حوار مع عزمي بشارة

استمع أيضاً على

في الحلقة 179، يستضيف عبد أبو شحادة في بودكاست الميدان عبر موقع عرب 48، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، د. عزمي بشارة، في حوار لنحو ساعة تناول قضايا عدة، فكرية وسياسية راهنة، عن فلسطين والحرب على غزة وكيف أن الحرب أصبحت عملية قائمة بذاتها تتجاوز الرد على طوفان الأقصى.

ويتناول الحوار أيضا واقع فلسطينيي الداخل تحديدا منذ هبة العام 2021، كما يتحدث بشارة عن مشوار تأسيس المركز العربي للأبحاث ومعهد الدوحة للدراسات العليا، وآخر كتبه عن مسألة الدولة وعن فلسطين.

في ما يلي نص الحوار:

أولًا، دكتور عزمي بشارة، يعطيك العافية أستاذي.

أهلًا أخ عبد.

أستخدم مصطلح "أستاذي"، لأنه دون أدنى شك، منذ كنت طفلًا، شكّلت مقالاتك وظهورك الإعلامي وعيي السياسي وأثّرت فيه. أتذكر أنك كنت من أوائل السياسيين الذين ظهروا على التلفزيون مباشرةً بعد الانتفاضة الثانية؛ كنا نتابع ظهورك كأطفال ونشعر بالفخر بعروبتنا. وللعلم، هذا أول بودكاست تشارك فيه، لذلك شكرًا جزيلًا على هذه الفرصة.

هدف هذه الحلقة بشكل أساسي هو محاولة فهم واقع السياسة الفلسطينية، خصوصًا ما يمرّ به الداخل الفلسطيني. سنتحدث أيضًا عن تجربتك الشخصية، وعن التغيرات التي يشهدها المشهد السياسي حاليًا. لكنني أرغب في البداية بأن أسألك عن تجربتك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، حيث تعمل مديرًا لمركز أبحاث يدرس ويعالج قضايا تُعتبر حساسة ومركبة في عالمنا العربي، مثل الطائفية والديمقراطية والليبرالية. فلنبدأ من هنا، من تجربتك في مركز الأبحاث والدراسات...

شكرًا مرة أخرى على الاستضافة، وعلى إتاحة هذه الفرصة للحديث مع أهلنا في الداخل، عبر موقع عرب 48 وبودكاست الميدان.

عملي الأساسي هو العمل البحثي والكتابي والإنتاج الفكري، وليس إدارة مركز أبحاث. لكن الحقيقة هي أننا اضطررنا لكي ننتج - عندما كنتُ في البلاد - في العديد من المراحل إلى تأسيس مؤسسات مختلفة. وأنت تعلم أنه عندما كنت في الداخل، أسّسنا عددًا من المؤسسات التي ما زال بعضها قائمًا حتى اليوم، لأنني أؤمن بالعمل المؤسسي، وبالدور التحديثي والتنويري الذي تؤديه المؤسسات في النهوض بالمجتمعات العربية، سواءً في الداخل الفلسطينيّ أو في الوطن العربي عمومًا.

لذلك، عندما سنحت الفرصة لتأسيس مركز أبحاث، نتيجة دعم الإخوة في قطر لهذه الفكرة، كانت لدي دائمًا رغبة حقيقية في إنشاء مركز أبحاث كبير يوفر الفرصة لفئات واسعة من الباحثين ليتفرّغوا للعمل البحثي في شؤون وقضايا الوطن العربي، بما فيها قضية فلسطين، إضافةً إلى قضايا أخرى تمر بها المجتمعات والدول العربية، وكذلك مواضيع متعلقة بالتاريخ والتراث والفكر وغيرها.

سنحت الفرصة التي لطالما بحثت عنها، ويُحسب ذلك لصالح الإخوة هنا في قطر، لأنهم دعموا الفكرة فورًا دون شروط، ودون أي تدخل في العمل الأكاديمي على الإطلاق. هذا أمر نادر في معظم دول العالم، وتحديدًا في العالم العربي، وحتى في إسرائيل نفسها. هذا الأمر ليس موجودًا بهذه الصورة، فدائمًا ما يتدخّل المموّل في الأجندات والأهداف، وينطبق هذا الأمر على أوروبا وأميركا أيضًا.

هنا، أعتقد أننا حصلنا على ظروف غير مسبوقة من ناحية الحرية الأكاديمية. بدأنا العمل في عام 2010، واستغرق الأمر بعض الوقت حتى تطور المركز ليصبح بالشكل الذي تعرفه اليوم، وهو الآن من أهم المراكز البحثية في العالم العربي وأغزرها إنتاجًا. وحتى على المستوى العالمي، لا توجد مراكز كثيرة مشابهة في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، رغم وجود مراكز أكبر وأكثر إنتاجًا في مجالات العلوم الأخرى.

كذلك أنشأنا فرعًا في بيروت ليكون دار النشر التابعة لهذا المركز. بدأنا العمل بفريق صغير من 6 أو 7 باحثين، ثم توسّع المركز تدريجيًا. وإلى جانب الأجندة البحثية التي وضعناها لأنفسنا، بدأنا أيضًا بمواكبة بعض القضايا الراهنة. كما تذكر، في عام 2010 نشبت الثورات العربية، بدايةً من تونس في ديسمبر، ثم امتدّت إلى العالم العربي. نتيجةً لذلك، بدأت أجندتنا البحثية تتّجه بشكل أكبر نحو بحث قضايا الانتقال الديمقراطي، إلى جانب القضايا الأخرى طبعًا

نستقبل أبحاث الباحثين ونعمل على نشرها، كما أننا أسّسنا أربع دوريات علمية، مثل " تبيّن" و"عمران". ثم أسّسنا لاحقًا دوريات أخرى مثل "سياسات عربية" و"حكامة"، ومؤخرًا، أسسنا دورية باللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى دورية "أسطور" المتخصّصة في الدراسات التاريخية.

نحاول من خلال هذه الدوريات سد فراغات نعتقد أنها موجودة في الوطن العربي. وجميع هذه الدوريات محكّمة، وفق أتمّ أصول التحكيم الأكاديميّ.

بدأنا أيضًا بسلسلة من المؤتمرات الأكاديمية المحكّمة، واتبَعنا فيها منهج Call for Papers (الدعوة لتقديم أوراق بحثية)، بهدف إفساح المجال أمام الباحثين الشباب للانضمام، وهذا ما حصل بالفعل. أعتقد أن سلسلة المؤتمرات، التي تجاوز عددها حتى الآن العشرات، والتي عُقِدت حول مختلف القضايا، قد جمعت آلاف الباحثين.

أصبح حول المركز شبكة تضم ما بين 2000 إلى 3000 باحث عربي في مختلف المجالات. هذا التوسّع أدّى إلى إمكانيّة التفكير في مشاريع لم يكن من الممكن سابقًا التفكير بالقيام بها، مثل "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، وهو مشروع كان منتظرًا منذ أجيال.

حتى مجامع اللغة العربية لم تتمكن من إنجاز هذا المشروع، لأن الدول لم تكن مثابرة وجادة في هذا الموضوع. أما نحن، بمنهجنا المؤسسي الذي اتبعناه، تمكنّا من جذب بضع مئات من الباحثين اللغويين العرب للقيام بهذا الجهد المشترك. بالطبع، تطلّب الأمر عملًا حاسوبيًّا معقّدًا جدًا لكي يشتركوا جميعًا في التأليف، ونعتقد أننا سنُنجز هذا العمل الجبار، الذي استمر على مدى 14 سنة، مع نهاية هذا العام.، والذي في بعض الدول الأخرى، وفي غياب العمل الحاسوبيّ والأتمتة المتوفّرة اليوم، استغرب ما بين 60 إلى 100 عام.

بالمناسبة، في إسرائيل مثلًا، ما زال العمل قائمًا على المعجم التاريخي للغة العبرية منذ الخمسينيات، ولم يُنجز حتى الآن، بينما نحن على وشك إنهاء المعجم التاريخي للغة العربية هذا العام.

هذه مشاريع ضخمة، ونحن على وشك البدء الآن بمشروع جديد، نتيجة لشبكة العلاقات التي تكوّنت، وللثقة والمصداقية التي يحظى بها المركز. سنبدأ بمشروع قد يكون الأضخم، وهو مشروع الموسوعة العربية (Arabica)، على وزن (Britannica)، و(Iranica)، و(Encyclopedia (Americana، وغيرها.

نسعى من خلال هذا المشروع إلى تأليف موسوعة عربية شاملة باللغة العربية، بحيث يتمكن الشاب أو الشابة، أو الباحث، أو حتى الإنسان العادي الذي لديه حب استطلاع، من الوصول إلى معلومة دقيقة، موثقة، مكتوبة ضمن مقالة موقّعة يتحمّل مؤلفها المسؤولية عنها — على عكس ويكيبيديا، حيث يغيب اسم الكاتب.

هذا ما نعمل عليه الآن، كما أقوم شخصيًّا بتأليف بعض المداخل لهذه الموسوعة، تمامًا كما يفعل باقي الباحثين المشاركين في المشروع.

