04/03/2021 - 12:52

منطق الكائن: مريد البرغوثي ومهمّة القاموس

منطق الكائن: مريد البرغوثي ومهمّة القاموس

مريد البرغوثي (1944 - 2021)

 

ليس هذا رثاء لمريد البرغوثي، الّذي لم يرَ في الموت إلّا علامة على "زمنٍ يعلن تفوُّقه، وموهبته في الانتصار"، بل هو استحضار له؛ إذ كان إذا ودّع عزيزًا أوجز بالقول: "أنت لا تحتاج إلى كلماتنا الآن، نحن نحتاج إلى كلماتك"، وإذا أراد لكلماته هو أن تُسْمَع، كان شفيفًا كنسمة تقيم في الوقت لا في الأمكنة. ومن ذلك إشارته الرهيفة إلى مقدار "تدخُّله" في حياة أبناء أخيه الراحل منيف: "علّمتني الحياة أنّ علينا أن نحبّ الناس بالطريقة الّتي يحبّون أن نحبّهم بها. قلت لهم: اعتبروني قاموسًا في بيتكم، تتناولونه إذا احتجتم. ولن أثقل عليكم إلّا بمقدار ما يثقل القاموس على مالكه، وهو على رفّ مكتبته". ولأنّ "الحبّ هو ارتباك الأدوار بين الآخذ والمعطي"؛ سآخذ أمثولة "القاموس" الّتي أرادها البرغوثي لنفسه، وأُعطي بعض مداخل قاموسه الّتي أرادها لنا: كالحرّيّة، وفلسطين، وعرفات، والسلطة، والمعارضة، والشعر.

حرّيّة المثقّف لا تتعرّف إلّا بنقيضها، وهو إكراه السلطة، و"السلطة سلطة، في الثورة كما في الدولة، في الحزب كما في الحكومة". فالحرّيّة، إذن، تتعلّق بالفعل الثقافيّ (النتاجات)، والمثقّفين (الممارسات)، والمؤسّسة الثقافيّة (السياسات)...

لن أجتهد في تحديد مهنة القاموس، بل سأترك لمنطق مريد أن يفصح عن نفسه، فكاتب «منطق الكائنات» كائن، مثلها على الأقلّ، إن لم يكن علّتها الأولى. أصدر مريد «منطق الكائنات» عام 1996 (وألحق به «منطق الكائنات، مرّة أخرى» عام 2018) في مساحة بينيّة - ملهاتها تتاخم مأساتها: تتوسّط، سياسيًّا، كبر الفكرة وصغر الدولة، باستعارة درويش، وتتوسّط، ثقافيًّا، أسلوبه المتقدّم وأسلوبه المتأخّر، باستعارة سعيد، وتتوسّط، جماليًّا، كلام الكائنات ونظامها، باستعارة العطّار. أنطقَ مريد: العاقل، والحيوان، والنبات، والجماد، والمجرّد؛ ليزيد قاموسه السياسيّ وضوحًا، وليجعل من تعدّد المعاني الثقافيّة لكلام الكائنات ونظامها مدخلًا جماليًّا لفهم الحياة الفلسطينيّة، الّتي كان يصرّ دائمًا على أنّها "تستعصي على التبسيط"، وخاصّة خلال مواسم النعي، وفي ثقافة الاقتباس الفرجويّ الّتي صارت في فلسطين رياضة وطنيّة.

 

الحرّيّة

تبدأ الحرّيّة من اختيار القيود، جماليًّا، ولا تنتهي عند الانعزال عن القبيلة، سياسيًّا. لم ينتمِ مريد إلى القبيلة، ولم يكن قبيلة نفسه تمامًا. صحيح أنّه رأى أنّ "حرّيّة الشاعر هي اختياره الذكيّ لقيوده الفنّيّة"، وأنّه يكون حرًّا بمقدار ما يكون غريبًا، لكنّ تلك "القيود" تمتدّ إلى اختيار القيود السياسيّة؛ إذ حرّيّة المثقّف لا تتعرّف إلّا بنقيضها، وهو إكراه السلطة، و"السلطة سلطة، في الثورة كما في الدولة، في الحزب كما في الحكومة". فالحرّيّة، إذن، تتعلّق بالفعل الثقافيّ (النتاجات)، والمثقّفين (الممارسات)، والمؤسّسة الثقافيّة (السياسات)، وهي "ليست قلعة من حجر وأبراج وأسوار لندافع عنها، الحرّيّة هي في أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة، واختبارات عشّاقها وأعدائها لا تكون بمقياس الفصاحة وسحر البيان، بل عبر تفاصيل الواقع المعيش، والامتحانات اليوميّة الصغيرة الّتي تضعنا فيها الحياة عندما يكون علينا أن نختار بين شيئين أو أكثر، أن نقول أو أن نصمت، أن ‘ندفع‘ الثمن أو أن ‘نقبضه‘".

