28/06/2022 - 15:38

«بلاد على أهبة الفجر»... التحرّر بالعصيان

«بلاد على أهبة الفجر»... التحرّر بالعصيان

«بلاد على أهبة الفجر، العصيان المدنيّ والحياة اليوميّة في بيت ساحور» (2021)

 

يشكّل كتاب «بلاد على أهبة الفجر، العصيان المدنيّ والحياة اليوميّة في بيت ساحور» (2021)  (2021) للباحث أحمد أسعد، الصادر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، عملًا مرجعيًّا في توثيق الحالة العصيانيّة بالمفهوم الشموليّ، عاشتها مدينة بيت ساحور مع بدايات «انتفاضة الحجارة»، أو «الانتفاضة الأولى»، ما بين عامَي 1987 - 1989، الّتي تندرج ضمن اهتمامات الباحث في مشروعه التأصيليّ للحياة اليوميّة المقاومة في ميادين عديدة.

 تكمن أهمّيّة الكتاب في رصده للحياة اليوميّة كممارسة سياسيّة وعصيانيّة لمدينة بيت ساحور، ويضعها في سياق تحرّريّ أوسع، من خلال العودة إلى تاريخ العصيان في سياق الحالة الفلسطينيّة، سواء إبّان الحملة المصريّة الشهيرة عام 1834، مرورًا بفترة الانتداب البريطانيّ ومشروعه الاستعماريّ المزدوج، عبر تبنّي المشروع الاستيطانيّ للحركة الصهيونيّة في بداية العشرينيّات من القرن المنصرم، وصولًا إلى الإضراب الكبير الّذي ترافق والثورة الفلسطينيّة الكبرى 1936 - 1939. والاستفادة من خبرة العصيان في أراضي الجولان المحتلّة عام 1967، الّتي راكم عليها أهالي بلدة بيت ساحور. تكمن أهمّيّة هذا الربط مع التجارب النضاليّة السابقة، ليس فقط في التوثيق المعرفيّ المهمّ للباحثين والدارسين، بل يتجاوز ذلك إلى الهمّ المعرفيّ الوطنيّ، أي الاستفادة من راهنيّة هذه التجربة ومحاولة توظيفها ضمن تراكميّة تحرّريّة، عبر موضعة التجربة الساحوريّة بخصوصيّتها، ضمن تجربة أكبر، ألا وهي التحرّر والخلاص من المشروع الاستعماريّ، الّتي بدأت مع مقاومة فلّاحي القرى الفلسطينيّة مع بواكير المستوطنات الزراعيّة – مثل مقاومة فلّاحي قرية تليل 1864 - ولم يكن آخرها «هبّة نيسان»، أو ما تسمّى بـ «هبّة أيّار»، وإضرابها الكبير بتاريخ 8  أيّار (مايو) 2021، الّذي وحّد الجغرافيا  الفلسطينيّة المجزّأة، وأعاد الاعتبار لفاعليّة الجماهير وحسّها الجمعيّ.

 

الإطار النظريّ

ينطلق الباحث في محاولته لتوثيق تجربة بيت ساحور، من سؤال مركزيّ عن البنى الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وحمولاتها المؤسّساتيّة الّتي جعلت هذه التجربة العصيانيّة بشموليّتها وتنظيمها، مقتصرة على بيت ساحور وحدها، وإن كان ثمّة محاولات عديدة لمحاكاتها من مدن وقرى فلسطينيّة، لكنّها لم ترقَ إلى فرادة تلك التجربة، على مستوى التنظيم والمشاركة الجماهيريّة الواسعة؛ لتتحوّل إلى سلوك عصيانيّ ممنهج.

تكمن أهمّيّة الكتاب في رصده للحياة اليوميّة كممارسة سياسيّة وعصيانيّة لمدينة بيت ساحور، ويضعها في سياق تحرّريّ أوسع، من خلال العودة إلى تاريخ العصيان في سياق الحالة الفلسطينيّة...

