31/10/2010 - 11:02

تداعيات ما بعد النكبة.. قلنا نكتب عن هوشة وكأننا نكتب عن الكساير

هوشة والكساير.. الأولى على تلة في الجانب الأيمن من الشارع والثانية على مرتفع لم يبق منها شيئا حتى شجرة الصبار وأطلال الحائط الحالم بعودة أهله..

تداعيات ما بعد النكبة.. قلنا نكتب عن هوشة وكأننا نكتب عن الكساير

(تصوير: مقبولة نصار)

تقطع الشارع الطويل العريض.. تنظر إلى اليمين ثم إلى اليسار.. تتراءى لك شجرة صبار تحتضن كومة من الحجارة أو تتكئ على حائط.. تجزم أن على هذه البقعة/ الخراب كانت في يوم من الأيام قرية عامرة تبتسم لحقول القمح وكروم التفاح والعنب.

هوشة والكساير.. الأولى على تلة في الجانب الأيمن من الشارع والثانية على مرتفع لم يبق منها شيئا حتى شجرة الصبار وأطلال الحائط الحالم بعودة أهله..

قلنا نكتب عن هوشة، وكأننا نكتب عن الكساير. موقع واحد، شعب واحد ومصير واحد. وبدأنا نبحث في شفاعمرو، في سخنين، في البعنة، ولو كانت مهمتنا البحث عن أحياء لوصلنا إلى بيروت والشام والبحرين، ولكننا لم نبحث إلا عن شيخ مشقق الوجه، يعرف تاريخ هذه القرية منذ وصل رجال عبد القادر الجزائري إلى فلسطين وكل منهم يحمل ستة فرانكات فرنسية وجروحا كانت تنزف بعد معركة قاسية على الأرض التي قدمت فيما بعد مليون شهيد.

"المغاربة أبطال.. أولاد/ أحفاد عبد القادر" قال الشيخ وعلمنا منه أن المغاربة وصلوا إلى هذه المنطقة واستوطنوا في ثلاث عشرة قرية، سبع منها في حوران. رفضوا أن يكونوا لاجئين في بلاد الشام فقرروا العودة إلى الجزائر وفي ساحات حيفا نصبوا بيوت الشعر في انتظار باخرة تنقلهم إلى المواقع القديمة..

ظلوا ينتظرون وهم يبيتون على سفر.. وقد حملت بواخر "قادمين طلائعيين" وأنزلتهم في الميناء ليحتلوا مرتفعات الكرمل وينظروا من شرفات "الهدار" إلى بيوت الشعر التي يهزهزها الريح.. كأنها شيء عابر.. كأنها تنتظر أن تهب عاصفة وتقتلع أوتادها.. وترمي بهم في البحر.. البحر الصاخب.

التقينا الشيخ المشقق الوجه الذي نتحدث عنه.. تحت شجرة زيتون وارفة الظلال.. تجاوز الثمانين حولا.. وإلى جانبه جلس حفيده موسى..

سيدك يا موسى وحسين ابن ناصر كانوا أولاد شباب في زهرة عمرهم.. راحوا في حيفا يدّوروا على شغل. يومها مصطفى باشا الخليل كان يعمّر في داره. اجوا على المعلم. سألوه: عندك شغل ؟ قال: عندي. كانوا جدعان مستهمين في الشغل. شافهم مصطفى باشا. سألهم: من فين الأولاد؟ قالوا: من الجزائرية في حارة البيض. سألهم: من فين جيتوا. في عندكم ختيارية. ابعث لي اثنين. رجعوا الأولاد وخبروا. الصبح تصبحوا بخير ، راحوا ختيارية اثنين إلى بيت مصطفى باشا. استقبلهم ورحب فيهم وسألهم عن قصتهم فحكوا له كل الموضوع "من طقطق للسلام عليكم.." قالوا له يومها: خلصت المصاري وبدنا نرجع لوطنا.. فصاح: "يا عربجي حط على الخيل.." ركبوا معه وأخذهم للمتصرف وقال له: هؤلاء مهاجرين من الجزائر وبدهم مصاري.. بدهم يعيشوا.. أعطوهم أرض.. فتحدث المتصرف مع الوالي في بيروت والوالي تحدث مع عبد الحميد في إسطنبول وقال: أعطوهم من أراضي الميري.