ولأنّه رأى في الكتابة فعلًا فرديًّا تصعب مأسسته، لم يُعْنَ بتشكيلات المؤسّسة الثقافيّة، إذ "وظيفتها التخصّص في العجز والخمول، وهي... منابر سياسيّة وإعلاميّة أكثر منها "ثقافيّة". أمّا المثقّفون فالسلطة تريد ولاءاتهم ولا تريد لاءاتهم، وتعادي الّذي يقول الحقّ في وجهها، كما نظَّر له سعيد. لكن مريد كان دائم الصدمة بافتقاد حرّيّة الرأي وحرّيّة الصمت، متمثّلًا مقولة المهلَّب بن أبي صفرة: "من نكد الدنيا أنّ الرأي لمَنْ يحكم لا لمَنْ يرى". امتلك مريد ما يكفي من النبل لـلغفران لمن "اضطرّ" إلى مهادنة السلطة جرّاء "الضعف البشريّ"، أمّا مَنْ "تبرّع" بالمداهنة، فلا نسيان ولا مغفرة، إذ أولئك هم سنادات "السلطة الّتي لا تستطيع محاربة الثقافة إلّا بالمثقّفين أنفسهم، ولا تستطيع ‘فبركة‘ نقابة صفراء للكتاب إلّا بالاستعانة بكتّاب يقبلون تشكيل نقابة صفراء". وأمّا المؤسّسة الثقافيّة، فـ "تعجز عن أن تؤثّر في حرّيّة ‘الإبداع‘، لكنّها تستطيع التأثير في ‘المبدع‘"، ولا تصلح لأن تكون فضاء لممارسة الحرّيّة الإبداعيّة ولا الثقافيّة ولا السياسيّة، بل هي دومًا نقيض ذلك كلّه.

 

فلسطين

فلسطين مريد هي أرض وناس وحكاية، غابت عنها الدولة والعودة وتقرير المصير حتّى إشعار آخر. قال مرّة: "وُلدت هنا قبل دولة إسرائيل بأربع سنوات"، لكن حداثة سنّه آنذاك لم تربك تشخيصه في ما بعد، فـ "نحن لم نخسر فلسطين في حرب بحيث نتصرّف الآن كمهزومين، ونحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق بحيث نستردّها بالبراهين. ضبطَنا تاريخُنا في لحظة كنّا فيها في قاع الضعف. في قاع النعاس". تلك هي النكبة المستمرّة الّتي حدّدت معنى فلسطين لديه: هويّة وقضيّة.

لقد أدرك مريد أنّ ثمّة ضحايا للصهيونيّة من اليهود أنفسهم، لكنّ الحماس لم يأخذه إلى لعبة "تقاطع المصائر" الّتي وقع فيها سعيد ودرويش، بل كان موقفه أقرب إلى إلياس خوري في رفض مبدأ "التقابل"...

في جولته، رفقة محمود درويش وكتّاب عالميّين زاروا فلسطين خلال انتفاضة الأقصى، أجاب مريد عن سؤال إلياس خوري المرّ: "أين تقع فلسطين؟" ومن مخيّم الأمعري، أوجز حكاية الفلسطينيّين التاريخيّة: "... آلة الدمار الإسرائيليّة طردتهم من غرب فلسطين فلجؤوا إلى شرقها. فأيّ تفكير جهنّميّ أدّى إلى أن يُسمّى ‘شرق فلسطين‘ ‘الضفّة الغربيّة‘! تفتح خريطة فلسطين التاريخيّة فتجدها تقع بين البحر الأبيض المتوسّط غربًا ونهر الأردنّ شرقًا. احتلّت العصابات الصهيونيّة فلسطين الغربيّة الواقعة على ساحل البحر المتوسّط، فلجأ بعض سكّانها إلى فلسطين الشرقيّة الممتدّة حتّى نهر الأردنّ. ولأنّ المطلوب محو اسم ‘فلسطين‘ من الخريطة ومن التاريخ ومن الذاكرة، نُسِبَت هذه المنطقة إلى نهر الأردنّ، فسُمّيت باللغة العربيّة وبكلّ لغات العالم ‘الضفّة الغربيّة‘، وهكذا، اختفى اسم ‘فلسطين‘ نهائيًّا من كلّ خرائط الدنيا. فإذا كان غرب البلاد أصبح اسمه ‘إسرائيل‘ وشرقها أصبح اسمه ‘الضفّة الغربيّة‘، فأين تقع فلسطين؟ هكذا، لكي تضيع فلسطين أرضًا كان يجب أن تضيع لغة أيضًا. وأنا كلّما سمعت عبارة ‘الضفّة الغربيّة‘ فكّرت في خطورة التلوّث اللغويّ المقصود، الّذي أدّى بالفعل إلى اغتيال اسم ‘فلسطين‘".

