في اليوم التّالي للنّكبة؛ هذا ما كان

عدسة عدي يعيش

إنّ التّعامل مع النّكبة على أنّها صدمةٌ كارثيّةٌ لا يمكن مناقشتها أو النّظر إليها من أبعاد أخرى، لهو أمرٌ خطيرٌ بقدر التّعامل معها بلا مبالاة. كما أنّ معالجة موضوعٍ بهذه الحساسيّة يتطلّبُ دقّةً وذكاءً كبيرين، فأنت في النّهاية تضع نفسك مقابل كمٍّ هائلٍ من الذّكريات والعواطف الجمعيّة الجاهزة دائمًا للدّفاع عن نفسها، إلى درجةٍ قد تصل إلى التّساؤل والاتّهام وحتّى الشّكّ.

قيس عسّالي، الفنّان الفلسطينيّ المولود في نابلس، والّذي له باعٌ طويلٌ في التّصميم الجرافيكيّ والفنون البصريّة، ارتأى أن تكون له طريقةٌ مغايرةٌ تمامًا في إلقاء الضّوء على الحدث الأهمّ في تاريخ الشّعب الفلسطينيّ الحديث، من خلال مشروعٍ إبداعيٍّ يتناول أهمّ المحطّات الّتي مرّ بها الفلسطينيّون، والّتي شكّلت حاضرهم وجزءًا كبيرًا من مستقبلهم، وهو يقوم على ركيزتين أساسيّتين، هما الزّمان والمكان. فالعناوين الرّئيسيّة لأجزاء فيلمه الثّلاثة زمانيّةٌ: 1948، 1967، 1993. أمّا علاقتها بالأمكنة، فتكمن في أنها تظلّ أعمالًا منفردةً حتّى تتّحد مع المكان الّذي تمثله. على سبيل المثال، ظلّ عمله '1948' ناقصًا، حتّى عرضه في فلسطين، وهو ما وافق رغبته في أن تكون بداية عروضه لهذا المشروع في بلده، حتّى كانت الظّروف مواتيةً جدًّا إلى درجة أنّه عرضه في بدايته الشّخصيّة جدًّا، 'نابلس'.

وكذلك الأمر بالنّسبة لعمل 1993، إذ بدأ العمل فيه وطوّره خلال سفره في منحةٍ فنيّةٍ إلى أوسلو، ما جعل الصّدمة الّتي من المفترض أن يحسّ بها كفنّانٍ فلسطينيٍّ مضاعفةً، فهو كأيّ فلسطينيٍّ، تراوده أسئلةٌ عديدةٌ عن تلك المرحلة المهمّة والمفصليّة، قد تذهب به أحيانًا إلى التّطرّف السّاخر؛ فأوسلو تبدو للوهلة الأولى مدينةً منعزلةً تمامًا ولا تشبهنا في شيءٍ، لكنّها ارتبطت ارتباطًا وثيقًا باللّا وعي والوعي العامّ، ولذلك كانت هذه المنحة بالنّسبة له 'في وقتها'، إذ كان يتمنّى أن يعرض الجزء الخاصّ بـ 1993 في أوسلو نفسها.

أمّا عن العرض الرّئيسيّ، '1948، في اليوم التّالي'، الحائز على الجائزة الأولى للفنون البصريّة والبلاستيكيّة في فرنسا، والّذي جاء ضمن فعاليّات 'مهرجان نابلس للثّقافة والفنون'، فهو يقسم إلى قسمين متلازمين، هما: '1948'، و'في اليوم التّالي.'

1948

تظهر في هذا العمل الكثير من الشّاشات السّوداء الّتي تحمل الرّقم 1948، متبوعةً بمقطع فيديو يعرض موادّ أرشيفيّة من ذلك العام، بالإضافة إلى مقاطعَ فيديو متنوّعةٍ تتضمّن أحداثًا شهدها العالم عام النّكبة، مثل أولمبياد لندن، ومسابقة ملكة جمال كندا، ومسيرة العيد المجيد، ودعايات… الخ.

يختلف مضمون تلك المقاطع تمامًا عن الإدراك الجمعيّ الخاصّ بالفلسطينيّين عن ذلك العامّ، والّذي يُعَدُّ صدمةً بالنّسبة لهم، إذ تُظْهِرُ الموادّ الأرشيفيّة كلّ شيءٍ ما عدا ما هو معروفٌ أو متوقّعٌ مشاهدته عام النّكبة، مع مصاحبةٍ للحنِ 'الحلم' خلفيّةً موسيقيّةً، والّذي قام جون كايج بتأليفه في العام ذاته.

يهدف هذا العمل إلى خلق مساحاتٍ إضافيّةٍ لتأمّل عام 1948، وإلى التّحقيق بالرّموز والكليشيهات، واستكشاف ما يمكن توقّعه وما لا يمكن توقّعه.

في اليوم التّالي

'في اليوم التّالي'، عملٌ تركيبيٌّ، خامته طباعةٌ على ورق جرائد. وهو يتألّف من مجموعة أوراقٍ جُرّدَت من الصّفحات الأولى لصحفٍ مختلفةٍ حول العالم، وتحديدًا أعداد اليوم التّالي للنّكبة الفلسطينيّة، حيث ظُلّلَ المقال أو الخبر الّذي غطّى ما حدث في اليوم السّابق في أرض فلسطين.