ونصحهم مصطفى باشا يطلبوا خربة هوشة.. لأنها واقعه بين المدن الرئيسية، والناصرة، وحيفا، وعكا، وشفاعمرو..

توقف الشيخ هنيهة عن الحديث.. تلفت حوله كأنه يبحث عن خربة هوشة التي كانت قرية عامرة أحياها "المغاربه" وكانت ملجأ لكل أهل المنطقة..

"كل واحد هارب من بلده كان يلفي عندنا.. علشان هيك قسم كبير من أهالي البلد حملوا أسماء بلادهم. كان عندنا العبلاني - من عبلين. والطمراوي - من طمره. والقباطي - من قباطيا. كل واحد كان يحمل اسم بلد..

سبحان الله، كأنه مكتوب على أهل هالبلاد يحملوا اسم بلدهم.. حتى تقوم الساعة.. اليوم بتسمع عن الصفدي وعن الصفوري وعن الكسايري وعن المعلولي.. الناس عايشة وبلادهم فش الها أثر إلا على لسانهم.. حزينة هالبلاد يا عمي.. ما شافت ولا شفنا يوم سعادة.. أيام عبد الحميد كنا نفلح الأرض ونخزن القمح عالسدة.. أيام الإنجليز سخرونا في "كمبات" الجيش.. وبعد الشغل نفلح أرضنا.. على دور إسرائيل لا بقينا ولا بقي أرض.. و"كمبات" الجيش بنوها على قبورنا.. حزينة هالبلاد يا عمي حزينة..

يتذكر الشيخ تلك الأيام البعيدة/ القريبة. يشير بإصبعه إلى طفل صغير جلس يصغي لحديث جده عن أيام زمان. يقول له:
روح جيب المفكرة من الديماية!
والديماية بلغتنا هي القمباز، ويعود الطفل وهو يحمل بطاقة صغيرة..

"هاي جنسية فرنساوية.. أخذناها لما دخل الإنجليز علشان يعاملونا كرعايا أجانب وتحمينا فرنسا، كان كل شغلهم التمهيد لليهود: قاسوا الأرض بالشبر وأعطوهم أياها.. كنا مسلحين وندافع عن أرضنا.. ولكن بدهمش حد يرفع رأسه.. كانوا يطوقوا البلد.. ولما نحس في الطوق كنا نقول: "شوالك والخروبية"..

هاي كانت كلمة السر بين المسلحين.. كان كل واحد يحمل شوال ويهرب لمنطقة الخروبية ويتخبا يوم.. يومين ثلاثه بينما ينحل الطوق.. كانوا يخرجوا الناس على البيادر ويركعوهم في الشمس من الصبح للمسا.. ويفتشوا بيوتنا.. ويضربونا ويعذبونا علشان نقر عن المسلحين ونسلمهم سلاحنا.. يوم من الأيام انطخ أنبوب النفط.. كان عندي بدوي نايم.. قلت له قوم تفرج السهل مولع، قال: يا نبي! عملها أبو عفان.

وأبو عفان كان يملك بارودة "عصملية" فش بارودة تقدح الماسورة غيرها. تاني يوم وصل الضابط فريد ومعه جيش وكلاب أثر. دارنا كانت مفتوحة والكلب مشوّب. قيّل الكلب باب الدار. قال الضابط: الثوار ميلوا على هالدار. أنا ما كنت في الدار. طوقوا البلد. ثاني يوم جيت. صادفوني جاي فسألوني: شوا اسمك؟ قلت: فلان. أتاريهم دايرين على اسمي. بعد ما كبشوني هربت منهم. تاني ليلة. ثالث ليلة سهرنا في بيت واحد صديق. راحت علينا نومة. فإجوا علينا وكبشوني وكتفوني برشمة الحمارة. وحطوني في السيارة إلى "بيت غاليم" في حيفا. بعدين نقلوني إلى مسحة وهناك بقيت ستة أشهر. كنا 16 واحد في مسحة: أبو موسى ورشيد وقاسم وأبو عيطة والشيخ أحمد صديق وكثار غيرهم. والله ظلموني، والله ما هو صحيح، راح اللي راح.. انحبسنا ستة أشهر على شوبة كلب..