للمركز فروع في باريس وواشنطن وتونس، ونُخطّط حاليًا لافتتاح فرع في مدريد، والهدف من ذلك هو اللغة؛ اللغة الإسبانية. نريد أن نصدر أبحاثًا، أو قسمًا من أبحاثنا باللغة الإسبانية، كما هو الحال الآن في فرع باريس الذي ينشر بالفرنسية، وفرع واشنطن الذي ينشر بالإنجليزية.

لكن المشروع الأهم للمركز، والذي أُسّس في عام 2015، هو "معهد الدوحة للدراسات العليا". الهدف من هذا المعهد هو إنتاج معرفة باللغة العربية، بمنهج متداخل التخصصات، ومنح الفرصة للطلاب العرب المتفوقين من مختلف الدول العربية، الذين لا يملكون الإمكانيات المالية للسفر إلى الغرب، أن يدرسوا الماجستير لمدة عامين، بشكل متفرغ، وضمن منحة كاملة — وهذا ما تم بالفعل.

استغرق الأمر وقتًا وجهدًا حقيقيًا كبيرًا حتى استطعنا جمع الهيئة الأكاديمية اللازمة من أساتذة جاءوا من مختلف الدول العربية، ومن جامعات غربية، ومن أنحاء متعددة من العالم. لدينا اليوم طلاب من أكثر من 20 دولة، وطبعًا مستوى الطلاب يتحسّن باستمرار، لأن مصداقية المعهد وشهرته في تصاعد، مما يجذب أفضل الطلاب للتسجيل فيه.

كما نجحنا في استقطاب نخبة من أفضل الأساتذة العرب، وهو ما جعل المعهد يشكّل اليوم بوتقة لتكوين نخبة عربية جديدة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية. هذه النخبة تعيش معًا داخل الحرم الجامعي، إلى جانب المركز العربي، ما يوفّر بيئة تفاعلية بين العمل الأكاديمي التعليمي والعمل البحثي.

كان مهمًا بالنسبة إليك أن يشمل المعهد والمركز طلابًا ومحاضرين من الداخل الفلسطيني أيضًا؟

لقد نظرنا إلى العالم العربي بشكل عام، لكن بالتأكيد، أنا لا أنسى الداخل في كلّ ما أقوم به — وأنت تعرف ذلك. تواصلي لم ينقطع مع الأهل، مع الأصدقاء، مع الناس الذين ناضلوا وعملوا معي، وحتى مع الجيل الثاني الذين لا أعرفهم؛ أولئك الذين كانوا أطفالًا أو صغارًا عندما غادرت، لكنني أعرف الأجواء جيدًا.

لقد اجتذبنا بعض الأساتذة من الداخل، وجاء بعض الطلاب وسجّلوا في المعهد، وبعضهم تخرّج. لكنني أعتقد أن حاجة الطلاب في الداخل إلى هذا النوع من البرامج قد تكون أقل مقارنةً بباقي الدول العربية، لأن لديكم جامعات وفرص تعليم، والأقساط ليست مرتفعة بشكل خاص إذا ما قورنت بالجامعات الغربية.

ومع ذلك، جاء طلاب من الداخل ربّما حبًّا بالفكرة، وربما رغبةً في اللقاء مع إخوة من مختلف الدول العربية، وأعتقد أن هذه تجربة غنية ومهمة بالنسبة إليهم. حصلوا على درجة الماجستير المعترف بها عالميًا، ويمكنهم استكمال الدكتوراه في أي جامعة في العالم، إن تم قبولهم طبعًا.

وعلى فكرة، نحن أيضًا بدأنا منذ حوالي عامين برنامج دكتوراه يمتد لأربع سنوات، وستكون أوّل خريجة منه من المغرب.

أودّ أن ننتقل للحديث عن الملاحقة السياسية في الداخل، وخصوصًا ضد التجمع الوطني الديمقراطي، وضد مشروع دولة جميع المواطنين. لقد مرّت حوالي عشرين سنة على خروجك من البلاد، ومع ذلك، لا يكاد يمرّ عدد من السنوات إلا وتحدث موجة جديدة من الملاحقة السياسية، أو اعتقالات، أو حملات تحريض. ومؤخرًا، شهدنا موجة تحريض جديدة. مشروع التجمع الوطني الديمقراطي – أي مشروع دولة جميع المواطنين – هو بالأساس مشروع ديمقراطي، يتحدث بشكل عن المساواة. كيف تفهم هذا التحريض المستمر، وهذه الكراهية التي تُوجَّه ضدّ مشروع دولة جميع المواطنين والتجمع الوطني الديمقراطي؟

أعتقد أن هذا المشروع يثير الحنق والغضب لسببين. أولًا، لأنه مشروع جذري، يلامس القضية الرئيسيّة التي، من دون معالجتها، لن يكون هناك حل لأي قضية أخرى. فهو يذهب مباشرة إلى الأساس، ويخاطب أولئك الذين لم يتجاوزوا بعد الرسالة التاريخية للصهيونية. المشروع يطرح أسئلة جوهرية مثل: لماذا وقعت النكبة؟ لماذا يستمر التمييز العنصري؟ ولماذا يريد الاحتلال الأرض دون السكان؟

هذه الأسئلة تلامس القضايا المركزية في المشروع الصهيوني، ولذلك يصعب على كثير من المتمسكين بهذا الفكر أن يناقشوها بشكل عقلاني. ولهذا السبب، غالبًا ما ينتقل النقاش بسرعة إلى مستويات غير عقلانية؛ إلى مستويات من التحريض، كما وصفتها، مليئة بالإثارة والموقف العاطفيّ.

من الصعب جدًا أن تناقش هذا المشروع أو تجادل ضده باستخدام أدوات ديمقراطية، لأنه ببساطة مشروع ديمقراطي في جوهره — وهذا هو السبب الثاني. حتى طرح هذا المشروع، كانت الصهيونية قادرة على الادعاء بأنها تحتكر الديمقراطية في المنطقة. لكن عندما جاء مشروع دولة جميع المواطنين، قال: لا، الواقع مختلف. الحقيقة أن النظام القائم ليس ديمقراطيًا في جوهره، لأنه لا يفصل بين الدين والدولة، ولا بين الدين والأمّة. المفترض في أي دولة ديمقراطية أن تقوم على أساس المواطنة، لا على أساس ديني، وألّا تُحدَّد هوية الفرد أو انتماؤه للدولة بناءً على دينه.

ولذلك، اضطر كثير من الصهيونيين في نهاية المطاف إلى الاعتراف بأنهم، إذا خُيّروا بين "يهودية" الدولة و"ديمقراطيتها"، فسيختارون "يهوديّتها". بمعنى آخر، إذا ذهبنا بالنقاش حتى نهايته، وطرحنا السؤال الجوهري: هل تريدون دولة لجميع مواطنيها؟ أم دولة لا يمكن أن تكون ديمقراطية فعلية؟ فإن الإجابة تكون: "لا نريد ديمقراطية فعلية". بهذا، يُجبَرون على قول ما لا يريدون قوله، ولهذا السبب تحديدًا يغضبهم هذا الطرح.

أنا اليوم لا أعمل في السياسة، بل متفرغ للعمل البحثي والفكري، وكذلك لقضايا ثقافية متعددة. لكن هذا لا يمنعني من اتخاذ مواقف سياسية كمثقف مسؤول، وأعتقد أن من واجبي اتخاذها، خاصةً حين يكون شعبك مظلومًا، والشعوب التي تعيش بينها مظلومة أيضًا.

مع ذلك، إذا قررت أن تعمل في السياسة، فلا ينبغي أن يكون هدفك إغضاب الطرف الآخر كل يوم. بطبيعة الحال، هذا المشروع – إذا وُضع على الأجندة – سيكون بطبيعته مثيرًا لحنق وغضب المتمسكين بالأيديولوجيا الصهيونية وأولويّاتها على أيّ شيء آخر، كما كان آباء الحركة الصهيونية يرددون دائمًا: هناك قضية فوق كل القضايا الأخرى، وهي قضية الدولة اليهودية؛ وكل شيء يجب أن يخضع لها".

عندما تدخل إلى العمل البرلماني، لا تبقى طوال الوقت تردّد "دولة جميع مواطنيها، دولة جميع مواطنيها". لا يعود هذا هو الموضوع لأنك لا تريد أن تقضي يومك في إثارة الطرف الآخر دون أي إمكانية للحوار. ما يجب فعله بدلًا من ذلك، هو أن تحاول ترجمة هذا المشروع إلى قضايا صغيرة، إلى تفاصيل، وتبدأ العمل على هذه القضايا التفصيليّة التي تُترجم هذا المشروع بشكل ملموس ويوميّ، وسيكون من الصعب على الطرف الآخر أن يناقشك فيها، لأنها قضايا عينية وبسيطة.

طبعًا، من يقرأ الأمور بمنظار أيديولوجي سيفهم سريعًا أن الهدف النهائي من هذه التفاصيل هو تحقيق مبدأ دولة جميع المواطنين. لكن اللغة التي تُصاغ بها المطالب هي لغة عاديّة، لغة ديمقراطية. أنت تطالب بالحقوق والمساواة، ومن هنا جاءت – إذا كنت تتذكر – سلسلة مشاريع القوانين التي طرحناها في ذلك الوقت، والتي كان من الصعب تحدّيها، لأنها ببساطة كانت تتحدث عن حقوق مواطنين، دون تمييز بينهم.

