النهضة المعاقة (1): المثقّف

تحتاج الثّقافة إلى نفي جديد، فالمثّقف ليس بالضرورة من يجيد الكلام على نسق السؤال الذي يُطرح بالعامية بعد الندوات التي تبدأ عناوينها بـِ " أزمة الـ..." وتنتهي بـِ " إلى أين": " مين حكي أحسن"، أو "حكيت منيح؟"، وغير ذلك

النهضة المعاقة (1): المثقّف

**كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.


المثقّف

غالبًا ما كان مدرّس اللغة العربيّة يُلقي على تلامذته في السنوات المتعاقبة مهمة التمييز بين المتعلّم والمثقّف في درس الإنشاء. ولمن لا يذكر الصّلة بين الاسم والمسمّى، فإن المقصود من "الإنشاء" هو إنشاء النص. الأمر الذي لا يعني بالضرورة في الثّقافة المقعّرة إنشاء الفكرة أو الموضوع بقدر ما يعني إنشاء البلاغة. وما دام المطلوب إنشاء الفرق بين المتعلّم والمثقّف يتحول الفرق بين نصٍّ وآخر إلى تفاوت في درجات البلاغة في تعداد الفوارق بين المتعلّم والمثقّف المؤكدة في العنوان. وفي نفوسنا مكنون ومكنوز أن الفرضية هي ما يجب الدفاع عنه في النص، وليس ما يلزم إثباته. ولذلك اندفعنا ودُفِعنا صبية للتأكيد على أن المتعلّم ليس بالضّرورة هو المثقّف، دون أن نكترث كثيرًا بالفضاء الواسع الذي يتركه هذا النفي فارغًا من أي مضمون محدد، فقد يعني هذا النفي أن المثقّف غالبًا ما يكون غير متعلّم وأنه ليس بالضرورة أن يتقن علمًا بعينه أو يختص بنسق معرفي معين، وكل ما يُطلب منه أن يتقن صفَّ الكلام على نمط ما كان علينا أن نُتقنه في الإنشاء. وها نحن نعود أدراجنا إلى البلاغة، في صفِّ الكلام بدلًا من البلاغة العبقريّة في التناسق بين اللفظ والمعنى، من حيث ندري أو لا ندري، وغالبًا ما لا ندري. قاتل الله صنوف البلاغة المقعّرة وألوانها، وحمى اللغة الثّقافة من الإنشاء البلاغي الخالي. ولا شك أن في البلاغة العربيّة الأصيلة عبقريّة جماليّة لا تتوفر في صفِّ الكلام المقصود الذي تحسب صاحبه ينطق جُملًا جاهزة وليس كلمات.

والمقصود هنا الثّقافة بالمعنى الضّيّق للكلمة، أي الإنتاج المعرفي وسياقاته، وليس بمعنى الأنماط المعرفيّة والسلوكيّة السّائدة الواسعة. ويشمل هذا الأخير دلالات من نوع ثقافة المأكل والملبس والثّقافة السياسيّة السائدة التي تحتويها كلمة الثقافة بمعنى الحضارة Culture، أو فلنقل إن المثقّف، بهذا المعنى الضّيّق الذي نقصده، ليس هو كل خاضع لثقافة سائدة سياسيّة أو دينيّة، بل هو المتعامل بشكل فاعل مع الثّقافة السّائدة هضمًا معرفيًا وإنتاجًا ونقدًا.

تحتاج الثّقافة إلى نفي جديد، فالمثّقف ليس بالضرورة من يجيد الكلام على نسق السؤال الذي يُطرح بالعامية بعد الندوات التي تبدأ عناوينها بـ"أزمة الـ..." وتنتهي بـ"إلى أين": "مين حكي أحسن"، أو "حكيت منيح؟"، وغير ذلك مما يقال تعليقًا على الكلام كإنشاء، ويساهم بذلك في مراوحة الكلام في خانة الكلام المتوسعة إلى حيّزٍ كاملٍ قائم بذاته منفصل عمّا يبرر النطق به: الفكر من ناحية والعمل (أو فلنقل الواقع تواضعًا) من ناحية أخرى. وعندما ينفك الكلام من إسار الفكر والواقع يصبح لغوًا.