في محاولته للإجابة عن هذا السؤال، ينطلق الباحث من إطار نظريّ متداخل الحقول، يشتمل  على مقاربات نظريّة تزاوج بين التاريخ الاجتماعيّ والتاريخ الشفويّ والمنهج الإثنوغرافيّ والتحليل السوسيولوجيّ، مستعينًا بالأدوات النظريّة لتحرّر المعرفة وما وفّرته مدارس دراسة التابع والأصلانيّين كذوات فاعلة على الصعيد الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ، ممّا جعلها تتكيّف بشكل عصيانيّ مقاوم مع سياسات الاحتلال وتشكّل تحدّيًا لها.

تتوزّع مقولة الكتاب على ستّة فصول أساسيّة بالإضافة إلى المقدّمة المنهجيّة والخاتمة،  ومجموعة من الملاحق. يقدّم الباحث في الفصل الأوّل «في سيوسيولوجيا العصيان: مقاربة تاريخيّة مفاهيميّة»، صورة عامّة وسريعة عن محطّات العصيان المدنيّ في التاريخ الفلسطينيّ منشغلًا بمفهمة العصيان المدنيّ في السياق التحرّريّ من الشرط الاستعماريّ، راصدًا نضوج فكرة العصيان المدنيّ في الحالة الساحوريّة عام 1987.

أمّا الفصل الثاني «ثلاثة مداخل: الأرض المحتلّة، الانتفاضة، بيت ساحور»، يقدّم فيهما الباحث لمحات عن الحالة العامّة للأراضي المحتلّة قبل الانتفاضة والحالة الخاصّة لبيت ساحور، إذ يمكّن رصد تلك الملامح من فهم التجربة الساحوريّة بسياقها الأكبر، أي «انتفاضة الحجارة» كحالة عصيان مكثّفة ضدّ الاستعمار الصهيونيّ، وما ولّده من عنف بنيويّ ضدّ سكّان الأراضي المحتلّة عام 1967، عبر سياسة القبضة الحديديّة، وفرض الضرائب - الهجمة الضريبيّة - وغيرهما من الممارسات التعسّفيّة الّتي شكّلت خميرة العصيان وبذوره، وهذا الّذي يتناوله الفصل الثالث «الانتفاضة والمقاطعة» بكثير من التفصيل.

أمّا الفصلان الرابع والخامس «البنيان المقاوم» و«سيوسيولوجيا التضامن»، فيسلّط الباحث الضوء في هذين الفصلين على أسباب نجاح العصيان المدنيّ في بيت ساحور عبر استقصاء مجموعة من المبحوثين الفاعلين، في سياق التجربة وإعطائهم مساحة واسعة، في سرد حكايتهم العصيانيّة الوطنيّة، وفي محاولة فهم البنى الرافعة لحالة العصيان، الّتي تولّدت منها ما يسمّيه الباحث ’الروح الساحوريّة‘ عبر رصد الأطر الفاعلة والبنى الناظمة، الّتي حوّلت المقاومة إلى يوميّ معاش، وجعلت من العصيان حالة جماهيريّة وعلنيّة، بمعنى توالُد مناخ عصيانيّ عامّ من هذه الأطر تعتبره حنّة آرندت سبب نجاح أيّ عصيان.

أمّا الفصل السادس، «ما بعد العصيان عصيان»، فيعود فيه الباحث إلى سؤاله المركزيّ حول نجاح الحالة العصيانيّة لبيت ساحور، بالإضافة إلى تقديم مقاربة عصيانيّة في الراهن الفلسطينيّ، عبر ما يمكن تسميته الذاكرة الحيّة للعصيان في نفوس أهالي بيت ساحور.