الأمر الأخير الذي أود إضافته في إجابتي على هذا السؤال، هو أن المجتمع الإسرائيلي اليهودي، في مراحل الأزمات الكبرى — مثل الانتفاضة الثانية، أو الحرب الحالية، أو الحروب بشكل عام، وحتى في الأزمات من هذا النوع، وبعض الأزمات الاقتصادية (رغم أننا لم نعش فعليًا أزمة اقتصادية حادة) — يميل إلى الانغلاق والانطواء على ذاتهأكثر من أي وقت آخر. في هذه اللحظات، يزداد رفض الآخر، ويتوسع منطق الإقصاء والاستثناء، ويصبح هناك بحث مستمر عن صورة العدو، وخاصةً ما يُطلقون عليه "الطابور الخامس". ويبدأ الغضب والتحريض على أمور مثل "دولة مواطنيها" أو "دولة جميع المواطنين" وما شابه.

وأنا أعتقد أن هذا أمر طبيعيّ في حالة أقلية تعيش داخل دولة متقدمة تكنولوجيًا، وحديثة، وتمتلك كلّ أدوات القمع— بما في ذلك القمع الإعلامي، وإثارة الشائعات، والتحريض؛ فمن الطبيعي، في مثل هذه الظروف، أن تنطوي الأقلية على نفسها وتخاف، وأن تقلّل من حدّة الخطاب السياسيّ، خاصةً بين الناس العاديين الذين لا ينشطون سياسيًا. أنا لا أتحدث هنا عن المسيّسين أو المناضلين، بل عن الناس العاديّي الذين يريدون أن تمرّ الأزمة بسلام، دون أن يتعرّضوا للخطر.

ولذلك، من الطبيعي أن يكون منسوب البروباغندا الغاضبة أعلى بكثير في المرحلة التي تعيشونها الآن في الداخل. وأقصد هنا المنسوب وليس المستوى. وفي المقابل، يزداد أيضًا الحذر لدى عرب الداخل، لأنهم مواطنون لديهم ما يخسرونه. لذلك، يشعر كثير من الوطنيين في مثل هذه المراحل بالضيق، ويشعرون أن المرحلة صعبة. لكن من المهم أن يتفهموا مشاعر الناس وتوجهاتهم في هذه المرحلة. هذه مرحلة، وسوف تمرّ. لكن في النهاية، يبقى الخطاب السياسي الصحيح هو الخطاب السياسي الصحيح.

في النهاية، لا يمكن الوصول إلى تسوية عادلة، أو إلى أي شكل من أشكال العيش المشترك في هذه البلاد، من دون الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية. ولا يمكن أن تكون هناك مواطنة حقيقية من دون الاعتراف بحقوق السكان الأصليين وتعويضهم، على الأقل، يجب أن تكون المواطنة مواطنة كاملة، وأن يُعاملوا كمواطنين كاملين، مع الاعتراف بهويتهم الوطنية الفلسطينية كفلسطينيّين.

هذا هو الواقع الحاليّ. وكما قلت سابقًا، نعم، هذا موضوع يُخيفهم — لأنه خطاب ديمقراطي غير عنيف، خطاب يمكن أن يُقال في أي مكان في العالم ويُفهم. عندما تقول ببساطة: "الدولة يجب أن تكون لجميع المواطنين، وليست دولة ملايين الناس الذين ليسوا مواطنيها". إن أي إنسان ديمقراطي في العالم سيفهم هذا الخطاب. والحقيقة أن قوة هذا الخطاب تكمن في بساطته.

النقاش ليس مع اليمين الصهيوني، لأن اليمين — كما نعلم — إذا طُرح عليه الاختيار بين "يهودية" الدولة و"ديمقراطيتها"، فسيختار "يهودية وغير ديمقراطية". وهناك تيارات مسيانية تطمح إلى إقامة مملكة يهودية. ولكنّ النقاش مع اليسار الصهيونيّ… هل تكمن الأزمة في غياب تيار سياسي يمكن التحاور معه انطلاقًا من المبادئ التي يدّعي الإيمان بها؟ مثل الليبرالية، وفصل الدين عن الدولة، والمساواة بين جميع المواطنين؟

أريد أن أدقّق بعض المصطلحات. الصراع الحقيقي هو مع اليمين الصهيوني، لأنّه يدخل في صراع مواجهة كاملة. هو لا يريد أي نقاش أصلًا، بل يعتبر موضوع "دولة جميع المواطنين" إما تحت أي نقاش، أو فوق أي نقاش، أو بالأحرى، خارج إطار النقاش تمامًا — من المحرمات. ولهذا السبب، يحاول تقييد حريّة التعبير، وكلما ازدادت قوة اليمين في مؤسسات الدولة، نشعر أن القيود على حرية التعبير تزداد، تحديدًا في هذا النوع من القضايا.

أما ما يُسمى بـ"اليسار الصهيوني"، أو بالأدق، القوى التي تدّعي الليبرالية في الأوساط الإسرائيلية، فهي لم تعد يسارية فعليًا، على الأقلّ تدّعي الليبراليّة في قضايا حقوق الإنسان، المحكمة العليا، قضايا الحريات الفردية... هذه طبعًا ثمّة نقاش معها، لأنّها على الأقلّ متمسّكة بالديمقراطيّة، وتحاول أن تُثبت طوال الوقت، بأن "يهودية" و"ديمقراطية" لا تتناقضان.

مع هذه القوى، يمكن أن يكون هناك نقاش، ولكن تذكّر، في بعض الحالات ثمّة صراع أيضًا، لكن النقاش معهم ضروري وممكن. بعض الإخوة، خاصةً من ذوي النزعة الراديكالية، يرفضون فكرة المساومة أو النقاش أصلًا، ويقولون إن "اليسار أخطر من اليمين"، لأن اليمين واضح ومكشوف، واليسار ليس مكشوفًا، وكأنّ القضيّة هي أن يكون مكشوفًا أم لا. اليمين والفاشيّة أخطر من النفاق والكذب (عند اليسار - عرب 48). ومواجهته أسهل من مواجهة اليمين والفاشية.

ولذلك، صحيح أن النقاش الحقيقي والجدي يمكن أن يكون مع الأوساط الليبرالية واليسارية — لكن هذا لا يعني أنها الأخطر. الأخطر هو اليمين، لأنه يرفض أصلًا فكرة النقاش، ويدخل معك في صراع مباشر: أن تكون أو لا تكون. هكذا يدخل اليمين الصراع. أنتم تلاحظون ذلك جيدًا في مراحل حكم اليمين: هناك تصعيد واضح في التشريعات التي تقيّد حرية التعبير، وتصعيد في التعريفات التي تجعل من المواطنة مشروطة.

اليمين يقول لك: "المواطنة المتساوية غير ممكنة، وليست ضرورية". بل يذهب أبعد من ذلك، ويقول إن المواطنة يجب أن تكون مشروطة بالولاء للدولة، وربما لاحقًا بالخدمة العسكرية. هذا تجده في مقالات نشرها سموتريتش، يشرح فيها فكرته عن ضمّ الضفة الغربية، ويتحدّث فيها بوضوح حول هذا الأمر: من لديه حقوق مواطنة هو الموالي، وغير الموالي ستكون له حقوق مدنيّة فقط، ل حقوق مواطنة. لقد صنّف الأمور بشكل واضح.

هذه بعض الأمور التي أتابعها أحيانًا مما يُنشر عندكم. بعضها مهم فعلًا، لأنه يوضح هذه القضايا بوضوح ومن دون أي مراوغة.

أصدرتَ في العامين الأخيرين أربعة كتب، من بينها مساهمة نظرية جديّة في فلسفة الدولة، وكتابين حول قضية فلسطين. في العامين الأخيرين، نشهد تحوّلات جوهرية على المستوى العالمي. وفي مقالك الأخير، الذي نُشر أيضًا في موقع عرب 48، تناولت الواقع السياسي الجديد في المنطقة، خاصةً في ظل إدارة أميركية تسمح لإسرائيل بأن تقصف يوميًا في غزة ولبنان وسورية. كيف تقيّم المرحلة الجديدة؟

ما دمتَ قد ذكرت الكتب، فالحقيقة أن الانتباه عادةً ما ينصبّ لدى السياسيين أو المهتمين بالشأن السياسي، أو حتى الصحفيين — مثل موقع عرب 48 وغيره — على المقابلات السياسية والمقالات. لكن عملي وإنتاجي الأساسي لا يتركّز في القضايا السياسيّة. منذ خروجي من البلاد وحتى اليوم، صدر لي نحو عشرين كتابًا، معظمها في قضايا فلسفية، وليست في قضايا سياسيّة. على سبيل المثال، الدين والدولة، قضيّة الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ في ثلاثة مجلّدات عملتُ عليها ٤ سنوات، وهي قضايا فكريّة وفلسفيّة في الدين والعلمانيّة.