نعود إلى الفرق الشائع بين المتعلّم والمثقّف. فالمهمّة التي تنتظرنا هي دفع المتعلّم إلى أن يكون مثقفًا، لا دفع المثقّف إلى أن يكون غير متعلّم. فمقولة "العلم بالشّيء خير من الجهل به" تنطبق على الثّقافة وتسري داخل الحيّز الثّقافي نفسه أيضًا. وعندما كان العلم هو الفلسفة، وهو الثقافة العامّة، قبل أن تتفرع العلوم عن الفلسفة، وقبل أن تنفصل التخصّصات عن بعضها، لم يكن بالإمكان تناول الفرق بين المتعلّم والمثقّف. لقد انفصلت العلوم عن الفلسفة، بعد انفصال الفلسفة عن الأسطورة في حالات، وبموازاة ذلك الانفصال في حالات أخرى. واحتاج الأمر إلى وقتٍ طويلٍ، بل وإلى عصور بأكملها، لتنقية العلوم تدريجيًا من العقائد وبقايا الأسطورة في الفرضيّة العلميّة، أو في الهدف من البحث العلمي، إن لم يكن في المنهج، لتتحول العلوم إلى اختصاصات وإلى تفرّعات عن هذه الاختصاصات. وبقي المتعلّم في مجاله مثقفًا بشكل عام يتعامل في إنتاجه العلمي مع الثّقافة السائدة بشكل واعٍ عبر نقدها أو عبر تثبيتها وتبريرها بإرساء دعائم علميّة لها، مثلًا. وكان من شأن كل اكتشاف علمي تخصّصي أن يُسهم في دَحر الأسطورة والميثولوجيا من الحيّز الثقافي، الذي يعمل ضمنه المثقّف وينشط ويُنتج، وإقصائها إلى "الثّقافة الشعبيّة". ومع تحوّل الثّقافة الشعبيّة، الريفيّة الطابع في المجتمعات التقليديّة عادة، إلى ثقافة جماهيريّة من خلال الهجرة من الريف إلى المدينة وقيام المجتمع الجماهيري في المدينة Mass Culture، تعززت الأسطورة مرة أخرى في ثقافة المثقّفين ذاتها، وقد تكون عائدة إليها عبر قناة الأيديولوجيا. هذا لا يعني أن الأسطورة لم تُسهم في تشكيل وعي وثقافة النخبة في الحداثة السابقة على الحداثة الجماهيريّة، بل لقد تم تدريس ودراسة الأساطير تاريخًا وأدبًا. لكن صور الأسطورة ومغازيها الأدبيّة والتاريخيّة وتعقّل ثقافة الشعوب من خلالها شيء، وانتشار الغيبيّة في التفكير شيء آخر. الأسطورة كموضوع ثقافي مؤثّر في البنية السيكولوجيّة والمبنى الشعوري الأخلاقي والجمالي للإنسان المثقّف الذي نشأ وترعرع في ظلّها كمعنى وكصورة شيء، والأسطورة كنمط أيديولوجي معرفي شيء آخر.

لا تقلّ البنية الاجتماعيّة أهميّة عن هذه التخصّصات والتمايزات في التأثير على الفكر. كما لا يقلّ التاريخ الاجتمّاعي تشكل الفكر عن تاريخ الفكر ذاته. هذا إذا أصرّ الباحث على اعتماد هذه التقسيمات المفهومة وتثبيتها مقابل بعضها البعض، رغم أنها في الواقع التاريخي متداخلة. لكن التمييز ضروري لغرض البحث. والأمثلة أبسط ممّا نعتقد: فانحدار المتعلّم المتخصّص من أصول نخبويّة اجتماعيًا يسمح بتنشئة ثقافيّة شموليّة (محافظة كانت أم غير محافظة) منذ الطفولة. ولا يبقى هذا السياق، الذي يبدأ من وجود مكتبة غنيّة في البيت أو معرفة الأهل القراءة والكتابة، ناهيك عن إتقان عدّة لغات، من دون أثر إيجابي على تثبيت العلاقة بين التعليم والثّقافة. ومن ناحية أخرى فتعميم التعليم، وصولًا إلى الجامعيّ، ليشمل عامّة الشعب، بما في ذلك أبناء الطبقات الفقيرة الذين يَفدون إلى تخصّصاتهم الجامعية من دون خلفيّات ثقافيّة عامّة، يحدد سياقًا اجتماعيًا وثقافيًا مختلفًا لعلاقة مختلفة بين صاحب الاختصاص العلمي وبين الثّقافة قائمة على فصلٍ قسريٍ، معطى مسبقًا Apriori، بينهما.

