17/09/2021 - 17:59

إدوارد سعيد وجان مور... الكاميرا في مواجهة إمبرياليّة إسرائيل

إدوارد سعيد وجان مور... الكاميرا في مواجهة إمبرياليّة إسرائيل

الرملاويّ، صورة من كتاب «بعد السماء الأخيرة» (1999)

 

مناهضة النمط

كان إدوارد سعيد على دراية بأهمّيّة الكاميرا بصفتها نصًّا ثقافيًّا طباقيًّا، قادرًا على تشكيل التصوّرات الثقافيّة والسرديّة، والتحكّم بها، خاصّة في ما يخصّ صورة الفلسطينيّين في الداخل وفي الشتات، وفي المركز وفي الهامش.

سعيد من مفكّري وناقدي القرن الحادي والعشرين القلائل الّذين يؤمنون بفكرة المثقّف المتشابك مع المجتمع والأدب والمعرفة والعالم؛ فهو الّذي كان يحمل فكرة الجامعة خارج أسوارها، بوصفها فضاء إنتاج الثقافة ومجالها الحيويّ، والتشابك مع القضايا الكبرى، كالصهيونيّة والإمبرياليّة، والآثار الاستعماريّة للنظام العالميّ الجديد، وسؤال الضحيّة في كلّ ركن من هذا العالم؛ فبالإضافة إلى كتبه ومقالاته ومحاضراته، ولقاءاته التلفزيونيّة ومناظراته، كانت الأفلام الوثائقيّة الّتي قدّمها سعيد عن فلسطين جزءًا مهمًّا من مهمّته الأخلاقيّة والعلمانويّة تجاه فلسطين. يُعَدّ الفيلم الوثائقيّ الموسوم «البحث عن فلسطين: عودة إدوارد سعيد للوطن» (1998)، مثالًا ممتازًا على هذا الإرث المرئيّ والمحكيّ لسعيد، فكان صوتًا شجاعًا يدافع عن قضايا المعذّبين في الأرض، على طريقة فرانز فانون. هو ذاته سعيد الّذي وصفه صديقه محمود درويش:

"لا تصف ما ترى الكاميرا من

جروحك. واصرخ لتسمع نفسك،

واصرخ لتعلم أنّك ما زلت حيًّا،

وحيًّا، وأنّ الحياة على هذه الأرض

ممكنة. فاخترع أملًا للكلام،

ابتكر جهة أو سرابًا يطيل الرجاء.

وغنّ، فإنّ الجماليّ حرّيّة"[1].

 

ولأنّ سعيدًا وجان مور على دراية برؤية درويش، في قدرة الكاميرا على الابتعاد عن وصف الجروح والخسارات، واجترار خطاب الضحيّة وإكليشيهاتها النمطيّة؛ جاء كتاب «بعد السماء الأخيرة» (1999) محاولة لمناهضة هذه الصورة النمطيّة، من خلال تصوير الصورة الهامشيّة في حياة الفلسطينيّ في الداخل وفي الشتات؛ فكان الكتاب - جملة وتفصيلًا - ترجمة لفعل الابتكار وسطوة حضور الفلسطينيّ خارج إطار الصورة النمطيّة.

جاء كتاب «بعد السماء الأخيرة» (1999) محاولة لمناهضة هذه الصورة النمطيّة، من خلال تصوير الصورة الهامشيّة في حياة الفلسطينيّ في الداخل وفي الشتات...

خرج علينا سعيد ومور بصور وسرديّات الفلسطينيّ الطبيب اللاجئ الّذي يعمل في «مستشفى الجامعة الأردنيّة»، والأكاديميّ الّذي يعمل في «جامعة العلوم والتكنولوجيا» في الأردنّ، وبائع الكعك والسمسم، والّذي يلعب الملاكمة، والفتيات اللواتي يلعبن الرياضة في المدرسة، وصورة فزّاعة الحقل المنتصبة بالقرب من خيام بدو بئر السبع، والدكاكين الّتي يتردّد عليها السيّاح في القدس القديمة، وصورة المرأة الفلسطينيّة وابنتها الصغيرة في جنوب لبنان؛ إذ تكتب رسالة إلى زوجها المسجون آنذاك.