الإنجليز طوقوا البلد. ليبحثوا عن الثوار.. في واحد ثائر فات في المغارة. حماد الشيخ وإبراهيم ابن سلام وعلي المحمد ويوسف الناطور كانوا يطحنوا في البابور.. لقاهم الجيش على الطريق قالوا لهم: ادخلوا طلعوا "البانديت". تقدم حماد الشيخ ووقف عند باب المغارة وخلفه رفاقه الثلاثة وصف الجنود على بعد خمسة أمتار مصوبين رشاشاتهم نحوهم. انحنى حماد في مدخل المغارة وصاح: يا الله. علشان يعرف الثائر أنه عربي فلا يطلق عليه الرصاص. ولكن الجنود أدركوا هذه الحيلة وأطلقوا عليهم الرصاص فسقطوا على الأرض ثم ألقوا بجثثهم في المغارة.

الله شيء يشيب الأطفال.. أحمد الصديق حبسوه في عتليت.. في مسألة الثورة.. يوسف الأنواني من الفرج التحق مع الشيخ عز الدين القسام وقتل معه في يعبد.. كان لنا جار من "الكمبانية" اسمه أبراهام غيفر، كان يشتغل في الحرس.. بعث لنا: لا تطخوا علينا ولا نطخ عليكم".

يضحك الشيخ فتظهر في شقوق وجهه آلام تلك الفتره.. كأن في محجره مغارة كتلك التي اختبأ فيها الثائر.. كأن في خديه ارتسم ذلك الوادي العميق الذي يفصل بين هوشة والكساير..

رهنا أراضي واشترينا سلاحا.. اشتريت بارودة ما تنفع.. خربانة.. بعثتها مرتين. ثلاث، للتصليح.. حياة أبوي راح الشام وجاب بارودة.. كان هو والوحش وقاسم أبو عيطة وأكم من واحد معهم بواريد نافعة. لما ولعت مع اليهود، صار طخ على "الكمبانية".. ما عرفنا مين ولا منين جاي الطخ.. تجمعوا أهاليها وهجموا في الليل، رحلنا من البلد وحطينا عند عين الزيات.. تالي الليل حياة حسن الخضر قال: بدنا نرجع عالبلد. ركب حماره وراح. كانت الدنيا الظهر سمعنا أكم طلق بارود. انقتل حسن وفارس الحمدان. الصبح ما حسينا إلا جنودهم منا وفوق. قمنا وهجمنا. وصار الفزيع. فزعوا من كل القرى حتى حدود لبنان. انقتل 20 من أهالي المنطقة بينهم أبو رزمك من يركا وسليمان أبو رعد وفضل لويس وجميل الصادق ويوسف شعبان وأحمد اليوسف، هذا كان زلمة مسكين كان معه فرد. هجينا لشفاعمرو ما حسينا إلا اللغومة صارت تفقع في البيوت.. ومن يومها.. في ناس عظامهم بعدها في الرجمة..

سمعت عن واقعة هوشة والكساير؟

بعد واقعة الهوشة والكساير.. بعد أن مسحت ألغامهم كل البيوت.. وأصبحت الشويكة ومراح رقاق ومرج الذهب وطيحة الفرس ووادي هوشة، أصبحت خرابات تندب فيها أشجار التين والرمان هذا الحظ التعيس.. بعدها وصل الشيخ المشقق الوجه مع عائلته وعدد من أهالي البلد إلى وادي سلامة..

الصبح قمت ريقي ناشف. نزلت عالوادي وشربت. قلت: يا جماعه وين رايحين؟

قالوا: على سورية ولبنان.