وكما أن تعميم حق التصويت والاقتراع دُفعة واحدة يَحمل في طيّاته الاجتماعيّة والثقافيّة إمكانيّة حيازة تيّارات غير ديموقراطيّة ثقة الأغلبيّة، كذلك قد يؤدّي تعميم التعليم إلى إنتشار "ثقافة معادية للثّقافة". لكن في الحالتين لا تقود التجربة التاريخيّة العينيّة، بالضرورة، إلى الاستنكاف عن رؤية تعميم حق الاقتراع كمطلب تاريخي لأي ديموقراطي، أو رؤية تعميم التعليم، مع وعي المخاطر والتعامل معها وإيجاد حلول لها. فهذا هو التحدّي الحقيقي أمام الفكر الديموقراطي في السّياسة والثّقافة.

وقد يؤدّي هذا الفصل غير الاختياري بين التّعليم والثّقافة إلى تنافر معرفي Cognitive Dissonance يتخذ، بدوره، شكل خيار أيديولوجي موهوم يُحوّل التّخصّص والجهل المعرفي الثّقافي خارجه إلى فضيلة، كما يؤدّي إلى احتقار أشكال الإنتاج المعرفي والإبداع غير المتخصّص بالمعنى الضّيّق للكلمة. بل ربما اتّخذ شكل تعايش، نَدر وجوده في الماضي، بين تخصّص علمي وثقافة أصوليّة دينيّة، تدّعي حيازة نظرة كونيّة شاملة وتقديم أنماط لتنظيم المجتمع بأسره. وهذه بحد ذاتها كثيرًا ما تكون انتماءً طائفيًا، بأثر رجعي، لم يختره الإنسان بل ولد ونشأ في كَنفه. وغالبًا ما تصادف مُتعلمًا يدّعي أنّ الثّقافة خارج التّخصّص هي كلام فارغ "لا يسمن ولا يغني من جوع". وبالّلغة الأكثر استهلاكيّة وحداثة: "أين يُصرف شيك الثّقافة هذا؟". والمقصود أن الثّقافة العامّة والمواضيع الثّقافيّة لا رصيد ماديًا لها، وحرفيًا لا تُترجم إلى منفعة ماديّة.

في أوروبا أيضًا هنالك فرق بين ثقافة ابن عائلة ميسورة، ابتدأت ثقافته في القرن التاسع عشر في مدرسة نخبويّة تبدأ بتدريس الفلسفة والأدب والرياضيات والمنطق والّلغات والموسيقى في مراحل التدريس الأولى من ناحية، وبين ثقافة التعليم في المدارس الرسميّة العامّة التي تقوم بمهمة تدريس جماهيري توفر لها وسائل الإعلام الجماهيريّة، عمليًا، "دروس تكملة وإغناء" تسطيحيّة للثّقافة من ناحية أخرى. ويَحسب المتعلّم أنه في هذه الحالة يستغني عن الثقافة. وفي الواقع فإنّ ثقافته تُختزل إلى ما يستقبله من بثِّ وسائل الإعلام الجماهيريّة أو المؤثّرات الثّقافيّة القادمة من مؤسّسات الدولة وردود فعله عليها. ولا بدّ أن تبرز فيما بعد في التعليم الجامعي الفوارق بين الاختصاص العلميّ والثّقافة العامّة. لكن السؤال هو: أية ثقافة عامّة؟  وما هو الموقف منها؟

لكن الاستنتاج القائل إنّ التّعليم ممكن من دون إنتاج مثقّفين بالمعنى الشموليّ والنقديّ، لا يعني، على الإطلاق في عصرنا، أن الثّقافة ممكنة من دون معرفة تشمل معرفة جيدة لموضوع بعينه. وإذا كانت الثّقافة العامّة لم تعد بحد ذاتها تؤسّس للتّخصّص العلميّ، كما في عصور ماضية، فهذا لا يعني أنّ الثّقافة لم تعد مؤثّرة على طبيعة الإنتاج العلميّ. إنّه يعني أن المطلوب أن يؤسّس التّعليم حاليًا لثقافة قائمة على أسسٍ عقلانيّة، ثقافة علميّة معرفيّة ترتقي بالمعرفة العلميّة إلى مستوى الثّقافة، وذلك بالاطّلاع على مجالات الفكر الأخرى، وبالاطّلاع على معطيات الواقع الاجتماعي والتاريخي. الواقع؟  نعم الواقع، فالفكر النّهضوي يستمر بافتراض وجوده رغم "ما بعد الحداثة".