وحيث "لا تحتاج البلاغة إلى بليغ"، كانت بلاغة الواقع أكثر فداحة من وصفه، فقارن صاحب نوبل - جوزيه ساراماغو - بين أوشفيتس والأمعري، وحين وصمه كتّاب صهاينة، كعاموس عوز وأ. ب. يهشواع، باللاساميّ والفاشل والرديء، وأنّه مغرّر به من قِبَل بروباغاندا العرب، قال: "أفضّل أن أكون ضحيّة الدعاية الفلسطينيّة ‘الرخيصة‘ بدلًا من أن أكون ضحيّة الدعاية الإسرائيليّة ‘الباهظة التكاليف!‘"، لكن إسرائيل، ورغم وضوح فلسطين، ووضوح الدم على الأرض وعلى الخريطة، ووضوح الضمير العالميّ الّذي لم ينزلق إلى متاهات "التكافؤ الأخلاقيّ"... استطاعت خداع أكثر مَنْ كان يتوجّب أن يمتلكوا حصانة ضدّ الخداع: قيادة الفلسطينيّين الرسميّة! فقد "نجحت إسرائيل في نزع القداسة عن قضيّة فلسطين لتتحوّل، كما هي الآن، إلى مجرّد "إجراءات" و"جداول زمنيّة" لا يحترمها عادة إلّا الطرف الأضعف في الصراع" و"استطاع الاحتلال أن يحوّلنا من أبناء ‘فلسطين‘ إلى أبناء ‘فكرة فلسطين‘"، ثمّ "تركنا على صورتنا القديمة، وهذه هي جريمته". وامتدّت جريمته لتشمل رعاياه اليهود الّذين كانوا ضحاياه أيضًا، ولم يعد المشترَك بين جموع "العائدين إلى إسرائيل" سوى أنّهم يحملون السلاح، ويقطعون العمر في دبّابة تربض في غرفة نوم الفلسطينيّين الّتي لمّا تُهْدَم بعد. 

أدرك مريد مبكّرًا أنّ عرفات "كان بارعًا في هدم خصومه، لكنّه لم يكن بارعًا في هدم أعدائه"، لكنّه لم يشأ أن يكون أيًّا من الاثنين، كما لم يشأ أن يكون ابنًا لعرفات...

لقد أدرك مريد أنّ ثمّة ضحايا للصهيونيّة من اليهود أنفسهم، لكنّ الحماس لم يأخذه إلى لعبة "تقاطع المصائر" الّتي وقع فيها سعيد ودرويش، بل كان موقفه أقرب إلى إلياس خوري في رفض مبدأ "التقابل". يعلّق مريد على حادثة رمزيّة "احتلّت" فيها فليتسيا لانغر في فيينّا مقعده حين غاب لإجراء مقابلة، بالقول: "الإسرائيليّ قد يتعاطف معنا، غير أنّه يجد صعوبة في التعاطف مع ‘قضيّتنا‘ ومع روايتنا. إنّه قد يمارس رأفة الغالب بالمغلوب، وقد يشبه العدوّ مَنْ يعاديه. وفي فلسطين تطابق الشبه واكتمل: المكان للعدوّ. المكان لنا. الرواية روايته والرواية روايتنا، أقصد في نفس الوقت. لكنّني لا أقبل أن يُدير اللّاهوت في الأعالي الحياة السياسيّة على هذه الأرض. ورغم ذلك كلّه، لم أكن ذات يوم مغرمًا بالجدال النظريّ حول مَنْ له حقّ في فلسطين، فنحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق! لقد خسرناها بالإكراه والقوّة. عندما كنّا نحن فلسطين، لم نجفل من اليهوديّ، لم نكرهه ولم نُعادِه. كرهته أوروبّا في العصور الوسطى، ولم نكرهه نحن، كرهه فرديناند وإيزابيلا، كرهه أدولف هتلر، ولم نكرهه نحن. عندما طلب منّا مكاننا كلّه ونفانا منه، أخرجنا وأخرج نفسه من قانون التساوي، صار عدوًّا، وصار قويًّا، صرنا غرباء وضعفاء. أخذ المكان بقوّة المقدّس وبقداسة القوّة، بالخيال وبالجغرافيا".

 

عرفات

ما من مثقّف فلسطينيّ إلّا كان له مواقف مع الراحل ياسر عرفات ومنه. كان مريد معجبًا بـبساطة عرفات الإقناعيّة للغربيّين بعدالة القضيّة الفلسطينيّة، رغم كلّ ما ارتكبه من أخطاء سياسيّة، أفدحها «أوسلو». وينطبق ذلك إلى حدّ ما على العرب (باستثناء الأخطاء الكارثيّة في الأردنّ ولبنان والعراق وسوريا)، الّذين زعموا أنّهم يحبّون فلسطين ويكرهون الفلسطينيّين. أمّا فلسطينيًّا، فقد كانت سياسته "في جزء منها جلسات فواتير"، وكان احتفاظه بحقيبة الماليّة جزءًا من ذلك. أدرك مريد مبكّرًا أنّ عرفات "كان بارعًا في هدم خصومه، لكنّه لم يكن بارعًا في هدم أعدائه"، لكنّه لم يشأ أن يكون أيًّا من الاثنين، كما لم يشأ أن يكون ابنًا لعرفات: "رآه البعض أبًا. ولم أره "أبًا" على الإطلاق. أنا من الأساس لا أحبّ للزعيم أن يكون "أبًا"، ولا أحبّ للمواطنين أن يكونوا "أبناء"، ولا أحبّ للوطن أن يكون ‘عائلة‘". لم يعتقد مريد أنّ عرفات كان قدّيسًا، ولا ينبغي له بعد أربعة عقود في السياسة... لكنّه، رغم ذلك، اعتقد أنّ "سيطرة عرفات على أعوانه"، كانت ضمانًا على تجنّب ما تلا رحيله من انقسام أقرب إلى الحرب الأهليّة.