 

صوت المقموعين

يمكننا القول إنّه، وعلى طول صفحات الكتاب، كان ثمّة حضور للفاعلين في تجربة عصيان بيت ساحور، وأنّ المبحوثين لم يكونوا موضوعات بحثيّة خاملة، إنّما ترك لهم الباحث صوتًا بارزًا، وهذا يندرج ضمن فلسفة التاريخ من الأسفل في مواجهة التاريخ الرسميّ، أو ما تسمّى بالسرديّات الكبيرة، الّتي هي عادة سرديّات رسميّة تمتلكها الدولة عبر أرشيفها، كأرشيف حديث تمتلك فيه الدولة، عبر مؤسّسات صناعة الهويّة وصناعة المواطنة ومقولاتها الكبرى، وهذا يشكّل تحدّيًا لكلّ الباحثين في تاريخ المقموعين في سياق تشكّل الدولة القوميّة الحديثة، الّتي استطاعت عبر أذرعها الدولانيّة تأميم الحكاية والسرديّة، وتزداد هذه الصعوبة في دولة كولونياليّة استعماريّة، وتمتلك أدوات الدولة الحديثة في فرض مشروعها الاستيطانيّ، كبنية مستمرّة لم تنتهِ من سياسات المحو والإسكات لصوت الأصلانيّين، عبر تعميمها سرديّة مُخْتَلَقَة، تهدّد الكينونة الأنطولوجيّة بأبعادها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، للوجود الأصليّ للفلسطينيّين.

يرصد الباحث عبر أصوات المقموعين تراكم الفعل والممارسة في العصيان الساحوريّ، ضمن سياق «انتفاضة الحجارة»، وحضور بيانات الانتفاضة، وتفاعل أهالي بيت ساحور مع برنامجها النضاليّ، والتقاط لحظة العصيان وتحويلها إلى ممارسة حياتيّة؛ عبر تجاوز فكرة ’المقاومة بالحيلة‘، حسب تعبير الكاتب الأمريكيّ جيمس سكوت، إلى مأسسة الرفض والتمرّد وعدم الرضوخ، عبر تحويل السخرية من فعل سلبيّ تنقصه المأسسة إلى فعل سياسيّ جمعيّ، وهذا ما يمكن رصده في تعاونيّات البقر، الّتي طاردها الاحتلال تحت بند "الخطر على أمن إسرائيل" تحت عنوان «المطلوبين 18»، وهذا ما تسمّيه سهام أبو العمرين المقاومة كفعل وجوديّ يرتبط بالإنسان، من أجل البقاء والحفاظ على الذات والهويّة في مواجهة الأخطار المحدقة.

 

التكيّف والعصيان

يموضع الباحث تجربة أهل بيت ساحور، عبر سرديّاتهم الفرديّة وحكاياتهم المتعدّدة الّتي تستحضرها الذاكرة الفرديّة والمشتبكة بالذاكرة الجماعيّة؛ إذ يذهب الباحث إلى مقولة مكثّفة مفادها أنّ القصص الفرديّة تأتي ضمن سياق جمعيّ أكبر، ولا يمكن قراءتها بمعزل عن المناخ الثوريّ العامّ المتمثّل في «انتفاضة الحجارة».

يرصد الباحث عبر أصوات المقموعين تراكم الفعل والممارسة في العصيان الساحوريّ، ضمن سياق «انتفاضة الحجارة» (...) وتفاعل أهالي بيت ساحور مع برنامجها النضاليّ، والتقاط لحظة العصيان وتحويلها إلى ممارسة حياتيّة...