هذه المحاولة لتأسيس "علاقة شخصيّة" بين المعرفة العينيّة ومجالات الفكر والواقع جديرة بأن تُزكّي صاحبها باسم مثقّف. وإذا ما تمّ التفاعل بين المعرفة ومجالات الفكر الإنساني وبين الواقع، بواسطة طبيعة الشخصيّة الإنسانيّة القيميّة، فلا بد أن يُنجب هذا التّفاعل رؤية نقدية لما هو قائم ومهيمن.

الثّقافة بالمعنى الذي يتجلى هنا هي ثقافة نقديّة بالضّرورة. وها نحن نعود إلى خطر اختزال جديد للظاهرة الثقافيّة. فهذا الربط بين المثقّف وبين الناقد أدّى إلى سوء فهم من نوع سوء الفهم الذي فصله عن المعرفة. فلسبب ما ينتشر اعتقاد أن النّقد وحده يُدلل على ثقافة المثقف. "النقد وحده" هو النقد المجرّد من المعرفة.

يكون النقد أرقى تجليّات الثقّافة إذا كان مُؤَسَسًا على معرفة، وعلى ربط بين الفكر والواقع. لكن موضوعة "النّقد المجرّد" لدينا اختلطت مع اعتبار الديموقراطيّة بمجملها حريّة الكلام، بدل اعتبار حريّة التّعبير عن الرأي أو الفكر عنصرًا مكونًا للديموقراطيّة. وحين صار الحوار هو الكلام غير الملزم، وليس جدليّة المواقف في سياقها التاريخي والسياسي والمصلحي، أصبح النّقد هو " أن أخالفك الرأي" ليس إلا. فــ"أنت" إذا وافقت على رأي معين سَقطت عنك صفة الثّقافة. وإذا ما خالفت، بغض النظر عن السبب، أصبحت مثقفًا حرًا. إنّه النّقد غير النّقدي المنتشر لدى أوساط من الذين بدأوا باكتساب نوع من المعرفة، لكنّهم استعجلوا صيغة "المثقّف" بشكل عام فباتت الثّقافة في عرفهم كلامًا غير مُنَسَّق وتوزيعًا جزافيًا للملاحظات التي يخلط فيها التّشهير مع الشّتم مع النّقد، مع أي كلام خارج أي سياق متعلّق بالممارسة والفكر.

وقد ترتقي هذه "الثّقافة النّقدية"، عدميّة الطابع، إلى درجة اكتشاف المؤامرة في أي شيء، أو "اكتشاف" التّناقض الرهيب والمخيف بين الفكر والواقع بشكل عام، أو "اكتشاف" التّناقضات العينيّة بين الثّقافة والسّياسة لدى من يقوم بعملٍ في الفكر والممارسة.

أما فكرة المؤامرة فتشبه قصص الأصول التي كانت ترويها الثّقافات الأسطورية لتفسير "مصدر" أو "مولد" أو "أصل" الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، مستعيضة عن التفسير السببي، أو الطبيعي على الأقل، لظهور الأشياء من الأشياء ذاتها، بقصّة مؤنسنة وقعت بين إلهين، أو ماردين أو شيطانين، أو ملك عصى أمر الله، أو خطأ حصل في اتّباع طقوس العبادة، وأدى إلى غضب إله غيور فحلّت الّلعنة على عبيده، وعلى الملك والممكلة. هكذا فُسّرت الكوارث الطبيعيّة والزلازل. هكذا فُسّرت دورة الفيضان في تلك الثّقافات، وكان من المفترض أن تواجه بطقوس وقائيّة إرضائيّة تُعيد إنتاج الحكاية لتفادي الشر هذه المرة. وهكذا أيضًا فُسّر نشوء الممالك والدول. وما تبقّى من القصّة – المؤامرة في الحاضر، بعد إقصائها عن العلوم الطبيعيّة لتبقى حيّة في العقائد الدينيّة والأساطير، وبعد نشوء العلوم الاجتماعيّة والتاريخ الوضعي ونظريّات التاريخ أيضًا، ما تبقّى هو رواسبها في نظريّة المؤامرة المعمّمة بيسرٍ نسبي على الوعي الشعبي. فهذا الأخير على استعداد دائم لالتقاط التّفسير كأسطورة أصل Myth of Origin، أو قصّة خلق جديدة، بدل التّفسير السّببي المنطلق من الأشياء ذاتها، من الظواهر ذاتها.