قلت: إذا كان هون في فلسطين شحدنا. شو بدنا نعمل في لبنان. سألتهم معكم مصاري؟ قالوا: لأ! معكم طحين؟ قالوا: لأ. قلت: والله ما أنا رايح! رجعت مع الفرس. نشف ريقي وأنا أقنع العيلة لترجع مع أولادها. قالت: لو فضيل هون نرجع (وفضيل الابن البكر كان قد هرب إلى لبنان). قلت لها: ترجعي ولا بخاطرك. ونهرت الفرس ومشيت وأنا أتلفت وراي. يمكن تشوفني رايح وتلحقني. لكن ما لحقت. وصلت دار أبو حمادة، لاقوني عسكر يغئال ألون. ساقوني على السرايا في شفاعمرو ربطت الفرس في درج السرايا. بعدين أخذوني إلى عتليت. بقيت هناك سنة وشهرين. بعدها أطلقوا سبيلي. في لبنان قال ابني فضيل لأمه: بدي أشوف الختيار. تسلل بدون هوية ولا شيء. سألني: شو رأيك؟ قلت: شوف أمك وارجعوا. فسدوا عليه أولاد الحرام فأجوا في الليل، أخذوه وكبوه على جنين. مرة ثانية جاب نقلة مهرب وأجا مع أمه وإخوانه. ميّل الأواعي على نحف ووصلوا لشفاعمرو. يومها أخذنا كلنا هويات إلا هو رفضوا يعطوه "قال مغضوب عليه" وكبوه مرة ثانية على حدود لبنان ومن يومها ما شفته وما سمعت عنه شيء. بعثوا لي: أرضك مصادرة. نزلت قابلت موظف اسمه دافيد باو: سألني وين أنت ساكن؟ قلت في شفاعمرو. قال: اللي غادر بيته مسافة أربعين مترا صار لاجئ. أرضك مصادرة. بدك تمشي حسب القانون: تفضل. بدكش سكتر من هون. تركت مكتبه ودموعي على خدي. على الباب التقيت بمحام من "زلام" الحكومة. قلت له الحكاية. قال لي ابن الكلب: خذ المتيسر وأترك المتعسر.

أرضي 180 دونما أعطوني 30 دونما. هاي الأرض ملكي، عرق جبيني. بنيت خشة في الأرض. كل الوقت حاولوا يهدموها، لكني قلت لهم: هاي الخشة بتكون قبري وقبر الختيارة. فرضوا علي إقامة إجبارية. الختيارة توفت الله يرحمها وأنا بعدني هون.

في الطرف الجنوبي من القرية خرابة صغيرة هي "مزار النبي هوشان"، والنبي هوشان كان سندا لأهالي القرية فينزل عليهم المطر عندما يطلبون النجدة في موسم يتأخر فيه الوسم. فيتجمع شبان القرية، ويختارون من بينهم "القرندس"، شاب يلبس ثياب مهرج، ويقف في المقدمة ويتبعه الأهالي وهم ينشدون:

يا أم الغيث غيثينا دلي الكوز عالجرة

زرعنا شكارة في الدبة ما طلع ولا حبة

يالله الشتا يا ربي رغيف معشش في عبي

ويصلون إلى بيت، يقفون عند المدخل وهم ينشدون حتى يفتح لهم الباب، فيدخل "القرندس" وحوله مرافقوه.

يقول له أحدهم:

كيف تعجن العجوز!

فيركع على الأرض، ويشمر عن ساعديه. ويحني ظهره ويقبض قبضته ويتمتم كالعجوز ويتحرك بشكل يثير الضحك.. ولما يضحك أهل البيت تتساقط عليه القروش. فيقولون له:

كيف تضحك الصبية؟

فيعدل قعدته. مادا رجليه إلى الأمام. ويغطي قدميه بفستانه حتى لا ينكشف شيئا من حرمة الصبية الجميلة.

وتتحرك أنامله كأنه منشغل في حياكة جارزة لخطيبها.. ثم يذبل عينيه ويبتسم ويحشر رأسه بين منكبيه كأن الصبية يباغتها الخجل حين تذبل عيناها وتلمع أسنانها الناصعة وتخشى أن تتحدى الغمازه التي تتوسط خدها قلوب الشباب.. فينفرج الجالسون ضاحكين.. وينتصب "القرندس" ليجمع ما تساقط عليه من قروش وإذا كانت صبية جميلة تجلس في زاوية من زوايا البيت تصوب الأنظار نحوها.. كأنهم يلاطفونها.. كأنهم يطلبون منها ما يطلبون من النبي هوشان.. وتنطلق الأنشودة:

يا أم الغيثان غيثينا دلي الكوز عالجرة..

وينتقلون من بيت إلى بيت.. حتى يأتوا على آخر خشة من خشش الفقراء.. فيأخذون ما جمعوا من أموال ويلقون بها على قبر النبي طالبين أن ينزل عليهم المطر، ويمضون ليلتهم الخريفية على أمل.. ويقسم الشيخ أن النبي هوشان لم يخيب آمالهم ولا مرة.. إلا في المرة الأخيرة عندما طلبوا منه النجدة لينصرهم على جنود "الكمبانية" فلم يحرك ساكنا.

خفى الله يا ربي.. هذا النبي هو هوشع بن نون.. وإلا كيف نصر الستة على الستين..؟

التعليقات