 

نصّ هجين

كما يعلم قرّاء سعيد، الكارهون منهم والمحبّون، أنّ كتاب «بعد السماء الأخيرة» هو نصّ جماليّ أرشيفيّ ومرئيّ هجين، يلتحم فيه أسلوب المقال بالنصّ الشعريّ، والتأمّليّ بالفلسفيّ، والصورة بالمكتوب، والحسّ الساخر بالسينمائيّ؛ إذ تحتشد الصور الّتي التقطها جان مور عن اليوميّ الراهن في حياة الفلسطينيّين بكلّ ما يُقال وما يُضْمَر، وكأنّها نصّ معزوفة موسيقيّة. وفي نصوص سعيد الّتي يقابلها نصّ آخر تأويليّ يشبه العزف على البيانو، وفي تأويل الصورة الّتي التقطها مور، والنصّ الّذي توسّل به سعيد، نصّ آخر هجين، يحاور الجرح الفلسطينيّ المفتوح، مرّة في زقاق القدس القديمة، ومرّة في أسواق القدس والخليل وحواري نابلس، ومرّة في بئر السبع والجليل ومخيّم جرش والبقعة، وفي الداخل والشتات.

يبدو لنا نصّ سعيد الهجين إسقاطًا سيكولوجيًّا وجماليًّا لفعل الصراخ أو الاحتجاج الثقافيّ على آلة الاحتلال الصهيونيّ، كما وصفه درويش، وهو ضرب من العزف والغناء على طريقة أحفاد الشتات والمنفى. لكن سعيد يرفض أن يقدّم نفسه أو السرديّة الفلسطينيّة نصَّ ضحيّة محتشدًا بالبكاء على الأطلال، والتوسّل بـالنوستالجيا وصورة الماضي الساطعة في الذاكرة تمامًا، كما يخاطبه صديقه درويش: "والحنين إلى أمس؟ عاطفة لا تخصّ المفكّر إلّا ليفهم توق الغريب إلى أدوات الغياب. وأمّا أنا فحنيني صراع على حاضر يمسك الغد من خصيتيه"[2].

بل تتأهّب الصور والنصوص أمامنا بكامل تناقضاتها، ومفارقاتها، وقدرتها على السرد والاحتجاب، بصورة تتقاطع مع رواية غسّان كنفاني «عائد إلى حيفا» (1969)[3]؛ إذ تطلّ علينا فلسطين بصيغة الفعل المضارع، وعين الراوي والعدسة المطلّة على فلسطين تحيلنا إلى المستقبل وحقّ العودة، ومشروع التحرير. هو نصّ يشبه الحياة الفلسطينيّة اليوميّة، الّتي تسطع في عين عدسة الكاميرا، لكنّها رؤية واقعيّة ومتخيّلة مناهضة للتضليل التاريخيّ، والتعمية الأيديولوجيّة في الخطاب الصهيونيّ.

 

سطوة الحضور

تجلّى التصوير الفوتوغرافيّ شكلًا ثقافيًّا فعّالًا للمقاومة الفلسطينيّة بعد الانتفاضة الثانية، وفي الوقت نفسه اسْتُخْدِمَ سلاح الكاميرا لغايات مساندة القنّاصة والجنود الإسرائيليّين قبل الانتفاضتين الأولى والثانية، فكانت عدسة الكاميرا سلاحًا تقنيًّا وثقافيًّا لا يقلّ أهمّيّة عن الرصاصة والدبّابة والصواريخ في تحديد مكان الهدف، وقياس أبعاد المكان، بل توثيق بعض الأحداث أيضًا من قِبَل ترسانة الجيش الإسرائيليّ، وإذكاء خطاب الدعاية الإسرائيليّة المضلّلة.