ومع أنّ نظريّة المؤامرة تبحث عن سبب للظواهر وتجده في المؤامرة شكلًا، إلّا أنّه لا علاقة لها في الواقع بالتّفسير السّببي للظواهر. فتفسيرها يلبس شكل البحث عن السّبب، لكنّه في العمق يبحث عن معنى الظاهرة.

ليس اكتشاف المؤامرة تفسيرًا أو نقدًا، بل هو عجز عن التفسير وعن النّقد القائم على حقائق. ويستخدم أصدقاء إسرائيل في العالم هذا النوع من التعبير عن الوعي القاصر لتأسيس الادّعاء الخبيث بأنّه تعبير عن "عقليّة عربيّة مؤامراتيّة" وعن "خيال شرقي جامح". هكذا تُجهض سلفًا أيّة ادّعاءات تصدر عن عربي حول وقوع ما يقع في السّياسة من مؤامرة أو تواطؤ حقيقي فعلًا، لضرب عمليّة تشكيل الدّولة الحديثة أو التّيار القومي العربي في حروب 1956 و1967 مثلًا. والحقيقة أن العقليّة التآمريّة سائدة في إسرائيل في تفسير الظواهر بشكل يُذكّر بالمجتمعات المتخلّفة. ولو دخل إنسان البرلمان الإسرائيلي في أي يوم من أيام انعقاده لاستمع إلى نظريّة واحدة على الأقل، في اليوم الواحد، عن مؤامرة للقضاء على إسرائيل، من نوع أن العرب يلدون أطفالهم كمؤامرة ديموغرافيّة، ويتزوجون ويقدمون طلبات لم شمل في نوع من ممارسة خفية لـ"حق العودة الزاحف"، وأنّهم عندما يطرحون مبادرة سلام فإنّما يُنفّذون مؤامرة خطيرة لسحب التأييد الدولي من إسرائيل، أو لإشعار المجتمع الإسرائيلي بزوال حالة الخطر، وقس على هذا المنوال.

لا شك أن المؤامرات تقع في العمل السياسي، لكنها ليست معطى ولا حكاية، بل تحتاج بذاتها إلى تفسير وإلى تدليل، بعيدًا عن خلط الواقع بالخيال وعن زرع التّصوّرات الذاتيّة في عالم الواقع. إذ يجب أن يتم التعامل مع المؤامرة كما يتم التعامل مع الفرضيّة التي تحتاج إلى إثبات وتدعيم بأكثر من تلميحات وإثباتات ظرفيّة، أو مفارقات تصلح لتفسير كل شيء.

إضافة إلى نظريّة المؤامرة، "يكتشف" هذا النوع من النّقد الغاضب، أو الّلغو، دائمًا التناقض بين الفكر والممارسة، فيستشيط غضبًا ثم يزداد إحباطًا بعد زوال نوبة الغضب. وقد تقوده هذه الاكتشافات المثيرة إلى التّقاعس، وإلى تبرير التّقاعس، وإلى التّشكيك إمّا بجدوى الفكر أو جدوى العمل. وهذا يتوقف على الزاوية، أو المصلحة، التي يرى منها التناقض بين الفكر والعمل. لا ينتبه هذا النّقد، الذي يرى بغضب أن التناقض أو الاختلاف من الخطيئة، إلى أن هذا التّناقض في وحدة وصراع الأضّداد بين الفكر والممارسة، بين الثّقافة والسّياسة، بين البرنامج السّياسي والواقع الذي يجب أن يُطبّق فيه، وبين التحليل العقلاني للواقع والممارسة العمليّة التي ترتكز على الإرادة والتّصميم وغيرها، هو بحد ذاته الثّقافة النّهضويّة النّقديّة، وهو محرّكها، مُوتورها، ومصدر ديناميتها. كما لا يرى أن البحث الاستحواذي عن هذا التناقض للتشهير به يُحوّل الثّقافة إلى مجرّد كلام غير ملزم، والنقد إلى مجرد صراخ محبط، بكسر الباء وفتحها، يُعوّق النّهضة الثّقافيّة في الواقع.