لم تبدأ أخطاء عرفات بـ «أوسلو»، كما لاحظ مريد (وغيره من المثقّفين الكبار أمثال سعيد ودرويش اللّذَيْن اعتقدا أنّ رابين، في واشنطن، ألقى خطاب الضحيّة فيما ألقى "رجل الأعمال" خطاب الفلسطينيّين). وقد مسّت تلك اللحظة مريدًا الّذي أطال في وصف "كلمات رابين القاسية" الّتي تجاوزت تأبيد الضحيّة اليهوديّة، نحو تأبيد التعاطف مع الاحتلال، ذلك أنّ رابين، ببساطة، بدأ الحكاية من "ثانيًا"، "ويكفي أن تبدأ حكايتك من ‘ثانيًا‘ حتّى ينقلب العالم"؛ أي ألّا تذكر الفعل الاستعماريّ بل ردّة الفعل المستعمريّة، ألّا تذكر العنف الاستعماريّ وتذكر العنف الثوريّ المضادّ.   

لم تقد المعارضة مريدًا إلى العزلة، ولم يرَ في العزلة حدثًا سعيدًا للشاعر الرهيف كما يصوّره "الرومانسيّون"، ولا سلوكًا شريفًا للمتعفّف النبيل كما يُصوّره "المقرَّبون". كانت عزلته قولًا من تحته عمل...

لكن هذا النقد، لم يؤثّر في نبل مريد، فحين بلغه أن رحل أبو عمّار، قطع جولته الشعريّة في الريف البريطانيّ، وعاد إلى لندن ليبقى وحيدًا. لم يساوره أيّ ندم على موقفه من عرفات، لكنّه امتلك قناعة راسخة، مؤدّاها: "هو قام بدوره سياسيًّا يُصيب ويخطئ، وقمت بما أظنّ أنّه دور المواطن، وهو دور لا يقتصر على التصفيق". وقد حدا هذا الموقف بمريد إلى أن يتأمّل مسيرة عرفات بمسؤوليّة لم تتوقّف بعد رحيله، فقال إنّ "اتّفاقيّة أوسلو منحته نسخة مصوّرة "فوتوكوبي" عن المنصب الرئاسيّ. وها هو يذهب من الحصار إلى الغياب الأبديّ، وما زالت فلسطين المستقلّة تنتظر. وسوف يطول الانتظار. وسوف يكون انتظارًا موجعًا، موجعًا أكثر ممّا تخيّل الرجل ... الكارثة الحقيقيّة الّتي يعيشها الفلسطينيّون هذه الأيّام، هي وقوعهم تحت قيادة التلاميذ، في غياب الأستاذ".

 

السلطة

وقد طال هذا النقد مَنْ جاؤوا بعد عرفات ممّن وصفهم درويش، مرّة، بأنّهم "عرفاتيّون بلا عرفاتيّة". أمّا مريد فصرّح بأنّه "على يد هؤلاء التلاميذ، وبفضل تخبّطهم بين المشروع الوطنيّ وعجزهم عن الدفاع عنه؛ تحوّلت السلطة الفلسطينيّة إلى مجرّد NGO ضخمة، تعيش على مساعدات الدول الأوروبّيّة ماليًّا، وهي لا تدرك أنّ أوروبّا بإنفاقها الماليّ على السلطة الفلسطينيّة إنّما تُموِّل الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ وتُطيل عمره. إسرائيل تحتلّ البلد، وأوروبّا تدفع مصاريف الاحتلال، والسلطة تنفِّذ الشروط الإسرائيليّة. نعم، من حركة تحرّر عنيدة في مثابرتها وعنادها إلى مجرّد NGO بدينة مترهّلة يلوّحون لها بالعصا والجزرة، تخشى الأولى فتلهث بسذاجة وراء الثانية، غير مدركة أنّ الجزرة بالتحديد هي الّتي تجسِّد اللؤم الاستعماريّ طوال التاريخ... ‘الجزرة‘ الاستعماريّة هي ‘العصا‘ الحقيقيّة في واقع الأمر. وهذا ما لم تتعلّمه السلطة".