لقد نشأ جنس أدبيّ خاصّ بهذا النوع من التصوير في إسرائيل، وخاصّة ما يُسَمّى «مذكّرات جنين» عام 2003، الّتي تأسّست على يد الجنديّ الإسرائيليّ جيل ميزومان Gil Mezuman، الّذي كان شاهدًا على الكمين الّذي نُفِّذ في جنين عام 2002، وقُتِلَ فيه قرابة 13 جنديًّا إسرائيليًّا. وفي السياق الثقافيّ والاستعماريّ نفسه، جاء نصّ سعيد «بعد السماء الأخيرة» سرديّة مناهضة لعسكرة الكاميرا، وتحويلها إلى أداة قتل وملاحقة للفلسطينيّين. ويبدو سعيد مأخوذًا بفكرة الكاميرا شكلًا خلّاقًا للتمثّلات الثقافيّة في الداخل الفلسطينيّ، وفي الشتات.

وفي السياق الثقافيّ والاستعماريّ نفسه، جاء نصّ سعيد (...) سرديّة مناهضة لعسكرة الكاميرا، وتحويلها إلى أداة قتل وملاحقة للفلسطينيّين. ويبدو سعيد مأخوذًا بفكرة الكاميرا شكلًا خلّاقًا للتمثّلات الثقافيّة...

 

يذكّرنا كلٌّ من والتر بينجامين وسوزان سونتاج أنّ فعل التصوير يستند على فكرتَي الابتكار وسطوة الحضور[4]، والمتتبّع لكلّ الصور الّتي التقطها جان مور، والنصّ السينمائيّ المدهش الّذي كتبه سعيد في كتابه «بعد السماء الأخيرة»، يلاحظ قدرة مور وسعيد الفريدة على الابتكار، وخلق سطوة الحضور، والحركة لتأويلات لا حصر لها لكلّ صفحة من الكتاب، منها سرديّة الفلسطينيّ الحاضر/ الغائب الّتي فرضها الاستعمار الصهيونيّ، وحيويّة الهامشيّ في حياة الفلسطينيّين اليوميّة على اختلاف الطبقات الاجتماعيّة، وتنوّع الحياة في الداخل وفي الشتات. فليس غريبًا، إذن، أن يستوحي إدوارد سعيد عنوان كتابه من قصيدة محمود درويش:

"تضيقُ بنا الأرضُ. تحشرُنا في الممرّ الأخيرِ، فنخلعُ أعضاءَنا كَيْ نمرَّ

(...) وتعصرُنا الأرضُ مِنْ نوافذِ هذا الفضاءِ الأخير. مرايا سيصقلُها نجمُنا.

إلى أينَ نذهبُ بعدَ الحدودِ الأخيرةِ؟

أينَ تطيرُ العصافيرُ بعدَ السّماءِ الأخيرة؟"[5].

 

النصّ الممنوع

وُلِدَت فكرة كتاب «بعد السماء الأخيرة» نصَّ مقاومة جماليًّا ونقديًّا راديكاليًّا، تبنّاه سعيد طوال حياته، وردّة فعل مباشرة على مؤتمر القضيّة الفلسطينيّة في جنيف، عام 1983. كان سعيد آنذاك مستشارًا لمؤتمر القضيّة الفلسطينيّة في «الأمم المتّحدة» عام 1983، الّذي عُقِدَ في جنيف لمناقشة تداعيات حرب إسرائيل على بيروت عام 1982. اقترح سعيد تنظيم معرض للصور الفلسطينيّة، وتعليق بعض الصور عن الداخل الفلسطينيّ والشتات بكلّ أطيافه، في بهو قاعة المؤتمر.

انتدب سعيد فورًا المصوّر السويسريّ جان مور للذهاب إلى فلسطين؛ لالتقاط بعض الصور وتعليقها في مدخل قاعة المؤتمر. كان سعيد مأخوذًا بأعمال جان مور وجون بيرغر أيضًا. أنجزت المهمّة بعبقريّة فذّة، وعاد مور بقرابة خمسمئة صورة أدهشت سعيد، لكنّه تلقّى ردًّا رسميًّا غريبًا من القائمين على المؤتمر، وهو عدم السماح له إلّا بتعليق الصور دون كتابة أيّ شيء بجوارها.