الكتب التي ذكرتَها مؤخرًا، مثل "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات"، أو كتاب "الدولة العربية: المنشأ والمسار"، فهي كتب فكرية. كتاب الدولة، على سبيل المثال، هو كتاب فلسفي حول فلسفة الدولة. وهو ليس الوحيد عربيًا في هذا المجال، فهناك كتب عربيّة أخرى في هذا الموضوع، لكنني أدّعي أنه يُقدّم مساهمة نظرية، لا تقتصر على السياق العربي فقط، تمامًا كما كان كتابي السابق عن المجتمع المدني مساهمة في نظريّة المجتمع المدنيّ، ليس عربيًّا فقط.

وأنا أعتقد أن هذا هو الاتجاه الذي يجب أن يسير فيه الإنتاج الفكري العربي: أن تجد لنفسك مكانًا في الإنتاج المعرفي العالمي. بدون ذلك، لن تقوم لنا قائمة، هذا موجّه للنخبة القادرة على ذلك، ولكن بدلاً من أن ننشغل طوال الوقت بالنقاش حول ما إذا كان الإنتاج المعرفي الغربي استشراقيًا أو غير استشراقي، أو ما إذا كنا معه أو ضده، إنّما أن ننتج وننافس في هذا السوق.

لذلك، بدأت مؤخرًا بالاهتمام بترجمة كتبي إلى الإنجليزية، وكتبت كتابًا بعنوان Palestine: Matters of Truth and Justice، تُرجم لاحقًا إلى العربية. وبعد أن انتهت الترجمة، حدثت الحرب الأخيرة بعد عمليّة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.

والمفارقة أن الترجمة كانت قد انتهت قبل اندلاع الحرب الأخيرة، التي بدأت مع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر.

الكتاب الثاني عن فلسطين لم أُرد أن أُدرجه كفصل ضمن النسخة العربية، حتى لا أُشوّه الترجم. لذلك، أصدرته ككتاب مستقل بعنوان "الطوفان – الحرب على الفلسطينيين في غزة". والحقيقة أنني، في هذه المرحلة، كما يظهر في هذا الكتاب، وأيضًا في المقال الأخير الذي أشرتَ إليه حول مشروع إنشاء منطقة نفوذ إسرائيلية في المشرق العربي، لا أُخفي تشاؤمي الأوضاع، نتيجة السلوك الأميركي في التعامل مع العدوانية الإسرائيلية. ما يمكن أن أسمّيه – ولم أسمّه بهذا الشكل في المقال وكان يجب أن أفعل – هو: "سكرة القوة الإسرائيلية والتغطية الأميركية لها".

هذه التركيبة تحديدًا، التي يمثلها ترامب – نتنياهو، تُثير التشاؤم. فمن جهة، لدينا قيادة إسرائيلية تعيش في حالة سكرة القوة، والآخر يؤمن بسياسات القوة، ويؤمن بتقسيم العالم بين الأقوياء، ويعتقد أن الطرف الأقوى في الشرق الأوسط هو إسرائيل، ويصحّ أن يُتاح لها أن تكون فاعلة، كما يعتقد أنّ الصين إذا أرادت ضمّ تايوان، فليست لديه مشكلة في ذلك، وعلى تايوان أن تدافع عن نفسها، أو أن روسيا يمكنها ضمّ أجزاء من أوكرانيا لأنها تملك القوة اللازمة لذلك. ويرى المنطق نفسه - وليس بالضرورة من منطلق صهيونيّ طبعًا، وهو محاط بالصهاينة أيضًا - أنّه بإمكان إسرائيل أن توسّع منطقة نفوذها في المشرق العربيّ على الأقلّ في لبنان وسورية وفلسطين، وربّما الأردن لاحقًا.

لذلك كنتُ أحاول أن أستنفر عقل - وليس مشاعر - الحكومات العربيّة، بأن لا مصلحة لهم في ذلك. حتّى حلفاء أميركا لا يفترض أن تكون لديهم مصلحة في أن يصبحوا جزءًا من منطقة نفوذ إسرائيليّة.

وقد ثبت خلال الحرب، وهذا ما كنتُ أحاول قوله أيضًا في الظهور الإعلامي — مع أنه ليس من اختصاصي الأكاديمي، ولا هو عملي. فالناس تعتقد أنني أمارس العمل السياسي، وهذا غير صحيح. هذه المقابلات أجريها بصفتي مثقفًا، لأقول رأيي، وأعتقد أن من واجبي أن أُقدّم هذا النوع من التحليل. وتحليلي خلال الحرب كان أنّ الدول العربيّة كانت قادرة على وقف الحرب، لكنّها لم تفعل ذلك. وهذا هو أساس تشاؤمي. وتشاؤمي الآن من أنّهم قادرون على التصدّي لمنطقة النفوذ الإسرائيليّ، لكنهم لن يفعلوا ذلك. والسبب هو أنّ كلّ واحد منهم ينظر من زاوية ضيّقة، هي زاوية مصالحه ومصالح النظام بعينه، وعلاقاته مع الولايات المتّحدة، وتنافسه مع الدول الأخرى - حتّى لو كانت حليفة للولايات المتّحدة - وهو تنافسٌ بالتقرّب من الولايات المتّحدة.

هذه الحالة لم تُمكِّنهم من بلورة رؤية لعدوان إسرائيل على غزة، ولم تُمكّنهم من رؤيته كخطر عليهم أيضًا. ولن يحترمهم أحد في المستقبل، أو يحسب لهم حسابًا، بسبب هذا السلوك، إن لم يتمكنوا من نجدة المدنيين الفلسطينيين، من أطفال ونساء، ممّن يتعرضون لحرب إبادة.

الهروب إلى لوم "حماس" بسبب 7 أكتوبر، فبغض النظر عن موقفك من ذلك اليوم، فأنا قد قيّمتُه، كما تعلم، على أنه خطأ، لأنّ المقاومة لا يُفترض أن تقوم بعمليات حربية، بل أن تمارس عمليات مقاومة. لا أن تفتح حروبًا، أو تتعرض لحروب، أو تساهم فيها، لأنها ببساطة غير قادرة على ذلك في ظل ظروف الحصار القائم. وعمومًا، برأيي، فإن قضايا مثل خطف المدنيين – وتعرف موقفي من هذا منذ كنت في البلاد، فهو ليس موقفًا جديدًا – لا تُغيّر من موقفي المبدئي في دعم حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، بما في ذلك حق الشعب الفلسطيني. فالمقاومة لا تنتهي إلا بانتهاء الاحتلال. وكنت دائمًا أقول إنّ المقاومة ليست فقط حقًّا، بل هي واجب، ولكنها يجب أن تلتزم بقواعد وأصول وقوانين، وأن تجري في ظل القيم الإنسانية. أي أنها ليست متحررة من هذه القيم، بل يجب أن تكون خاضعة لها.

على كل حال، العدوان على غزة، وحرب الإبادة التي تعاطفنا خلالها مع الشعب الفلسطيني، والتي كنّا – وما زلنا – نبحث خلالها ليل نهار عن طرق لجعل هذا التضامن فاعلًا، جعلتني أشعر بأن من واجبي أن أُنذر وأُحلّل. وإذا كنتَ تتذكر، فقد كانت أول مقابلة لي خلال تلك الأحداث، قلتُ فيها للمقاومة الفلسطينية: توقّعوا أسوأ السيناريوهات. لأننا نعرف إسرائيل، ونعرف كيف سيكون ردّ الفعل، ونعرف حجم التعبئة التي جرت. وفعلاً، وقع أسوأ السيناريوهات.

إذا لم تحدث صحوة عربية رسمية، وأيضًا صحوة في صفوف الشعوب العربية، فنحن ذاهبون إلى نفق مظلم. لا أرى مخرجًا منه في الظرف الراهن، إذا لم تتحوّل الطاقة أو القدرة — الإمكانيات العربية — إلى قوة فاعلة على الساحة الدولية والإقليمية، من خلال إيقاف إسرائيل عبر إنذارها بوقف السلام معها، أو أمور على هذا المستوى، حتّى يتوقّف العدوان وللأسف، هذا لم يحدث حتى الآن، رغم أن الخطر يزداد، وسلوك إسرائيل في المنطقة، وهذا التوحش الإسرائيلي الحالي، مستمر وبدعم أميركي مطلق.

أذكر أنه في واحدة من أولى المقالات التي نشرتها بعد بداية حرب الإبادة، قلتَ إن هذه الحرب ستنتهي، وسينظر الجميع إلى الخلف، كما حصل بعد حرب العراق، وسيندمون ويقولون: لماذا سمحنا بحدوث ذلك؟ ولكن حينها سيكون الوقت قد تأخر. ما يميز حرب الإبادة الحالية هو أنها موثقة بالصوت والصورة منذ اليوم الأول. عدد الفيديوهات التي نُشرت من غزة خلال السنة والنصف الماضية يتعدّى مئات الآلاف، ومع ذلك، هناك صمت — صمت عالمي. وليس مجرد صمت، بل تُشنّ أيضًا حملة ممنهجة ضد المؤسسات الدولية، مثل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومؤسسات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في كل ما يتعلق بحرب الإبادة في غزة.

