ضرورة الدعوة إلى مؤتمر قوميّ عامّ | بقلم عيسى البندك

 

 

المصدر: فلسطين - جريدة يوميّة سياسيّة إخباريّة مصوّرة.

موعد النشر: الأحد، 15 آب 1943.

موقع النشر: جرايد.

 

على هامش الوحدة العربيّة

ضرورة الدعوة إلى مؤتمر قوميّ عامّ تنبثق عنه هيئة سياسيّة تمثّل إرادة البلاد

بقلم الزميل الأستاذ عيسى البندك

 

قد يكون وعي فلسطين القوميّ حافزًا من أدقّ الحوافز الّتي أيقظت حسّ الوحدة العربيّة في العالم العربيّ، في هذه الحقبة الأخيرة. بل قد تكون التجارب القاسية الّتي اجتازها عرب فلسطين دليلًا حيًّا من تلك الأدلّة، الّتي استدرّت قناعة العالم العربيّ بأنّ في الوحدة سياجًا تتحطّم عليه سهام الغوائل، ودرعًا يدرأ عن الكيان العربيّ عاديات الزمان وكوارث الحدثان، فيلتمّ شمل العرب، ويتلألأ مجدهم، فيساهمون مرّة ثانية في إسعاد الأسرة الإنسانيّة كما ساهم أجدادهم الغرّ الميامين من قبل.

 

عيسى البندك (1896 - 1984)

 

ليس ما نقول مَنًّا أو تبجّحًا؛ فهو حقيقة واقعيّة ما زالت أصداء البراهين الناهضة على صحّتها تدوّي في أسماع التاريخ والزمان، ولسنا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنّ وضع فلسطين السياسيّ هو ما حفّز أهلها العرب على إيقاظ العالم العربيّ، ولفت نظره إلى ما تُستهدف إليه بوّابة الجزيرة العربية؛ وإذن، فإنّ عرب فلسطين أوّل مَنْ يهتفون للوحدة العربيّة، وأوّل مَنْ يطربون لها، وأوّل مَنْ يهمّهم تحقيقها، لأنّ فيها نجاتهم وعزّهم، ونجاة الذراري العربيّة المتعاقبة من بعدهم.

ولا شكّ بأنّ موجة من السرور قد غمرت قلوب العرب في فلسطين؛ إذ سمعوا في تصريح فخامة نوري باشا السعيد، توكيدًا مخلصًا بأنّ فلسطين كانت في مقدّمة الأقطار العربيّة الّتي بُحِثَت، وأنّه لا يمكن بحث القضيّة العربيّة إلّا إذا كانت فلسطين في رأس القائمة.

إنّه تصريح جميل يزخر فيه التفاؤل، وتتجلّى فيه الأمنية الصادقة لإدخال الطمأنينة إلى قرارة نفس العرب في هذه البلاد. ولسنا بشك بأنّ الرأي العامّ العربيّ قد قابل هذا التصريح بما هو جدير به من سرور واطمئنان، ولا مشاحّة بأنّ مصر والعراق تدركان مغزى القضيّة العربيّة إذا استُبعدت فلسطين من حظيرتها؛ إذ تعلمان أنّ فلسطين كانت لا تزال فاتحة الكتاب وفصل الخطاب وإليها المآب.

***

لقد ألقت الأحداث على أهل هذه البلاد دروسًا بليغة وعظات رادعة؛ إذ أفهمتهم التجارب أنّ على أنفسهم بعد الله يجب أن يعوّلوا، وعلى مضاء عزيمتهم يجب أن يعتمدوا، وعلى قدسيّة حقّهم يجب أن يجمعوا، فإنّ مصائر الشعوب يجب أن لا تخضع للعواطف، ويجب ألّا تتأثّر بالأوهام والخيال؛ فإنّ مَنْ كان في موقف عرب فلسطين سدنةً للبيت العتيد، وحماةً للتراث المجيد، ينوبون عن العالم العربيّ وعن العالمين الإسلاميّ والمسيحيّ، يستمدّون منها القوّة والعون والمعاضدة والتشجيع، فإنّ عليهم أن ينظّموا حلقاتهم ويجمعوا شتاتهم ويوحّدوا كلمتهم، كي يستطيعوا أن يواجهوا الأحداث المقبلة مواجهة اليقظ الحريص على مقدّرات الأوطان، المخلص لربّه ولضميره، الوفيّ للعهد وللأجيال القادمة.