تفاجأ سعيد ومور بأنّ هذا القرار قد صدر عن حكومات الدول العربيّة، الّتي رفضت أيضًا نشر معظم الأوراق البحثيّة الّتي وصلت سعيد من قِبَل المشاركين، الّتي بلغ عددها عشرين ورقة بحثيّة، قُبِلَ منها ثلاث أوراق فقط، بحجّة أنّ بعض الأوراق يسيء إلى سيادة بعض الحكومات العربيّة وسمعتها. لكن سعيد ومور وشفيق الحوت اجتمعوا في مطعم في جنيف، وكان الاتّفاق على تأليف هذا الكتاب.

 

مروحة كبيرة

في الصفحات الأولى من الكتاب، ثمّة صورة لعربة الكعك بالسمسم والذرة المسلوقة، لبائع فلسطينيّ من رام الله بصحبة ابنه الصغير. يحاول سعيد بلغته السويفتيّة الساخرة (نسبة إلى جوناثان سويفت)، أن يحوّل راهنيّة هذا المشهد التصويريّ الروتينيّ في رام الله لنصّ محتشد بالمفارقة والتكثيف البصريّ والمحكيّ والمرئيّ معًا؛ فسيّارة الجيب العسكريّة الّتي عبرت، كما يعلّق عليها سعيد، والحجر الّذي طار في الأفق (على الأغلب حجر رُمِيَ على السيّارة العسكريّة)، ومشهد بائع الكعك بالسمسم والذرة، هي مروحة كبيرة حوّلت النصّ إلى دراما سينمائيّة تتفوّق على روتين المشهد؛ فكثافة السياق الاجتماعيّ للحياة الفلسطينيّة الّتي يمثّلها بائع الكعك بالسمسم، والذرة، تختزل دراما حبّ الفلسطينيّين للحياة تحت الاستعمار[6]، وتشبّثهم بأبسط حقوقهم وسط الزمن المحاصر بالبندقيّة والدبّابة والاستيطان؛ إذ يصبح الشخصيّ والهامشيّ جزءًا أصيلًا من السياسيّ.

تفاجأ سعيد ومور بأنّ هذا القرار قد صدر عن حكومات الدول العربيّة، الّتي رفضت أيضًا نشر معظم الأوراق البحثيّة الّتي وصلت سعيد من قِبَل المشاركين (...) لكن سعيد ومور وشفيق الحوت اجتمعوا في مطعم في جنيف، وكان الاتّفاق على تأليف هذا الكتاب.

 

يقف بائع الكعك بالسمسم واثقًا بغريزة الحياة وكنصّ مرئيّ مفتوح، وكأنّه يقرأ علينا أبيات درويش برباطة جأش وأنفة: "حاصر حصارك لا مفرّ".

يعلّق سعيد على الكعك المغمّس بالزعتر والسمسم والسمّاق اللذيذ: "يبدو لي هذا الكعك المغمّس بالسمسم والزعتر والسمّاق أكثر من مجرّد طعام، بل يفتح أمامنا جميعًا طعمًا لا علاقة له بالوجبات، والروتين والحيويّة، أيّ مسافة تلك الّتي تفصلني من الإحساس بتلك الحياة، وأيّ سلاسة ترتحل من خلالها الصورة بكل سهولة، لإرجاء الحواجز الّتي تفصلني عن تلك الصور والإحساس بها"[7].

ننصت هنا جميعًا لمفارقة المنفى لدى سعيد، وهي المسافة الشاسعة والفاصلة بين صورة الوطن وتفاصيله وحاراته وشرابه وطعامه، وبين الوقوف خارج المكان، دون القدرة على استعادة هذه الذاكرة، إلّا من خلال عدسة الكاميرا، أو النصّ المكتوب.