هل يدلّ هذا على شيء جديد يحدث في العالم؟ ليس فقط فيما يخصّ قضية فلسطين، بل على مستوى أعمق: تراجع في مفهوم حقوق الإنسان، وفي مكانة المحكمة الدولية، والمبادئ التي تأسست عليها المؤسسات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية؟

بالتأكيد، هناك تراجع، ولا أدري إن كان سلوك ترامب الحالي سيوقف هذا التراجع، بمعنى أن يُنتج ردّ فعل مضاد. لكنني بدأت أشعر أن سلوك ترامب يقود هذا التراجع إلى نهايته القصوى.

هذا التراجع يتمثّل في صعود الشعبوية واليمين. ولهذا، أحتاج إلى وقت طويل لتحليل الظاهرة. على فكرة، لدي كتيّب صغير بعنوان "ما هي الشعبوية؟" أقول فيه رأيي حول هذا الموضوع. هذا نقاش طويل: كيف وصلت النيوليبرالية الاقتصادية، التي سادت في الغرب، إلى أن تستند اليوم إلى شعبويات قومية متطرفة أو شوفينيّة — أي شوفينية إثنية متطرفة — في الدول الأوروبية، ثم لاحقًا في الولايات المتحدة.

الآن جاء شخص مثل ترامب، يحمل مشاريع مغامِرة وغير مدروسة، وبرأيي هي مشاريع غير عقلانية إلى حد كبير، لأنها تحرّكها نرجسية. وكما تعلم، الغرور أحد أشكال الغباء في نهاية المطاف. هذه السياسات ستفشل، لأنها تهدم منظومات اقتصادية احتاجت إلى عقود من البناء، وساهم فيها نخب ومثقفون وحكام وخبراء. نحن نتحدث هنا عن منظومة التجارة الدولية، التجارة الحرة الدوليّة، التي بُنيت كجزء من المنظومة الليبرالية الرأسمالية، وهم الآن يقومون بهدمها تحت شعارات حمائيّة اقتصاديّة تعود إلى القرن التاسع عشر.

وفي ظل صعود هذه الشعبوية، في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها، بدأت حملة عامة ضد الحقوق الليبرالية، ضد الحريات وحقوق المواطن. هذه الحملة توسّعت، وأصبحت تستهدف – بدرجات متفاوتة – "الآخر" بكل أشكاله: المرأة، التوجّهات الجنسية المختلفة، الأقليات الإثنية والمهاجرين. وظهر نوع من الخوف العام من "الآخر الأجنبي"، الذي بدأ يطغى على كل شيء، بما في ذلك القضية الفلسطينية، حيث اختلط العداء للفلسطينيين بالعداء للإسلام في هذه المرحلة، وصرنا نرى حالات استقطاب داخل المجتمعات الغربية لم تكن مألوفة من قبل.

بمعنى أن قضية فلسطين، رغم أنها كانت مهمَّشة في السابق ولم تكن مهيمنة على الاهتمام الغربي، ولم يكن التعاطف معها واسعًا، إلا أنه لم يكن هناك استقطاب حولها كما هو الحال اليوم. حاليًّا، تأييد القضية الفلسطينية في المجتمعات الغربية ازداد، لم ينخفض. لكنه تزامن مع تصاعد عداء شديد لها، لأن هذا العداء اختلط بالعداء للأجانب عمومًا، وللمسلمين بشكل خاص.

القوى الشعبوية، التي سيطرت في بعض الدول أو على الأقل باتت تُخيف الحكّام في دول أخرى — تخيفهم من نتائج الانتخابات المقبلة — دفعت هؤلاء إلى تملّقها، ما أدّى بدوره إلى نوع من الاستهتار بالمنجزات الدولية لحقوق الإنسان والحقوق الليبرالية. بما في ذلك محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وهي من أبرز إنجازات ما بعد الحرب العالمية الثانية. المحكمة الجنائية الدولية تحديدًا، هي إنجاز متأخّر نسبيًا، وقد أُنشئت على خلفية جرائم الإبادة الجماعية (الجنوسايد) في أفريقيا، مثل حالة رواندا، وكذلك في البوسنة.

لنتحدث الآن عن الداخل، في ظل هذا الواقع السياسي العالمي. تحديدًا في السنوات الأخيرة، وليس فقط منذ بداية حرب الإبادة، نشهد واقعًا غير مسبوق: تحريض ضد الأحزاب، إخراج الحركة الإسلامية الشمالية عن القانون، وملاحقة التجمع الوطني الديمقراطي بأساليب متعددة. نحن نعيش في عالم يُحكم فيه بمنطق القوة، حيث القوي هو من يفرض إرادته.

في ظل هذا، ما المتوقع من الأحزاب السياسية؟ على الأقل من أجل حماية المواطنين الفلسطينيين في الداخل؟

كنتُ في يوم من الأيام حزبيًا في الداخل، وهناك حساسيات، وما إلى ذلك، ولذلك لا أرى من المناسب أن أوجّه نصائح مباشرة للأحزاب، فهذه ليست وظيفتي. لديهم قياداتهم، وليتصرّفوا . أنا أتحدث هنا بشكل عام عن العمل السياسي في الداخل. كما قلت لك، بطبيعة الحال، في أجواء الأزمات، وفي ظل أجواء التحريض والتعبئة، يحدث تراجع عند الناس، وهذا أمر طبيعي. يظهر الخوف، خاصةً عندما يشعر الناس أن مصالحهم مهددة، وخصوصًا بعد الإجراءات الانتقامية التي فُرضت منذ انتفاضة 2021.

أنت تعرف السياسات التي سبقت 7 أكتوبر، إذ اتخذت المؤسسة الإسرائيلية قرارًا واضحًا: ألّا يتكرر ما حدث في هبّة 2021. لذلك، جرى توجيه ممنهج — ولا أحد يقل لي إن القضاء مستقل — لقد اتّخذ القرار والتوجيه كان واضحًا، والقضاء التزم به. الهدف كان فرض عقوبات أشد من أي مرة سابقة.

ورأيتَ بنفسك العقوبات التي فُرضت على الشباب بعد 2021. هل كان القضاء يومًا مستقلاً ثم لم يعد كذلك؟ لا، القضاء جزء من الأجواء القومية الوطنية القوميّة في إسرائيل، ويشعر أن أجنداته جزء من أجندات الدولة. كما أن القضاء في الأراضي المحتلة يعمل كأداة احتلال، فإنه داخل إسرائيل أيضًا يُعد جزءًا من ما يُعتبر أمنًا وطنيًا إسرائيليًّا، يعمل على الدفاع عنه والحفاظ عليه. لذلك، ارتفعت العقوبات إلى مستوى رادع فعلًا، وتصادف صدور العقوبات مع أحداث 7 أكتوبر، وقمع لأي احتجاجات. بدأ الأمر بالاعتقالات بسبب منشورات على فيسبوك، وكانت الرسالة واضحة تمامًا.

وأنا أتفهّم الناس، وأتفهّم حذرهم، لكن هناك أمور لا يجوز للعمل السياسي أن يمرّ عليها، وعلى رأسها الموقف: عدم التراجع عن الموقف من جرائم الاحتلال، ومن حرب الإبادة، ومن حق الشعوب في مقاومة الاحتلال — مع التأكيد طبعًا على نقد أي ممارسات تتجاوز القيم الإنسانية الكونية التي نؤمن بها، حتّى تفقد مصداقيتك عندما تتحدث عن العدالة والحرية والمساواة وحقوق الإنسان. لا بدّ من المثابرة في هذا الجانب، وكذلك، يجب عدم المبالغة في الخوف. حتى في القضايا التي يمكن العمل عليها ضمن القانون، يجب ألّا تُفرط في الحذر، ولا أن تقدم نموذجًا انتهازيًا للناس، بل يجب أن يكون الموقف صلبًا وعقلانيًا في الوقت ذاته.

مثلًا، كما ذكرتَ، التجمّع الوطني الديمقراطي يتعرض لحملات وملاحقة، وأنا جرّبت ذلك على جلدي؛ محكمة تلو الأخرى، إلى أن وصل الأمر بتلفيق تهم أمنية. أنا أعرف تمامًا ماذا يعني هذا. لكن، رغم كل ذلك، فإن وجود التجمّع الوطني الديمقراطي، وقاعدته الاجتماعية التي تتوسع – كما ظهر في الانتخابات الأخيرة – يُثبت أن الناس تشعر بأهمية هذا الوجود، لأنه يُمثّل قضية حقيقية وموقفًا يتلاءم تمامًا مع واقع عرب الداخل. وهو: الحفاظ على الهوية الوطنية. لأن التخلي عن هذه الهوية هو وصفة، أو لنقل Recipe، للانحلال الأخلاقي الذي تشهده المجتمعات، مثل حالة الجريمة عند عرب الداخل. هذه قضية مصيرية، أعتقد أنها مرتبطة بشكل وثيق بوجود أخلاق وطنية، ووحدة وطنية، وثقافة وطنية لدى الشباب والناس عمومًا.

غياب هذه الثقافة، يفتح الباب أمام ثقافة استهلاكية مفرطة، تؤدي إلى الاقتراض المستمر، والغرق في الديون، والتعرض للضغوطات والانهيارات التي نراها اليوم. وهي حالة عايشتها أقليات قومية أخرى في دول مختلفة، مثل السود في أميركا، وغيرهم.