***

إنّ العالم مقبل على تطوّرات خطيرة وأحداث جسام، فلا يليق بأمّة تنشد خلودًا وتطلب مجدًا أن تركن إلى المصادفات أو تحمّل القضاء والقدر تبعة خمود ريحها! إنّ في فلسطين رأيًا عامًّا دفع مهر مكانته غاليًا، وهو يودّ أن يطمئنّ على مصير البلاد ومقدّراتها، ولن يكون ذلك إلّا إذا تعاون العاملون المخلصون الموثوقون في عزيمة ومضاء لتنسيق العمل الوطنيّ والسياسيّ تنسيقًا تدعمه ثقة الأمّة وتأييدها الصريح.

 

 

نعترف أنّ السبيل إلى تحقيق ذلك ليس سهلًا، ولكنّه ليس بالمستحيل، فإذا صحّت العزائم وخلصت النيّات وتبخّرت الأهواء، وجعل كلّ فرد من أفراد هذه الأمّة مصلحة الوطن قبلته، ورفع شأن البلاد غايته، والتجاوز عن الصغائر شيمته، استطاعت هذه الأمّة أن تستعيد سابق مجدها الوطنيّ، وغابر نفوذها السياسي، فتعود أنظار العالم المتمدّن ترنو إليها بعين الإكبار والإجلال مرّة ثانية.

غدًا قد يأتي دور فلسطين لإبداء رأيها في محادثات الوحدة العربيّة، فإذا لم تكن الصفوف موحّدة والشمل مجتمعًا، فإنّ الكلمة الّتي ستُقال في الموضوع باسمها ستكون كلمة خرساء، بل ستكون كلمة مائتة منذ ولادتها!

***

لقد وقّع فريق محترم من رجالات فلسطين كتابًا لرفعه للنحّاس باشا، ولسنا نشكّ بأنّ مندرجاته راعت حقائق وآمالًا وطنيّة صادقة، ولكنّ الرأي العام يجهل ما جاء في الكتاب، وإنّ فريقًا كبيرًا من رجالات البلاد لم يؤخذ لهم رأي ولم يُستشاروا في الأمر، ممّا يجعل الخطوة المقبلة عسيرة التحقيق، وهذا في غير مصلحة البلاد وقضيّتها؛ لذلك نعتقد أنّ الوسيلة العمليّة لاستطلاع رأي الأمّة وكسب ثقتها، هو أن يقوم فريق من ممثّلي جميع الأحزاب لدعوة الأمّة إلى مؤتمر قوميّ تتمثّل فيه جميع عناصر البلاد، فيبحث الموضوع بحثًا وافيًا، ثمّ ينتخب هيئة سياسيّة تمثّل الأمّة وتنطق بلسانها في المحادثات المقبلة، وفي الأحداث المنتظرة القريبة؛ لأنّ كلّ عمل وطنيّ وسياسيّ لا يحوز ثقة الأمّة وتأييدها، فإنّما يكون عملًا محدود الخطر، ضئيل الأثر، لا فائدة منه ولا خير فيه، فعلينا أن نتجنّب الأخطاء، وأن نعلم أنّ في البلاد رأيًا عامًّا له خطره، وأنّ للبلاد إرادة تتسامى عن كلّ إرادة، ولعلّنا نسمع ممّن هم أبعد منّا نظرًا، رأيًا في هذا الموضوع.

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.