لكن نقد السلطة لم يبدأ برحيل عرفات ومجيء من بعده، بل هو نقد بنيويّ لـ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» الّتي صارت "سلطة من ورق": الاتّفاقيّات، والسيادة، والحدود، وجوازات السفر... وكلّ ما من شأنه تذكير ‘السلطة‘ بماضيها حين كانت ‘منظّمة‘، من دولة وعودة ولاجئين وعاصمة وتقرير مصير، أُرجِئ إلى مفاوضات ‘الحلّ النهائيّ‘، ويا لفداحة التسمية! يبدأ نقد مريد من الحدود في كتابَيه الأكثر شهرة: «رأيت رام الله» و«وُلدت هناك، وُلدت هنا»: من "الجسر" الّذي يُظهِر بوضوح مَنْ هو السيّد ومَنْ هو العبد في معادلة التاريخ الفلسطينيّ بعد عام 1993. سلطة فلسطينيّة بلا سلطة، وأعلام إسرائيليّة في كلّ مكان، وأمن المكان والزمان من اختصاص "الجانب الآخر"، والمستوطنات لو عرف المفاوضون ما هي لما وقّعوا الاتّفاق، والأشخاص المهمّون جدًّا (VIP) مهمّون جدًّا لإسرائيل. وهكذا، يواصل مريد رحلة الكشف عمّا حدث بين البحر والنهر بعد أوسلو، بين الحواجز والجدار، بكتابة ميلانكوليّة عن واقع ميلانكوليّ يسمّيه "الكوميديا الإلهيّة الموحلة": في الشارع، والمسرح، وعربة الإسعاف.

وأمّا فساد السلطة، فلم تنحصر تمظهراته في تجربة مريد الشخصيّة، حين تسلّم مؤسّسة وأدارها واستقال منها... بل في فساد ثالوث السياسة والاقتصاد والإعلام، وقد احتضنه الأمن وحماه. يوجز مريد ما دعاه سعيد، ناقلًا عن إقبال أحمد، بـ "باثولوجيا السلطة" في حيّز يضجّ بكلّ مظاهر الدولانيّة بلا دولة، بمَثل مغربيّ: "الله يرحمنا من المشتاق إذا ذاق!" رأى مريد كثيرًا من باقات الزهر الصناعيّ تُلقى على نصب السلطة، لكنّه أدرك أنّ ذلك شارة اعتلال وموت، إذ "الزهور ليست مرتبطة فقط بطقوس الحياة". عاش مريد بعد رحيل عرفات، ورأى مزيدًا من النكوص، إذ "قرّرت السلطة أن تجلس على كرسيّها في انتظار ابتسامة الدبّابة الإسرائيليّة، والدبّابة لا تبتسم"، ولا تميّز بين من يشمله التنسيق الأمنيّ ومن يستهدفه. تركت السلطة نفسها عارية من الخيارات السياسيّة، بعد أن انقسمت وقسّمت ما تبقّى من وطن مقسَّم، وخسرت رهانها على الأميركيّين والإسرائيليّين وعرب "المبادرة العربيّة"، وتركت الفلسطينيّين أكثر عريًا في فلسطين وخارجها. أدرك مريد عمق الهاوية حيث "الفساد يتفاقم، عنف الاحتلال يتزايد، فتح تتداعى، حماس تصعد، والحفرة تتّسع لضحيّتين في سقطة واحدة"، وفسَّر، على نحو عميق، تأزّم المشروع الصهيونيّ، وتأزّم المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ... فأصابه تشاؤم العقل – الفرد وقد تشاءمت الإرادة - الجماعة: "كم ضاع من العمر؟ القضيّة الفلسطينيّة الآن تبدأ من البداية مجدّدًا: ألم تكن البداية أنّ أرضًا احْتُلَّت ويجب أن تُسْتَرَدّ؟ وأنّ شعبًا طُرِدَ من أرضه ويجب أن يعود؟ هل النهاية الّتي وصلنا إليها اليوم إلّا تلك البداية؟".

 

المعارضة

لم تقد المعارضة مريدًا إلى العزلة، ولم يرَ في العزلة حدثًا سعيدًا للشاعر الرهيف كما يصوّره "الرومانسيّون"، ولا سلوكًا شريفًا للمتعفّف النبيل كما يُصوّره "المقرَّبون". كانت عزلته قولًا من تحته عمل؛ لأنّه كان على يقين بأنّ "القيادات كلّها تريد من الثقافة شقّها الإعلاميّ، وتضيق بالنقد والتفكير المستقلّ، إنّها لا تريد تفهّمك، بل تريد ‘ولاءك‘". عاش المنفى في المنفى، ولاحقه المنفى في الوطن، وكان يعرف أنّ "أقسى درجات المنفى ألّا يكون الإنسان مرئيًّا".

مقتَ مريد السلطة ومثقّفيها، وأطلق على أحدهم “نامق التيجاني”، واتّخذ منه أنموذجًا بدائيًّا (Prototype) في “النومَقَة” بكلّ ما تعنيه من: فساد، وانتهازيّة، ووصوليّة، ورخص، و”آس – هوليزم”، وقدرةِ شامبانزي على بلوغ الفرع الأعلى من الشجرة المتهالكة في غابة تحترق!