تعود أهمّيّة هذا العمل إلى أنّه يتتبّع تلك اللّحظة بعد الكارثة، ويمعن النّظر بمساحة تغطية العالم لهذا الحدث، إذ كانت الجرائد في ذلك الوقت هي الوسيلة الإعلاميّة الأكثر تأثيرًا والأوسع انتشارًا... فكم كان ثِقَلُ الكارثة في الميزان الإعلاميّ العالميّ؟!

لم تكن القيمة المعنويّة وحدها هي المقصود تقديمه في هذا العمل، فالإبداع هو القدرة على إذابة أكبر قدرٍ من التّفاعلات في بوتقةٍ واحدةٍ، وقد استطاع قيس من خلال استعانته بتكنولوجيا بسيطةٍ ومكانٍ ملائمٍ أشبه ببيتٍ قديمٍ من عام 1948، أن يجعل الصّوت، والصّورة، والمادّة، بل حتّى الرّائحة، حاضرةً لتخلقَ جوًّا موازيًا تمامًا للصّورة العالقة في الذّهن العامّ عن النّكبة وما قبلها.

خيطٌ رفيع

لقد استطاع عسّالي أن يلتقط خيطًا رفيعًا يجمع كلّ تلك المقاطع والتّفاصيل، لا سيّما في عرض الفيديو، خيطٌ جعلها جميعًا تصطفّ في منظومةٍ متماسكةٍ، أشبه بمونولج صوريٍّ سورياليٍّ، لتقدّم حقيقةً مربكةً نوعًا ما: الفلسطينيّون لم يكونوا مركز العالم رغم أنّهم كانوا مركز الكارثة، فالعالم كان مسرحًا لأحداثٍ مهمّةٍ وغير مهمّةٍ، كالأولمبياد، واحتفالات الميلاد المجيد في منطقةٍ ربّما لم تسمع بفلسطين أصلًا.

يقول عسّالي:  'ربّما تنتبه إلى الزّيّ الرّياضيّ الّذي كانت ترتديه المتسابقة النّمساويّة الفائزة في مسابقة الجري، أو ربّما يلفت انتباهك مقطعٌ عاطفيٌّ من فيلمٍ حائزٍ على جائزة الأوسكار في ذلك العام، أو إعلانٌ تلفزيونيٌّ عاديّ... العالم استمرّ بالحدوث حقًّا لنكتشف أنّنا لم نكن أكثر من تفصيلٍ انتهى بالنّسبة للعالم  واستمرّت الأحداث بعده.'

ذلك الخيط الرّفيع في مشروع عسّالي، جعل تناوله لموضوعة النّكبة أكثر عمقًا، كما أنّ انهماكه في تفاصيل التّفاصيل، نقله إلى مواضع من السّخرية السّوداء القاسية.

مرثاةٌ بصريّة

'1948، في اليوم التّالي'، عرضٌ يحفر عميقًا في الذّاكرة الجمعيّة، يثير الأسئلة الممنوعة، ويسلّط الضّوء على مناطق معتمة، وهو أقرب ما يكون إلى مرثاةٍ بصريّةٍ حزينةٍ، رغم أنّ أغلب مقاطع الفيديو كانت باردةً ومحايدةً عاطفيًّا، إلّا أنّ مشاهدتها، بالإضافة إلى تأمّل الظّلال السّوداء الّتي تُظْهِرُ وزن كارثتنا الفعليّ في الإعلام العالميّ، وفي ظلّ كلّ تلك المشاعر المتضاربة المندفعة من الدّاخل، أمرٌ مثيرٌ للأسى، وتلك هي النّقطة الّتي أراد قيس عسّالي أن يوجّه  مشاعر المشاهد إليها.

يقول قيس في معرض حديثه عن مشروعه، إنّ فكرة عرضه في أراضي 48، قد تكون في حدّ ذاتها فكرةً شائقةً، لا سيّما أنّ معظم الدّعوات الّتي جاءته لعرض عمله كانت من جمعيّاتٍ ومراكزَ أجنبيّةٍ وغير عربيّةٍ، الأمر الّذي رفضه قطعيًّا، فالهدف الأساسيّ من عمله هو المتلقّي العربيّ، وانطباع المواطنين الفلسطينيّين في الدّاخل هو أيضًا محفّزٌ إضافيٌّ يمكن من خلاله قياس تأثّر المشاهد بالعرض، في ظلّ المتغيّرات الكبيرة على مدار 68 عامًا.
   
من الجدير ذكره أنّ المعرض افتُتِحَ في 'خان الوكالة'، في الخامس والعشرين من نيسان 2016، وسوف يستمرّ حتّى الثّاني من أيّار، وهو فرصةٌ حقيقيّةٌ فعلاً للاطّلاع على فنٍّ مختلفٍ وواعدٍ، كان لنابلس الحظّ الوافر باستضافته.