 في مذكّراته الموسومة بعنوان «الشاهد والمشهود»، يساجل وليد سيف مقولات البطولة عبر عمله الدراميّ «التغريبة الفلسطينيّة» (2004) كذاكرة حيّة، تؤصّل لفعل النكبة المستمرّ في سياق المظلمة الفلسطينيّة. يذهب سيف إلى مقولة البطولة الجمعيّة، بطولة المخيّم الجماعيّة في مواجهة سياسات النكبة والتهجير والإبادة، حضر المخيّم كبطل جمعيّ في مسلسل «التغريبة الفلسطينيّة»، الّذي جاء ضمن مناخ «انتفاضة الأقصى»، أو الانتفاضة الثانية، في مواجهة تجزّؤ مقولات البطولة وتفكيكها في السياق الثقافيّ الفلسطينيّ  في آخر عقدين من الزمن، عندما ملّ البطل من دوره والبحث عن خلاصه الفرديّ دون تحقيق الخلاص الجمعيّ بمعناه السياسيّ والوطنيّ الواسع.

أعاد الباحث في كتابه الاعتبار لجدارة البطولة الجمعيّة لتجربة بيت ساحور، بمعنى أنّ البطولات الفرديّة، وما أكثرها في تلك التجربة، لا يمكن قراءتها بمعزل عن البطولة بالمعنى الجماعيّ لأهل بيت ساحور على صعيد الفكرة وعلى صعيد الممارسة، الّتي شكّل وقودها جميع الفئات والشرائح للمجتمع الساحوريّ، متجاوزين التقسيمات الطائفيّة والطبقيّة والعائليّة، عبر سوسيولوجيا التلاحم والتعاضد الجماعيّة.

شكّلت لحظة رمي الهويّات البرتقاليّة - البطاقات الشخصيّة - الّتي كانت تمنحها الإدارة الإدارة المدنيّة الصهيونيّة، آنذاك، لحظة التصعيد الكبرى في سياق العصيان الساحوريّ. يركّز الباحث على قضيّة رمي الهويّات ويضعها في سياقها النضاليّ الّذي يمكن تسميته "فائض الممارسة العصيانيّة" في مواجهة فائض القوّة الاستعماريّة، عبر جمع العشرات من الروايات والوثائق، كذروة دلاليّة كبرى تحمل الكثير من المجازات، أهمّها أنّ ثمّة مشروعًا سياسيًّا وممارسة هويّاتيّة تراكمت مع  السلوك العصيانيّ الوطنيّ لأهالي البلدة.

أن ترمي الهويّات يعني أنّك ترفض تمثيل المحتلّ لك. شكّلت الهويّة هاجس الساحوريّ بشكل خاصّ، وهاجس الفلسطينيّ بشكل عامّ، شكّلت الهويّة في السياق الاستعماريّ أداة ضبط ومراقبة عبر سياسات تلاحق رافضي دفع الضريبة للاحتلال عبر نصب الحواجز واقتحام البيوت والبحث عن المطلوبين، فكانت خطوة إلقاء الهويّة خطوة تصعيديّة ارتبكت أمامها الماكنة الاستعماريّة؛ إذ يتحوّل المجموع في عرف الاحتلال إلى مطاردين ورافضين للانصياع، إذ كان المطارد في «انتفاضة الحجارة» يلقي هويّته ويختبئ في الجبال والمغارات والكهوف، ويصبح شخصيّة مطلوبة لأجهزة الاحتلال.

تأتي أهمّيّة هذه الخطوة بعد خطوات عديدة من ضمنها رفض دفع الضرائب، وتأسيس تعاونيّة الأبقار والإنتاج المقاوم عبر العودة إلى الحواكير - بساتين النصر - كبداية للانفصال عن السوق الإسرائيليّة، ومقاطعة الضرائب الّتي لها بديل محلّيّ. تأتي أهمّيّة هذه الخطوة بأنّها تحمل مقولة سياسيّة مكثّفة، رصدها حسين البرغوثي في مقالته «حفاة في مواجهة الجيبّات العسكريّة»، وهي مقولة سياسيّة تقول: "بدنا دولة وهويّة". أي أنّ الوعي النضاليّ كان يرفض سيادة هذه الدولة عليه عبر فرض سيادة مناقضة ومقاومة للاستعمار الصهيونيّ على صعيد تعريف الفلسطينيّ لنفسه، كان هناك شعور بالجماعة الفلسطينيّة المتخيّلة، عبّرت عن نفسها عبر ممارسة العصيان المدنيّ، عصيانًا شموليًّا ينطلق من الهمّ الحياتيّ اليوميّ المعاش تحت الاحتلال، ولا ينفصل عن الهمّ الوطنيّ ببُعده الجماعيّ الهويّاتيّ في مواجهة سياسات ما يُسمّى الإدارة المدنيّة الّتي حاولت فصل الأمور الحياتيّة عن بُعدها الجمعيّ والوطنيّ.