 

يوتوبيا الكاميرا وديستوبيا النكبة

ثمّة صورة أخرى لمور تعيدنا إلى نصوص فرانز كافكا الممتلئة بالتطرّف الجماليّ والسورياليّ؛ فنحن أمام طفلين فلسطينيّين من مخيّم البرج الشماليّ في جنوب لبنان، ويبدو الطفل الّذي يلهو في السيّارة المعطّلة والمحطّمة، مع أخته، مبتسمًا لكاميرا مور، أمّا أخته فتقف متوجّسة أو متردّدة أمام عين الكاميرا، كأنّنا أمام دراما النضال الفلسطينيّ في الداخل والشتات على طريقة أنطونيو جرامشي: تفاؤل الإرادة الّذي ترسمه ابتسامة الطفل وأزهار عبّاد الشمس في فصل الربيع، وتشاؤم العقل الّذي يبدو على وجه الطفلة الّتي تقف أمام الكاميرا، والسيّارة الّتي تحاكي استعارة الخرابة وآثار النكبة، والكاميرا هنا هي عين الحدث وصورتها الاجتماعيّة الّتي تكثّف كلّ المتناقضات: ابتسامة الطفل، وتردّد أخته، حطام السيّارة، وخلفها بيت فلسطينيّ من مخيّم برج الشماليّ، وأزهار عبّاد الشمس في شهر أيّار (مايو)، يوتوبيا المستقبل الفلسطينيّ وديستوبيا النكبة.

الإحالات البصريّة في الصورة لا تتوقّف عن تأويل الكارثة الفلسطينيّة، والاجتثاث والحياة اليوميّة الّتي يمارسها أطفال النكبة، والّتي تشبه السرد المتقطّع كما يسمّيه الكاتب أمجد ناصر.

يكتفي سعيد بالتعليق على الصورة: "هذه السيّارة شاهد على دراما أحداث مجهولة، والأزهار تتفتّح في فصل الربيع. الأطفال يرتدون ملابس جديدة، تبدو أعطية من التبرّعات الّتي تُمْنَح للاجئين. هم اللاجئون - أطفال اللاجئين"[8]. يستطرد سعيد بصفته الراوي الملحميّ في التراجيديا الفلسطينيّة: "يحمل آباؤنا علامات الكارثة على وجوههم، بطريقة غامضة. فجأة أصبح ماضيهم مستباحًا ومجتمعهم منسيًّا؛ كلّهم لاجئون. أمّا أطفالنا فلا يعرفون مثل هذه التجربة؛ فالسيّارات صارت وسيلة للركوب، ولمّا حُطِّمَت صارت كالخرابة الّتي يلعب فيها الأطفال. كلّ شيء مؤقّت، مهجور، وغير ثابت، ولا سيّما أنّ المجتمع الفلسطينيّ، كما في بيروت، قد دُمِّر وسُحِق، دون توثيق لهذه الكارثة، وكأنّهم شعب لا قيمة له"[9].

الإحالات البصريّة في الصورة لا تتوقّف عن تأويل الكارثة الفلسطينيّة، والاجتثاث والحياة اليوميّة الّتي يمارسها أطفال النكبة، والّتي تشبه السرد المتقطّع كما يسمّيه الكاتب أمجد ناصر.

 

ورغم هذه النبرة التراجيديّة في الصورة، والتصوير الّذي يرويه سعيد بوصفه الراوي الشاهد، فإنّ صورة الضحيّة هنا ليست القفلة الّتي يتوسّل بها النصّ والصورة، بل هي سرد متقطّع لحياة الفلسطينيّين وآلامهم وآمالهم، وتشبّثهم بالحياة والصمود، رغم كلّ آثار النكبة الّتي نقرؤها في وجوههم، وعيونهم، وفضائهم الخاصّ والعامّ.