إذا كان التجمّع الوطني الديمقراطي يشعر أن وجوده ضروري للحفاظ على الهوية الوطنية والقومية، وللرقي الاجتماعي لعرب الداخل، وأيضًا لقضية المواطنة التي كنا نتحدث عنها، فذلك يعني أنه يجب أن يحافظ على نفسه، وأن يفعل ذلك من دون التنازل عن مواقفه ومبادئه، ولكن أيضًا بأن يتصرف بعقلانية تُمكّنه من البقاء والاستمرار في هذه الظروف — وأعتقد أنهم يفعلون ذلك بالفعل. أنا لست على صلة بكل التفاصيل، ولكن من خلال قراءتي لبعض الأمور حين تسنح لي الفرصة لمتابعة ما يجري في الداخل، أعتقد أنهم يتصرفون على هذا الأساس، وهذا جيّد..

لكن، كما قلت، لا يجب المبالغة. لا يمكن للقيادة السياسية أن تمشي أمام الناس بعشرة كيلومترات، ولا أن تسير خلفهم. يجب أن تكون على رأس الناس، لا خلفهم ولا بعيدًا عنهم، بل قريبة منهم، تقودهم وتشجعهم وتُعزز ثقتهم بأنفسهم، حتى لا يعيشوا في حالة خوف دائم.

في النهاية، هؤلاء الناس مواطنون، وهذه بلادهم. هم فلسطينيون، . وهم يؤدون أدوارًا في غاية الأهمية داخل الاقتصاد القائم: في القطاع الطبي، في الزراعة، في البناء، في مجالات كثيرة. دورهم مركزي، ولا يمكن الاستغناء عنهم. ولهذا، لا بدّ من تعزيز الثقة بالنفس في هذه القضايا، وأيضًا رفع الصوت في الأوساط الدولية بلغة مفهومة، وهي لغة المواطنة والديمقراطية. هذه اللغة يُمكن أن تصل إلى العالم، وتُفهم، وتُحترم.

وأنا أعتقد أن هناك آذانًا صاغية في العالم، خاصةً أنه، كما قلتَ، بدأ يتكوّن وعي جديد، رغم صعود الشعبوية واليمين. هناك جيل جديد يُكوّن وعيه على أساس قضايا إنسانية، قضايا عادلة، مثل العدالة الاجتماعية، العدالة المناخية، العدالة تجاه الشعوب المستعمَرة. وقضية فلسطين تندرج تمامًا في هذا السياق. لذلك، يجب استثمار هذا التحول، ولا يجوز أن نيأس أو نحبط إذا وجدنا أن اللوبي الصهيوني قوي — نعم، هو قوي — لكن لا يعني أن نيأس، لأن هناك جيلًا جديدًا في العالم يمكن مخاطبته، ويمكن التأثير به، ويمكن أيضًا تجنيده. وهذا ما يحدث فعلًا في الجامعات، في النقابات، في الحركات الشبابية، وفي مجتمعات مدنية كثيرة حول العالم.

الخطاب الموجّه إلى هذا الجمهور يجب أن يُفصّل. لا يمكنك أن تخاطب العالم الخارجي بلغة الداخل، ولا بلغة المقاومة كما تُستخدم في الداخل الفلسطيني أو في غزة. أنت بحاجة إلى لغة قانونية، إنسانية، عالمية، تستند إلى مبادئ العدالة، وحقوق الإنسان، ومناهضة الاستعمار. هذا مهم جدًا، ويجب أن يكون متقنًا، ومبنيًا على معرفة عميقة، ومهارة خطابية، وتنظيم جيد، وتناغم في الرسائل. لأن العشوائية في هذا المجال تُضعف التأثير.

في النهاية، أعتقد أن صوت الفلسطينيين في الداخل مهم جدًا، لأنه صوت نابع من تجربة مواطنة داخل دولة الاحتلال. هذا الصوت يُسهم في فضح التمييز البنيوي وازدواجية المعايير، انطلاقًا من موقع معيشة مباشر، وهذا ما يجعل من هذا الصوت أداة كفاح أخلاقي ومعرفي وسياسي في آنٍ واحد.

أودّ أن ننتقل للحديث عن غزة، وتحديدًا بعد أن استأنفت إسرائيل الحرب، هذه المرة بضوء أخضر واضح من الإدارة الأميركية. كيف ترى المشهد هناك الآن؟ وإلى أين تظن أن الأمور تتجه؟

حتى الآن، إذا لم يحصل تحرّك جدّي ومؤثّر على مستوى التأثير العربي على الولايات المتحدة، وربما حتى التركي، فإن الأمور ستبقى على هذا المنوال الخطير. يُفترض أن إعجاب ترامب بأردوغان — وإعجابه عمومًا بالرجال الأقوياء — يُترجم، ولو قليلًا، إلى تأثير سياسي. لكن ما يجري حاليًا يبقى خطيرًا جدًا، لأن إسرائيل مُطلقة اليد، والعالم العربي، كما قلنا، مشلول.

بدأت تظهر مظاهر احتجاج أوسع من السابق، سواء في الدول العربية أو في الغرب، وحتى داخل إسرائيل نفسها مظاهر الاحتجاج أصبحت أكبر من أي وقت مضى، لأن هناك الآن علامة استفهام حقيقية حول مصير المحتجَزين. كما أن الصراع السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه قائم أصلًا، حتى من دون مسألة المحتجزين، فهناك صراع واسع مع نتنياهو على قضايا أخرى. الأمور تشابكت، ولهذا قد يحصل تأثير — ونأمل أن يحصل. نأمل أن تُنجز الوساطة شيئًا، لكن الوساطة العربية وحدها لن تُحقق شيئًا، إذا لم يكن هناك ضغط أميركي على نتنياهو، سواء في زيارته الحالية أو بعد ذلك. الوساطة العربية تراوح فقط بتفاصيل مثل مدة الهدنة وعدد الأسرى الذين سيُفرَج عنهم مقابل عدد الفلسطينيين. مدّة الهدنة، 40 أو 50 يومًا، 5 أسرى أو 10... هذا هو النقاش، لأن نتنياهو يمنع أيّ نقاش آخر يتعلق بوقف الحرب.

ولذلك لا أحد يريد أن يعيد تجربة الهدنة التي لا يجد وعد بعدها بوقف الحرب، وهذا هو امتحان حاليا للولايات المتحدة، وهذا ما يُفترض أن الوسطاء يقولونه للأميركان، أن هذه الأفكار كلها، 5 أسرى و10 أسرى ونصف الأسرى أحياء أو كذا، ومدة الهدنة من دون وقف الحرب، لا يمكن التوصل للتسوية، ونتنياهو يرفض قبول وقف الحرب.

وإذا لم يدخل معيار وقف الحرب في الصفقة، فلن تكون هناك صفقة أصلًا. لأنه لا أحد في غزة، ولا أحد من فصائل المقاومة الفلسطينية، يقبل بهدنة مؤقتة تُستأنف بعدها حرب أفظع من السابقة، مثل الحرب الحالية التي هي أشد وحشية، وأكثر تيئيسًا وإحباطًا للناس، من كل ما سبق. لأن الناس ذاقوا طعم الهدوء لفترة قصيرة، ثم عادت الحرب فجأة وبقوة، فالوضع الآن إحباط ويأس وغضب شامل.

لذلك، لا أحد مستعد لتكرار تجربة هدنة لا يوجد بعدها وعد بوقف الحرب. وهذا امتحان للولايات المتحدة. وهذا ما ينبغي على الوسطاء قوله للأميركيين: كل هذه التفاصيل حول " أسرى، 10 أسرى، نصف الأسرى أحياء أو لا، ومدة الهدنة... كل هذا لا قيمة له من دون بند أساسي واحد: وقف الحرب. ونتنياهو حتى الآن يرفض إدراج هذا البند.

اليوم تمر سنة ونصف على بداية الإبادة في غزة. ما أهداف إسرائيل من وراء العودة إلى القتال، والاستمرار في قصف مخيمات اللاجئين والبنية التحتية والمستشفيات في غزة؟

أعتقد أن الحرب على قطاع غزة، ومنذ وقت طويل — منذ الشهر الأول تقريبًا — فقدت أي صلة بكونها ردّ فعل على عملية 7 أكتوبر. ولذلك، يهمّني في بداية هذه الإجابة أن أؤكّد أن الحرب على غزة تحوّلت إلى عملية قائمة بذاتها، لها ديناميكيّتها الخاصة، التي تطورت مع الزمن، وأصبحت حرب إبادة.

كل المحاولات لربطها بـ 7 أكتوبر فقدت معناها. الواقع أن إسرائيل، بعد فترة، وبعد أن رأت التشجيع الأميركي — بل وإلى حدٍّ كبير، انضمام عدد من الدول الغربية إلى هذا التشجيع، في جوقة موحّدة تقريبًا في بدايتها، قبل أن تبدأ ملامح النقد، أو التسامح، أو الصمت العربي — رأت في ذلك فرصة لتنفيذ مخطّطات كانت جاهزة منذ زمن. هذه المخططات لا تخصّ غزة فقط، بل تشمل أيضًا الضفة الغربية. إسرائيل تستغل هذه الفرصة لتنفيذها، والآن وصلت هذه الخطط إلى حد التفكير الفعلي بالتهجير. ليس مجرد التهديد بالتهجير، بل العمل على تحويله من سيناريو رعب إلى خطة حقيقية، تُنفَّذ بتشجيع أميركي مباشر.