النّهضة بحاجة إلى ثقافة ومثقّفين، وتنشأ الثّقافة وينشأ المثقّفون ضمن سياق المعرفة، المعرفة العلميّة ومعرفة الواقع ومعرفة الفكر. الثّقافة غير ممكنة من دون علم. والنّقد غير ممكن من دون العلم بالشيء، ونُضيف أيضًا، من دون العمل به. أي أنّ النّقد يستحيل من دون أخذ بُعد الممارسة بعين الاعتبار بغرض الفعل في الواقع وتغييره. وفي المناطق التي يتلامس فيها الفكر بالفعل والفعل بالواقع تقع تناقضات وتتم حلول وسط تُمكّن من الاستمرار. هو الحفاظ على الاتّجاه وعدم تضييع الهدف.

تدخل الممارسة إلى عالم الفكر السياسي العقلاني منهج الاستقراء. والاستقراء، خلافًا للاستدلال، لا يؤدّي إلى نتائج يقينيّة بل إلى استنتاجات على درجة عالية من الاحتمال في أفضل الحالات. وهنالك حاجة لاستقراء الواقع بمنهجيّة من أجل التشخيص من العيني والجزئي إلى التعميم غير اليقيني. ثم يلتقي التّشخيص مع ما توصّل إليه الاستدلال اليقيني من العام إلى الخاص مقتربًا من الواقع. لكنه لا يصله أبدًا ولا يلامسه مباشرة، بل يبقى في لقاء مع نتائج الاستقراء العامّة وغير اليقينيّة وحدها. وحال من يكتشف القياس المنطقي الأرسطي، بعد ما يقارب ثلاثة آلاف عام، فجأة ويبدأ بالصراخ بأن أحدهم ناقض في الممارسة مقولات عامّة يؤمن بها كحال من يخلط الأرض بالسماء. وهما يختلطان في الأسطورة وحدها. لا شك أن هنالك فرقًا، وليس تناقضًا، بين الفكر والممارسة. ويدور السؤال العقلاني حول درجة الاختلاف، وهل هي لازمة للتّعامل مع الواقع أم غير لازمة؟  والسؤال العقلاني الأكثر أهمية هو: هل الاختلاف الكبير بين الموقف والممارسة نابع من عطبٍ في الموقف ذاته، بحيث لا تُمكّن ممارسته، أم أنّ بالإمكان ممارسته فرديًا من دون أن يكون بالإمكان تعميمه كبرنامج اجتماعي أو سياسي للتغيير في الوقت ذاته؟ والسؤال القيميّ الأهم هو حول طبيعة الاختلاف بين الفكر والممارسة، المكتشف وكأنّه مستمسك ودليل على الجرم المشهود ضد المفكّر والممارس: هل تؤدّي هذه الممارسة إلى تطبيق هذه المبادئ أم لا تؤدي؟  وسؤال قيميّ آخر: هل الفرق نابع من تدخّل عنصر ثالث مثل المصلحة الانتهازية الضّيّقة؟  وسؤال رابع قيميّ يطرح حول تناسق الموقف مع ذاته. وأخيرًا السؤال الأكثر أهمية: هل نتّفق أو لا نتّفق مع طبيعة القيم التي يمثّلها؟

قد تقود هذه الأسئلة إلى معالجة أفضل للفرق بين الموقف الفكري والممارسة. فهنالك فوارق بين الفروق. ومن الفروق بين الفكر والممارسة ما يجب فضحه، ومنها ما يجب البناء عليه لأنه يؤكّد ضرورة تغيير الواقع بالاتّجاه المنشود.

التعليقات