فمنذ أن جرى ترحيله، احترازيًّا، من القاهرة عام 1977 "نتيجةَ وشاية لفّقها زميل في اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين"، وجد مريد نفسه مقيمًا في الوقت لا في الأمكنة، عازفًا عن الكلام في التجمّعات والاجتماعات! لم يقُده ذلك، تلقائيًّا، إلى المعارضة، فمعارضته كانت ردّة فعل، سبقته أفعال. يقول: "رأيت قيادة المنظّمة تنحني سنة بعد سنة أمام كلّ ضغط، حتّى لم يعد لها قوام، وأنا أعترض عليها وأعارضها بالنثر وبالشعر وبالابتعاد". كانت «اتّفاقيّة أوسلو» ذروة سنام الأخطاء الّتي عارضها مريد، لكن "كلب السياسة الأعمى لن يهزّ ذيله لخصم مثلـ‘ـه‘"، فقال بوضوح: "أنا معارض هادئ، لكنّني معارض وقح، واصلت وأواصل معارضتي وسأواصلها في المستقبل أيضًا، رغم ‘استفادتي‘ من السياسة الّتي أنتقدها وأنا هنا". كان مريد يشير إلى "عودته" المجزوءة دون أفراد عائلته، الصغيرة والكبيرة، وربّما إلى جائزة فلسطين في الشعر الّتي فاز بها عام 2000، والّتي لم تكن تفضُل الجائزة الأولى في الشعر الّتي فاز بها قبل قرابة أربعة عقود في «مدرسة رام الله الثانويّة»، إلّا كفرصة للمناددة: "على مسرح قصر الثقافة في رام الله، في مناسبة كلّ ما فيها يُغري بالثناء والامتنان، وهي تسلُّمي جائزة فلسطين في الشعر، أقف لأشكر لجنة الجائزة على اختيارها، وأنتقد القيادة والسلطة والحكومة بحضور القيادة والسلطة والحكومة في الصفوف الأماميّة من القاعة الواسعة، وأمام ألف شخص حضروا الاحتفال. أدعو إلى تصحيح الأخطاء ‘حتّى لو كانت في أعلى الصفحة‘. وكان ‘أعلى الصفحة‘، أي رئيس الوزراء، جالسًا في الصفّ الأوّل ومعه معظم رجالات السلطة".

مقتَ مريد السلطة ومثقّفيها، وأطلق على أحدهم “نامق التيجاني”، واتّخذ منه أنموذجًا بدائيًّا (Prototype) في “النومَقَة” بكلّ ما تعنيه من: فساد، وانتهازيّة، ووصوليّة، ورخص، و”آس – هوليزم”، وقدرةِ شامبانزي على بلوغ الفرع الأعلى من الشجرة المتهالكة في غابة تحترق! وبعد أن عمل فترة وجيزة مديرًا لـ “إحدى المؤسّسات في الوطن”، أدرك أنّ: "‘نوامق‘ العائدين من تونس فتَّشوا عن ‘نوامق‘ المقيمين، ومدّوا لهم اليد والفرص والمكاسب، فتشكّل الحلف الّذي هو آخر ما يلزم، وأسوأ ما يلزم، لحركة تحرّر وطنيّ"... فاستقال لأنّه أدرك أنّ هؤلاء هم سادة المشهد، وأنّه لن يقبل أن يكون ثورًا: "أقول الشيء وعكسه في آن: أقول لنفسي إنّني جبان ولا أقوى على المناطحة، ثمّ أقول إنّني لست ثورًا لأناطح ثيرانًا، وأرفض أن أتحوّل إلى ثور. أريد أن أقبل الوضع كإنسان سويّ أو أعارضه كإنسان سويّ".

تحلّى مريد بقدر عالٍ من "فنّ التجنّب" الّذي طالما نظَّر له حسين البرغوثي وهو يفلسف احتفاء مصارع الثيران برقصة الموت، لكن ذلك لم يثنهِ عن قول الحقّ في بيئة لا تسمح لإنسانيّة المثقّف النبيل أن تعمل: فـ "هم يريدونك خرقة خاسرة أو وحشًا خاسرًا، لست هذه ولا ذاك. قد أكون خارج الأحداث بانسحابي، لكنّي متأكّد من أنّ الوطن لن تحرّره خرقة ولا وحش". قدّم مريد إضافة نظريّة إلى مقولات فيصل درّاج عن المثقّف الفلسطينيّ الريفيّ، الّذي لا ينتهي مسعاه التزلّفيّ نحو السلطة. آمَنَ مريد بوجود ريفيّة شعريّة، لا بالمعنى الرعويّ الجماليّ (Pastoral)، بل بالمعنى الغرامشيّ السياسيّ (Rural)، حيث "يمتزج في لاوعي بعض مثقّفينا أمران متناقضان ظاهريًّا، هما: اطمئنان القبيلة وتوجّس الريف. الأوّل يتمثّل في أخلاقيّات العصابة المحصَّنة بأقفال السعادة وأوهام التأكيد، والثاني يتمثّل في التطلّع الريفيّ الذابل إلى المدينة. لكن مدينتنا ترى نفسها ريفًا للعالم الغربيّ، وتنظر نظرة انكسار وانبهار إلى منجزات سواها... كأنّ الشاعر التابع ريف والشاعر المتبوع هو المدينة، لكنّهما معًا، بسبب غياب الثقة بالنفس، تابعان". ولا يتوقّف أذى المثقّف الريفيّ على "تبرّعه" بالتبعيّة، بل يلتحق بشيوخ الطريقة الثقافيّة، وينضمّ إلى حفلة النفاق الجماعيّ واقتسام نرجس الفرادة.