الولايات المتحدة بدأت تتراجع قليلاً، لكن نتنياهو ما زال مصرًّا. وآخر تصريحاته كانت أنه يتجه إلى تنفيذ خطة ترامب، ويسمّي التهجير بهذا الاسم تحديدًا للحصول على شرعية سياسية، لأن ترامب يُعجبه أن يكون الكلام حول خطة ترامب.

وفي الضفة الغربية، نرى أن المخطط هو هدم خصوصية المخيمات الفلسطينية، التي تعتبرها إسرائيل بؤرًا للمقاومة، والعمل الحثيث على شطب الحدود بين المنطقة ج والمنطقة ب، تخطيطًا للضمّ، أوّلًا، البدء بضمّ كتل استيطانية، وربّما ضمّ مساحات أكبر من كتل الاستيطان لاحقًا.

أعتقد أن ما يجري الآن هو تطهير إثني، وهو جزء من حرب الإبادة. هناك ضغط منهجي على السكان، ليس فقط لخلق شرخ بينهم وبين المقاومة أو حماس، بل مع فكرة الصمود والمقاومة. هذا غير وارد، لأنّ الثمن كما ترون لا يستثني لا مستشفيات، ولا صحفيين، ولا أطفال، ولا مدارس... إلخ. الهدف هو خلق أجواء مناسبة للتهجير، الذي سيُسمى لاحقًا بالهجرة.

وهذا هو التخطيط الجاري حاليًا، ويجب التصدي له ووقفه. وقد تحدثت مرارًا عن كيفية التصدي له، ولا يمكن التصدي له من دون موقف عربي يرفض التهجير ويتحدّى هذا المسار، ويطرح خطة شاملة لإعادة إعمار قطاع غزة — من دون أي تهجير طبعًا.

تفاهم الداخل الفلسطيني في هذه المرحلة ضروري جدًا، من أجل الوصول إلى اتفاق — اتفاق على سيناريوهات المخارج. بدأنا نلحظ عودة لوتيرة الاحتجاج، سواء على المستوى العالمي أو حتى على المستوى العربي. وربما كان الدافع — أو الـ trigger — لذلك هو مقتل شباب الدفاع المدني والإسعاف الأولي، استشهادهم بهذه الطريقة، ماذا أقول عنها؟ لا أدري. إنّها بربريّة على أقلّ تقدير من طرف إسرائيل.

شهدنا مظاهرة في المغرب لم نرَ مثلها منذ بداية المظاهرات في عدد من الدول العربية. وعادت الحياة إلى حركة التضامن في الغرب، بعد حالة التخويف التي مارستها إدارة ترامب. لذلك، هناك بوادر لحراك جديد، لكن — بصراحة — لا أزال أعتقد أن كل هذا غير كافٍ. لا بدّ أن يحصل تغيير جوهري في موقف الدول، تجاه ما يجري في غزة، لكي يتوقف هذا الجنون. نعم، ما يجري هو جنون حقيقي، جنون دم، وقع فيه نتنياهو وإدارته.

دكتور، قبل أن ننهي، أنا مضطر أن أسألك عن كل ما يخص ملف "قطر غيت" — التهم الموجَّهة لمساعدين ومستشارين لرئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكأن هناك محاولة لتحسين صورة قطر، رغم وجود تحريض واضح ضدها في الإعلام الإسرائيلي، وتحديدًا من مكتب رئيس الحكومةنفسه. لكن ما لم أفهمه، هو كيف جاء ذِكر اسمك في هذا السياق. أحد الصحفيين الإسرائيليين المحسوبين على اليسار الصهيوني حرّض ضدك، وهو ما أدى إلى قيام أعضاء كنيست من حزب العمل بالتحريض عليك أيضًا.

كيف تفسّر هذا السلوك من الإعلام الإسرائيلي؟ وكيف تفهم هذا النوع من التصرفات، وهذه "العقدة" من عزمي بشارة؟

هذا أمر محيّر، لكن يجب أن نفكر فيه بعقل يقِظ. هم يعيشون بين 300 مليون عربي، ومع ذلك... ماذا يعرفون عن لغتنا؟ تخيّل، لديهم الجرأة أن يتحدثوا عنها بعد كل هذه السنين! يعيشون بيننا منذ أكثر من مائة عام، منذ بداية المشروع الصهيوني، ويكتبون بالعبرية في ما بينهم، وكأنهم قبيلة منغلقة، ولا يعرفون شيئًا عنا. يعني، الوقاحة أحيانًا تجعلك تتساءل: كيف يمكن لهؤلاء أن يعيشوا في هذه المنطقة، محاطين بالعرب، أعداؤهم عرب، والعلاقات مع دول عربية — بما فيها التطبيع — باتت من أولوياتهم، ومع ذلك لا يريدون أن يتعلموا العربية؟! ومن ضمنهم هذا الصحفي، وغير هذا الصحفي. ثم يكتبون عني! ماذا يعرفون عني أصلًا؟ لا علاقة لي لا بالمفاوضات، ولا بالسياسة، ولا بمكاتب العلاقات. أنا بعيد جدًا عن هذه الأمور. أنا مدير مركز أبحاث، وكاتب وباحث. صحيح أن لدي علاقات طيبة مع القيادة في قطر، لكن هذه علاقات طيبة لأنهم يستحقون ذلك، بسبب ما قاموا به فعلًا من أجلنا.

وإذا سألوني في قضايا معينة، أُبدي رأيي كصديق، لا أكثر. لكن أنني مستشار؟ لا، لست مستشارًا. ولو كنت، لقلت ذلك بصراحة، فهذا ليس عيبًا، فكثير من المثقفين في العالم مستشارون.

وبحسب معرفتكم بالحياة الحزبية في إسرائيل، فأنتم تعرفون أن هذا كله ناتج عن الصراعات الحزبية في إسرائيل حيث الهدف يبرر الوسيلة، وأي وسيلة. لا يترددون في استخدام أي شيء في معاركهم السياسية فيما بينهم. ما يجري الآن يدخل ضمن إطار الصراع الحزبي الإسرائيلي ضد نتنياهو، لكن أسبابه ودوافعه مختلفة تمامًا عن الأسباب والدوافع التي تجعلني — أو من هم مثلي — نعارض نتنياهو. نحن نعارضه بسبب سياساته تجاه الفلسطينيين، وتجاه الديمقراطية، والدستور، وحقوق المواطن، لكن بالأساس بسبب سياساته تجاه المناطق المحتلة وغزة. أما غالبية أولئك الذين يصارعونه اليوم، فقد كانوا مع حرب الإبادة، ووقفوا معه، ولم يختلفوا معه سوى في قضية الأسرى — بل وللدقة، في قضية عائلات الأسرى، لا الأسرى أنفسهم.

أما ما يتعلّق بموضوع الزجّ باسم قطر، فبالطبع، قطر دولة ضالعة في وساطات دولية متشعبة، ولها دور معترف به عالميًا في الوساطات، وهي تتعرض من وقت لآخر لتحريض من أطراف متضرّرة من دورها. طبعًا، قطر تعرّضت للتحريض في حالة الوساطة هذه، من نتنياهو ومكتبه ومستشاريه، وكلّ من حوله يحاولون لوم قطر على ما يجري لأنّها تقوم بدور وسيط فاعل ضاغط من أجل وقف الحرب، ومحاولة الضغط على قطار لتضغط على حماس، وكأنّ حماس لعبة بيدها. حماس ليست لعبة بيد قطر. لقد حاولوا خلق وهم من هذا النوع، وكأن الضغط على قطر سيدفعها للضغط على حماس، وهذا لا يعكس الواقع إطلاقًا.

قطر، في حالتها هذه، من الطبيعي أن تستأجر مكاتب علاقات عامة تعمل على الدفاع عن صورتها في وجه التشويه والتحريض الذي تتعرض له. الآن، هل هذه المكاتب نجحت فعلًا في التعاقد أو الوصول إلى أشخاص على صلة بمكتب نتنياهو، أو ما شابه؟ لا أدري. قد يكون ذلك صحيحًا، وقد لا يكون، لكن بصراحة، ليست لديّ أي فكرة عن الموضوع. وإذا كان صحيحًا، فربما ستعتبر قطر، أو سيعتبرها البعض في العالم العربي أو غيره، قد حققت نجاحًا — أن تصل إلى هذا المستوى من التركيب والقدرة على التنظيم والتأثير. لكن في الحقيقة، هذا من اختصاص مكاتب العلاقات العامة المستأجَرة، سواء من الولايات المتحدة أو من أماكن أخرى، وهكذا تعمل هذه المكاتب عادة.