كانت الراهنيّة وتحدّي العصيان المدنيّ المتفاوت في الأراضي المحتلّة عام 1967، الباحثة عن الخلاص ببُعده الوطنيّ، عبر التأسيس لسلطة  - سلطة الشعب - بديلة عن سلطة الاحتلال، عمادها تحويل العمل الانتفاضيّ إلى ممارسة يوميّة، عبر شبكات تضامنيّة ولجان متخصّصة مهمّتها تعميم العصيان وتأميم الانخراط الجماهيريّ فيه، بشكل منظّم كما حصل في بيت ساحور عبر ما عُرف بتشكيلات لجان الحارات، جزءًا من تشكيل أكبر، ألا وهو القيادة الوطنيّة الموحّدة.

 

احتمالات الفجر في عتمة الليل الفلسطينيّ

لطالما شكّلت «انتفاضة الحجارة» في المخيال الجمعيّ الفلسطينيّ لحظة مكثّفة وعالية الحضور في الوجدان الفلسطينيّ من جهة، وعالية الرمنسة من جهة أخرى ما قد يوقع في فخّ القراءة الأسطوريّة للانتفاضة، وينزع عنها تاريخيّتها وفاعليّتها. لم تكن «انتفاضة الحجارة» وتجربتها الساحوريّة الخاصّة، منعزلة عن شروط الواقع وإشكالاته آنذاك، جاء العصيان الساحوريّ ضمن هذه الشروط، واستجابة لتحدّياتها، وهنا كانت فاعليّته الابتكاريّة عن طريق تشكيل شبكات سياديّة مقاومة في مواجهة سيادة الاحتلال، عبر خلق بديل وطنيّ وموازٍ لسلطة الاحتلال وسياسته.

يمكن القول إنّ تحوّل شكل المشروع التحرّريّ لـ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» إلى سلطة سياديّة منقوصة وما رافق ذلك من تغيّرات بنيويّة شكّلت تحدّيًا حقيقيًّا في تحويل العصيان بوصفه ممارسة، وهو ما بدا جليًّا بعد «انتفاضة الأقصى» وتفكيك مقولة البطولات الجمعيّة والدخول في النفق الفلسطينيّ الطويل من خلال مأسسة سياسات التمويل الّتي ضربت البنى المجتمعيّة كبنًى تحتيّة للمقاومة، وما عرف آنذاك بالسلام الاقتصاديّ من قبيل خطّة الإصلاح الاقتصاديّ والإصلاح الأمنيّ؛ يمكن القول إنّ هذا كلّه نتج عنه سياسات عزل الهمّ اليوميّ الّذي يندرج تحت مسمّى ’متطلّبات الحياة‘، عن الهمّ الجمعيّ الكبير المتمثّل بالاستعمار، وعزل الهمّ اليوميّ عن الهمّ السياسيّ عبر سياسات اللبرلة الّتي تُعلي من قيمة السلوك الفرديّ المنعزل عن السلوك الجماعيّ.

شكّلت «انتفاضة الحجارة» في المخيال الجمعيّ الفلسطينيّ لحظة مكثّفة وعالية الحضور في الوجدان الفلسطينيّ (...) وعالية الرمنسة (...) ما قد يوقع في فخّ القراءة الأسطوريّة للانتفاضة...