يدعو مريد إلى إحداث توازن بين "المصلحة" و"التاريخ" حتّى يحيا المثقّف "بقوّة الصحيح"، ذلك أنّه حين "يتمّ التلاقي الأثيم بين الكاتب والحاكم، حيث الحاكم مغتبط بالحكم والكاتب مغتبط بالحاكم...

وبغضّ النظر عن المواقف السياسيّة للسلطة والمعارضة، فإنّ كلتيهما ترفضان التعدّديّة، وتلتزمان بنسق فكريّ أصوليّ نافٍ للآخر، لا يتعاطى مع الحياة، ولا مع النصّ إلّا من مدخل استبداديّ: فيُحَوِّل السلطويّ الإيديولوجيا إلى ذائقة، ويُحَوِّل المعارض الذائقة إلى إيديولوجيا، فتنعدم الحياة، وينعدم النصّ في عالم القبيلة السعيدة والعصابة المجتباة. وحتّى تتلاشى هذه الأصوليّة، الّتي تنخر اليمين واليسار والوسط؛ يقترح مريد مدخلًا آخر لقراءة الحياة والنصّ، هو التناول الديمقراطيّ الّذي لا يؤمن بالقارّ وإن علت سطوته، بل يجرّب التحرّر من فكرة "المبايعة" لصالح فكرة "الانتخاب". ولكنّ ذلك لا يضمن للمثقّف سلامة الخروج من حِمى القبيلة، وحُمّاها، ذلك أنّ موقعيّة المعارضة قد لا تؤمِّن حرّيّته. هنا، يشير مريد بوضوح إلى مثقّفين علمانيّين، يقتبسون إدوارد سعيد، وينتقدون انعدام الحرّيّات وتخلّف أنظمة الخليج الصحراويّة، مثلًا، ولا ينتقدون النظام الفلسطينيّ، والطاغية الّذي يستمع إليهم في القاعة نفسها، ويصفّق لخطابهم الّذي ستنشره، في الغد، جريدة النخبة الرسميّة! ولذا؛ يدعو مريد إلى إحداث توازن بين "المصلحة" و"التاريخ" حتّى يحيا المثقّف "بقوّة الصحيح"، ذلك أنّه حين "يتمّ التلاقي الأثيم بين الكاتب والحاكم، حيث الحاكم مغتبط بالحكم والكاتب مغتبط بالحاكم، تضيق المسافات بينهما، ويتخلّى المثقّف عن دوره التاريخيّ في حركة مجتمعه، ويتحوّل (تدريجيًّا أو بغتة) إلى مثقّف تكنوقراطيّ؛ أي أنّه ينتقل من قارع أجراس إلى قارع طبول، من نذير إلى مبشّر، من عين صاحية إلى مخدّة. من مبدع إلى ... مبرّر".

 

الشعر

لقد أحدث مريد في مَفْهَمَة الشعر، موضوعًا وماهيّة وجدوى، ما لم يُحدثه أحد من أجياله، اللهمّ إلّا زكريّا محمّد. في الموضوع، لم يملّ مريد من تكرار حكمته أنّ "تحت كلّ حجر، وتحت كلّ مشهد في الحياة، شيئًا من الشعر الخامّ، وكلّ ما في الحياة يصيح بالشاعر ‘اكتبني‘". فلا محرَّمات، على مستوى الموضوع، ولا صنافيّات كبرى بين الشاعريّ وغير الشاعريّ، بل العبرة بالنتيجة: شعر، ولا شعر، حيث ماكينة "التحويل" الّتي في الشاعر بين الخاصّ والعامّ، وحيث "تطالب كلّ قصيدة شاعرها بجماليّات خاصّة بها". تلك الماكينة، الّتي تقترب من مفهوم البرغوثي حسين للشعر: تقول فحوى الشعر بجملة فعليّة، ولا تعلن عن موضوعه بصيغة المبتدأ والخبر. هنا، وهنا فقط، يستقيل الشعر من نقابة الفنون الأدائيّة، وينخرط في نقابة الصناعات التحويليّة، بعيدًا عن الفرجويّة المفرطة في توصيف لحظة الخلق وطقوس الكتابة، الّتي يروّج لها الشاعرون والشاعرات، الأحياء منهم والأموات.