إعطاء هذا الوضع حجمًا أكبر من حجمه، وتصويره كأنه أمر مُصمَّم أو مُخطط له مسبقًا، أو محاولة استغلاله لزرع بذور الخلاف بين قطر ومصر في مسار الوساطة — قد رُفض بالفعل واستُنكِر. من الواضح أن هذه لعبة مكشوفة، لعبة إسرائيلية مفضوحة، ومن المعيب المتاجرة بها أو التعامل معها. لا أساس لهذا الأمر على الإطلاق. والمؤسف أن الإعلام الإسرائيلي، الذي يشارك في التحريض — سواء مَن سميته أنت بـ"اليسار الصهيوني" (وأنا لا أعتقد أن هناك ما يُسمى يسارًا صهيونيًا بعد الآن، لأنه اندثر منذ زمن) — هذا الإعلام مشترك في التحريض على العرب، ومشترك أيضًا في حرب الإبادة، بل يحمل في خطابه لؤمًا وحقدًا واضحَين.

التحريض الذي صدر عنهم كان محمّلًا بهذا اللؤم والحقد، ثم تجد لاحقًا عربًا يصدّقون هؤلاء حين يتحدثون عن عرب آخرين. يا عيب الشوم. هذه عقدة نقص.

الإعلام الإسرائيلي قد يبدو أكثر مصداقيّة من الإعلام العربي في تناول القضايا الإسرائيلية الداخلية، لكن في ما يخص قضايانا نحن — عزمي بشارة، فلسطين، المواطنين العرب — هل من الممكن أصلًا أن يكون إعلامًا مهنيًا؟ أليس من العيب أن يُكرّر البعض هذا الكلام التحريضي الكاذب، حتى كلمة كاذب أقلّ ممّا يستحقّ.

تعرف أنني منذ 17 سنة لم أتابع الإعلام الإسرائيلي. بعد خروجي من البلاد، أصبحت لديّ حساسية شديدة تجاهه، بسبب ما تعرّضت له من تحريض وكذب. لكن، مع بداية حرب الإبادة، حاولت أن أتابع — جلست هنا، في مكتبي، وفتحت الكمبيوتر، وشاهدت بعض القنوات الإسرائيلية عبر الإنترنت. لم أفعل ذلك منذ 2007. وصُدمت. صُدمت فعلاً. قلت لنفسي: معقول أنني كنت أشاهد هؤلاء الناس؟ أنني كنت أسمعهم وأعيش هناك بينهم؟ أنا طبعًا كنت أعرف الإعلام الإسرائيلي، وأعرف حجم التحريض فيه، لكن ما رأيته في الأيام والأسابيع الأولى بعد 7 أكتوبر فاق كل ما كنت أتوقعه. كيف كانت الاستوديوهات وهذه الشخصيّات تتحدّث كأنّها في غرف حرب، وكيف تدعو للقتل والتحريض والإبادة بلا مواربة.

إما أنني تغيّرت كثيرًا، أو أن تغييرًا جوهريًا قد حصل عندهم. وأعتقد أن الأمرين معًا قد حدثا. لقد حدث تغيير جوهريّ. تمكّنت من المتابعة ثلاثة أيام، أربعة أيام... ثم لم أعد قادرًا على تحمّل ذلك. لم أعد أحتمل متابعة هؤلاء الناس — ومنهم ذلك الصحفي الذي ذكرته.

شيء مثير للاشمئزاز، لا أكثر ولا أقل.

لا بد أن أسألك عن كل ما يخص الانتخابات الأخيرة، وتحديدًا ما يُوجَّه من تهم من قِبل المعارضة الإسرائيلية ضد التجمّع الوطني الديمقراطي، حيث يُحمّلونه مسؤولية فوز نتنياهو في الانتخابات الأخيرة؟

طبعًا هذا كلام لا يُصدّقه أحد، لا في المجتمع العربي، ولا حتى في أوساط غالبية الإسرائيليين. أعتقد أن هذا الاتهام لا ينطلي عليهم.

أولًا، هناك قضايا مبدئية يجب أن نتحدث عنها في هذا السياق، لأن هذا النوع من النقاش، وهذا الشكل من السجال، هدفه دائمًا حرف الانتباه، وصرف النظر عن القضايا الأساسية، وتحويل الاهتمام بعيدًا عن القضايا الرئيسيّة. يعني، كل دولة إسرائيل ومؤسساتها ورأيها العام وأحزابها وإلى آخره، في النهاية، يعني التجمع في النهاية هو الذي صنع الفرق هذ (فوز نتنياهو)ا؟!

طبعًا، أولًا من حيث الحقائق، هذا الكلام غير صحيح، والجميع يعرف أن التجمّع كان جزءًا من اتفاق لتشكيل قائمة مشتركة، وكان هذا موقفه الثابت. وعلى فكرة، هذا لم يكن موقفًا تكتيكيًا، بل كان دائمًا موقفًا مبدئيًا في ما يتعلّق بمسألة الوحدة، مع الاستعداد، طبعًا، لخوض الانتخابات. لكن في هذه الحالة، لم يكن التجمّع حتى مستعدًا لدخول الانتخابات بشكل منفصل، لأنه كان هناك اتفاق وحدة، وفي اللحظة الأخيرة، أُقصي التجمّع من القائمة لأسباب سياسية واضحة. بل هناك تواطؤ واضح من بعض الجهات التي تتّهم التجمّع اليوم، سواء من القوى الإسرائيلية أو من أطراف عربية. يعني، يقال الآن إن التجمّع خاض الانتخابات منفردًا فقط لإنجاح نتنياهو! كأن التجمّع دخل الانتخابات لا لينجح! وكأنّه يريد أن ينتحر!

هذا طبعًا كلام سخيف وفارغ. يجب أولًا أن نؤكد أن من أنجح نتنياهو هو من صوّت له، ومن أفشل التجمّع هو من جلس في البيت ولم يذهب للتصويت له. ولو صوت عشرون ألفًا أو خمسة عشر ألف ناخب إضافي فقط — لا أذكر الرقم الدقيق — لكان التجمّع نجح في الانتخابات، فعدد الأصوات الذي حصل عليه كان ممتازًا جدًا، وكان قريبًا من نسبة الحسم. وفي ذلك الوقت، وبهذا المعنى، الجميع — في الرأي العام الإسرائيلي والعربي — رأوا أن ما حققه التجمّع في ثلاثة أسابيع فقط كان إنجازًا كبيرًا، وأنا أعتقد، بهذا المعنى، أن التجمّع اليوم قوة كبيرة وجاهزة لخوض الانتخابات في أي وقت.

لماذا لا يتهم أحد ميرتس؟ هي أيضًا سقطت في الانتخابات، فلماذا لا يتهمها أحد بأنها ساهمت في إنجاح نتنياهو؟! هل قطر هي من وجّهت ميرتس لإنجاح نتنياهو؟!

هذا تسخيف كامل للموضوع، محاولة ربط هذه السلوكيات بعلاقة مع الخارج، وكأن كل ما يحدث مرتبط بتوجيهات خارجية. مع أنني، بصراحة، لا أعتبر نفسي "خارجًا" أصلًا — في النهاية، كما تعرف، لي مساهمة ما في تأسيس التجمّع وقيادته. لكن، ومنذ أن خرجت من البلاد، كان قراري — وأشركت فيه الآخرين — أن لا تكون لي أي علاقة تنظيمية من أي نوع مع التجمّع الوطني الديمقراطي. عرب الداخل ليسوا مستعدين لنموذج قيادات منفى وقيادات داخل. البنية القانونية ليست هكذا، والعمل أصلًا ليس سريًّا، بل قانوني حزبيّ ضمن إطار القانون.

ولذلك، لم يكن التجمّع بحاجة إلى قيادات خارج. وبالمناسبة، حتى لو لم أُغادر البلاد، فالجميع كان يعرف أنني كنت أنوي ترك العمل البرلماني، وهذه كانت نية معلنة ومعروفة لقيادة التجمّع. قرار التجمّع بخوض الانتخابات منفردًا، إذًا، كان قرارًا مستقلًا بالكامل، واتُّخذ تحت الضغط، ودُفع إليه، لكنه اتُّخذ بمسؤولية. وأعتقد، بأثر رجعي (retroactively)، أنه كان قرارًا صحيحًا، وأثبت نفسه. ولو لم يُتخذ، ربما كان التجمّع قد زال عن الوجود.

ومن صوّت لنتنياهو هو المسؤول عن فوزه، وليس التجمّع. ومن تقاعس عن التصويت للتجمّع، أو من حرّض ضده قائلًا إن التصويت للتجمع "حرق أصوات"، هو الذي ساهم في إفشاله. وبدلًا من التحريض على التجمّع في تلك المرحلة، كان يجب تفهّم قراره بخوض الانتخابات منفردًا، وعدم محاولة إفشاله. ولو أُتيحت له فرصة أكثر من ثلاثة أسابيع ولو لم يُفاجأ في اللحظة الأخيرة بعدم وجود قائمة مشتركة، لكان قد نجح.

ولذلك، التجمّع معني بإسقاط نتنياهو، هذا ما أعتقده. وأعتقد أنه في أي ائتلاف قادم، وفي أي مناسبة مقبلة داخل البرلمان الإسرائيلي، إذا تَسنّى للتجمّع أن ينجح ويدخل الكنيست، فمن المؤكّد أنه سيعمل على إسقاط نتنياهو. هذا، بكل بساطة.