شكّلت معظم الهبّات الأخيرة ما بعد عام 2015، شكْل ردّات الفعل العصيانيّة الّتي أخذت الطابع الفرديّ والموسميّ، والّتي لم ترقَ إلى تشكيل بنية عصيانيّة على المستوى الجمعيّ، وإن كانت خلقت نوعًا من الحسّ الجماعيّ كما تجلّى في «هبّة أيّار» 2021، هذه الهبّات المتقطّعة والسريعة على صعيد فترتها الزمنيّة، تحتاج إلى بنًى مجتمعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وإرادة شعبيّة تكون حاملة للهبّة، تُحوّل اليوميّ والضرورة الحياتيّة إلى ممارسة سياسيّة يوميّة، تكون بديلة عن بنيويّة الفشل المرافق للسلوك السياسيّ الفلسطينيّ ببُعده الرسميّ وشبه الرسميّ، تكرّست بشكل خاصّ، بعد «انتفاضة الأقصى» 2004. وهذا الّذي يمكننا الاستفادة منه في راهنيّة هذا الكتاب بما يحمله من شحنات معرفيّة تحرّريّة، وتوثيقه لهذه التجربة الضخمة، وطرحه مجموعة من الإمكانات المكثّفة تصلح لأن تكون دليلًا في عتمة الليل الفلسطينيّ.

 

خاتمة

يمكن القول إنّ الباحث نجح في توظيف الأدوات النظريّة ’التحرّريّة‘ عبر مناهج متداخلة، وتقديم دراسة ميدانيّة من خلال الشهادات والمرويّات والقصص لتجربة بيت ساحور، وقراءة الحالة العصيانيّة ضمن سياقها الاجتماعيّ وشرطها التاريخيّ، بوصفها حالةً عصيانيّة متميّزة جاءت ضمن سياق ثوريّ انتفاضيّ مقاوم لسيطرة المحتلّ عبر إعلاء صوت المهمّشين وتوثيق التجربة من خلال حواضنها الفاعلة، وتقديم قراءة كاشفة للبنى التحتيّة والفوقيّة، أو ما يسمّيها الباحث سوسيولوجيا العصيان، بمعنى رصد الحالة الساحوريّة كحالة عيانيّة، دون السقوط في فخّ التعميمات والمقولات الجاهزة، ودون الغرق في خصوصيّة الحالة بمعزل عن سياقها الوطنيّ العامّ.

يقدّم الكتاب إضافة على صعيد مقاومة النسيان من خلال سياسات التذكّر والتخليد، ورصد تمظهرات المقاومة عبر جعل العصيان ممارسة يوميّة؛ إذ تشكّل المرويّات الشفويّة والقصص الغنيّة بالتفاصيل عبر ما يمكن تسميته "سرديّة مشبعة بالتفاصيل"، مخزونًا مهمًّا لحفظ الذاكرة العصيانيّة من الضياع وتحويلها إلى ذاكرة حيّة وفاعلة، ولا سيّما في مرحلتنا الراهنة الّتي يغلب عليها شيء من الإحباط السياسيّ الجمعيّ، وهو ما يمكن تسميته تفاؤل الإرادة في مواجهة تشاؤم العقل.

 


إحالات

[1] آصف بيّات، الحياة كسياسة: كيف يغيّر أناس عاديّون الشرق الأوسط، ترجمة: أحمد زايد (القاهرة: منشورات المركز القوميّ للترجمة، سلسلة العلوم الاجتماعيّة للباحثين، 2009).

[2] جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظاهر الحاكم، ترجمة: إبراهيم العريس ومخايل خوري (بيروت: دار الساقي، 1995).

 


 

عديّ البرغوثي

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على البكالوريوس في «التاريخ والآثار»، والماجستير في «الدراسات العربيّة المعاصرة» من «جامعة بير زيت»، يعمل مدرّسًا في رام الله.

 

 

 

التعليقات