لا وجود لها في أيّ معنًى، بل إنّها تُخلَق بدلًا من اكتشافها". الحقيقة "الّتي أوجدتها ثقافة معيّنة، ولا توجد إلّا في تلك الثقافة؛ ولذلك فإنّ أيّ نظام أو بيان يحاول الاتّصال بالحقيقة، هو بمنزلة لعبة لهذه السلطة، ومحاولة للهيمنة على الثقافات الأخرى."

 

 

أمير داود

 

 

كاتب وباحث في الشأن الثقافيّ من فلسطين. يكتب في منابر عربيّة وفلسطينيّة، صدرت له مجموعة نصوص سيريّة بعنوان "صديق نقطة الصفر".

 

 

 

التعليقات