وهنا تبدو صورة الرجل العجوز الرملاويّ المشعّ بالحياة والعزيمة وقوّة الشكيمة، وهو يرتدي نظّارة إحدى عدساتها مكسورة، متشظّية تمامًا كحياة الفلسطينيّين. يذكّرنا هنا سعيد بقصّة شفيق الحلبي المخجلة، وهو فلسطينيّ عمل مذيعًا لـ «راديو إسرائيل»، وكتب كتاب «قصّة الضفّة الغربيّة» عام 1982. ورغم التحيّز الواضح في الكتاب ضدّ الفلسطينيّين، ورغم النزعة الصهيونيّة الجليّة لدى حلبي، وتسليمه بالرواية الصهيونيّة، إلّا أنّه يفصح عن عنصريّة الكيان الصهيونيّ في تعامله مع كلّ مواطن ليس يهوديًّا.

يعود سعيد مجدّدًا ليرسم لنا سرديّة أخرى مناهضة لسرديّة شفيق الحلبي، وهي صورة هذا الرجل الرملاويّ واستعارة النظّارة والعدسة المكسورة. يبدو سعيد هنا مندهشًا مثلنا تمامًا من كثافة التفاؤل في وجه هذا الرجل الرملاويّ، الّذي لم يخلع نظّارته أثناء الوقوف أمام عدسة الكاميرا، وكأنّه لا يبالي بسؤال الضحيّة ولا سؤال الجلّاد، بل مشغول بسؤال الحياة بقضّها وقضيضها!

يقول سعيد في سياق حديثه عن صورة الفلسطينيّين بوصفهم ضحايا، إرهابيّين، أو لاجئين: "لا يفصح وجه هذا الرجل عن أيّ علامة من علامات الوهن أو الشفقة؛ بل إنّه يمتلك وجهًا قويّ الملامح، ممتلئًا بالحيويّة، وتعابير وجهه الباسم تفصح عن أصالة لا مراء فيها، تعكس روح الضيافة، ورغم وجود مسحة غامضة من الحزن النبيل في محيّاه، إلّا أنّ ملامحه تعكس أيضًا صفة جذّابة أخرى، وهي أنفة متواضعة"[10].

يدرك سعيد هنا هذا التناقض المتآلف بين تلك النظّارة المشروخة وتماهيها مع واقع النكبة واللجوء والشتات، وبين تلك النظرة الثاقبة، والرؤية العميقة في وجه هذا الرملاويّ، الّذي تبدو كوفيّته الفلسطينيّة، وابتسامته الصاخبة، ورباطة جأشه، استعارة أصيلة لمعنى الصمود الجمعيّ للشعب الفلسطينيّ، وقدرة الفلسطينيّين على ترويض الصعاب وتذليل سطوة الاستعمار الاستيطانيّ، حتّى بدت الندبة أو الشرخ في عدسة النظّارة، كما يصوّرها سعيد، رمزًا خارجيًّا للنظّارة، وليس لصاحبها[11]. يصبح النصّ والصورة لازمة مضمرة لضمير الفلسطينيّين في الداخل والشتات؛ فكلّ إيماءة، أو حركة، أو استعارة لسان حالها يقول: "وغنّ، فإنّ الجماليّ حرّيّة".

........

إحالات

[1] محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد (لندن: رياض الريّس، 2005)، ص 194.

[2] المرجع نفسه، ص 190-191.

[3] غسّان كنفاني، عائد إلى حيفا، ط2 (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1980).

[4] Sontag, Susan, On Photography, 3rd edition, (New York: Picador, 1977), p.87.

[5] درويش، ورد أقلّ، ط 6 (بيروت: دار العودة، 1993)، ص 17.

[6]  Said, Edward and Jean Mohr, After the Last Sky, 1st edition, (New York: Columbia University Press, 1999), p.16.

[7] Ibid, p.18.

[8] Ibid, p.21.

[9] Ibid.

[10] Ibid, p.128.

[11] Ibid, p.128.

 

 


تيسير أبو عودة

 

 

 

باحث وشاعر فلسطينيّ يقيم في الأردنّ، متخصّص في الأدب المقارن ودراسات ما بعد الاستعمار.

 

 

 

التعليقات