وفي الماهيّة، حصر مريد الشعر بين عالمين يعيشهما الشاعر: فِناء كبير - هو ورشة الحياة، وبناء صغير - هو ورشة القصيدة. في الأوّل، ينخرط الشاعر في "ورشة الحياة الهادرة"، وبين الوعي وأشيائه، تنبثق رؤيا الذات: لذاتها، وللآخر، وللعالم، حيث "يسقط التسطيح ويعلو التركيب، يختفي نصّ البُعْد الواحد (الفِناء) ويعلو النصّ المتعدّد الأبعاد (البِناء)". واستنادًا إلى هذا الربط الجدليّ بين العنصرين، فإنّ "الخلل الّذي يؤدّي بالكاتب إلى ارتكاب نصّ رديء مغلق أصمّ، ليس الأسلوب اللغويّ أو الشكل الفنّيّ، وإنّما سببه، في حالات كثيرة، ‘الجهل بالحياة‘ أو المعرفة ‘المطلوبة‘ منها". هنا، تنماز الخِراف من الجِداء، وتختفي قبليّة النصّ عبر الخروج من الجوقة، ويسقط التشابه الّذي تُمليه "الخمسمئة مفردة المكرّرة على ألسنة عشرات الشعراء... يسقط الشُّعّار ويعلو الشعر، يسقط الكليشيه وتعلو القصيدة"، كلّما اقتربنا من الشعر وابتعدنا عن الشاعريّة. وفي الآخَر، ينخرط الشاعر في "ورشة القصيدة الهادئة"، ويزاوج بين الحذف والإضافة، و"استنباط المدهش من المألوف"، إلى أن يعتدل مزاج القصيدة، حين تبلغ القصد، فيعتدل مزاج الكون.

كان مريد ندًّا جميلًا، وأمثولة، دائمة الإزهار، لمقولته هو: "عندما يسدّ الغزاة الطريق، يحافظ المثقّف الوطنيّ على الأفق. وعندما تسدّ الأخطاء الشوارع، يحافظ المثقّف الوطنيّ على الاتّجاه".

وفي الجدوى، كان مريد بالغ التحديد، ولم يَرْشُ آذان السامعين، فتَعَلُّق الناس بالشعر المباشر، في أزمنة البطش والخرس الجماعيّ والحرمان من الفعل والقول، لم يجعل منه "مراسلًا حربيًّا"، ولا "رجل إطفاء"، ولا "سائق إسعاف"، ولا عضوًا في "جوقة القبيلة"، ولم يسمح لقصيدته أن "تلبس خوذة"، ولا أن "تقيم في المقابر". كان مريد بعيدًا عن كلّ هذا "الكسل العاديّ"، و"المغص اللغويّ"، و"الدلع البلاغيّ"، و"المياصة العاطفيّة"، و"الثرثرة الشاعريّة"، وحذّر الأجيال الشابّة من عدم إدراك "عمق الهوَّة بين صلابة مزاعمهم ورخاوة نصوصهم"، حين يمتلكون الخطاب ويفتقرون إلى المعرفة. ورغم إدراكه، الّذي شكّله المِراس وصقلته الملابسة، أنّ "العاديّ" لا يتحوّل إلى "مدهش" إلّا باحتراف المباغتة، إلّا أنّه كان يُصِرّ على أنّ الجمال لن يتحقّق دون تحويل "الشأن التافه" إلى "شأن جوهريّ" بالشعر وفيه. لقد أنقذت هذه النظرة مريدًا من السقوط في دوّامة الكليشيه، القائل إنّ بطولة الأشياء غدت أكثر جدوى، وربّما شاعريّة، من بطولة الذوات. انتشر ذلك على ألسنة الكثيرين ممّن خانتهم لياقتهم الثوريّة والشعريّة، بعد تصريح درويش المدوِّي بأنّ "البطل ملّ من دوره"، وبأنّ ثمّة "ضرورة لتفكيكه"، الّذي تزامن مع شيطنة خيارات العنف الثوريّ الفلسطينيّ. ربّما لم يقصد مريد الوطن، ولا قائده، حين قال: "شهوةٌ أن نُريح القصائد منك قليلًا، ونكتب عن أمرٍ سواك"، لكنّه لم يفاضل بين "شعر الحياة" و"شعر القضيّة"؛ لأنّ الشعر حياة للاثنتين، ولكنّه مقت الانسلاخ عن القضيّة بقدر ما مقت أدلجة الهزيمة، بادّعاء كتابة شعر الحياة.

كان مريد ندًّا جميلًا، وأمثولة، دائمة الإزهار، لمقولته هو: "عندما يسدّ الغزاة الطريق، يحافظ المثقّف الوطنيّ على الأفق. وعندما تسدّ الأخطاء الشوارع، يحافظ المثقّف الوطنيّ على الاتّجاه". لم تكن "وسادته من غبار المعارك"، بل كانت "يوم قيامته اليوميّ" الّذي يعقد فيه محكمة الضمير الّتي لا بَدْء لها ولا انتهاء...

 

 

عبد الرحيم الشيخ

 

 

شاعر وناقد، يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت، وباحثًا في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، وأستاذًا وباحثًا زائرًا في العديد من الجامعات والمراكز العالميّة. يتمحور عمله الفكريّ على القوميّة، وسياسات الهويّة، والشعريّة العربيّة، والترجمة، ويتركّز نقده الفنّي على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.

 

 

التعليقات