دعوة تشريفيّة إلى استلقاء طويل | قصّة

«دعوة إلى استلقاء طويل»، للكاتبة ميس داغر (2023)

 

اتّخذتُ مكانًا بين الحضور، في القاعة التابعة لمَعلم ثقافيّ معروف على مستوى الوطن. كانت تلك أمسية تكريميّة واحتفائيّة بمسيرة الأديب الكبير لطفي الحيران، الّذي لا يختلف اثنان في شأن جودة نتاجه الأدبيّ وغزارته، على مدى خمسين عامًا.

ألقيت نظرات استطلاعيّة سريعة حولي، في القاعة المملوءة عن آخرها، فرأيت لفيفًا من الكتّاب والكاتبات، والإعلاميّين والإعلاميّات، وسواهم من جمهور الثقافة. ثمّ رفعت بصري إلى منصّة القاعة، فوجدت الأديب الكبير لطفي الحيران جالسًا، يسند ظهره إلى مقعد مائل الظهر إلى الخلف بدرجة لافتة، وكأنّ في استضافته على هذا المقعد المنفرج، دعوة له بالاستلقاء.

في مقابل الكاتب، كان الإعلاميّ الّذي لقّب نفسه في ما مضى بـ ’لاري كينج‘ يجلس؛ تيمّنًا بالإعلاميّ الشهير، الّذي سيحاور الأديب الحيران. والحقّ أقول لكم، لقد باضت في قلبي بومة الشؤم بمجرّد أن وقعت عيني على هذا الإعلاميّ الّذي أعرفه جيّدًا؛ فقد كان باستطاعتي الجزم بأنّه لم يقرأ للكاتب الضيف شيئًا على الإطلاق، قبل أن يُنْتدَب إلى محاورته.

 

***

 

كان يُفْترَض بالأمسية أن تبدأ في السادسة، مع هذا، فقد اضطرّ الضيف والجمهور وطاقم التلفاز الوطنيّ الرسميّ، إلى الانتظار إلى حين وصول السيّد (ن)، الّذي يتأخّر دومًا ربع ساعة في المناسبات. على كلٍّ، من المفيد ذكره أنّ السيّد (ن) لا يتأخّر تقصيرًا، وإنّما امتثالًا لبند "الحرص على التأخّر ربع ساعة عن المواعيد" في بروتوكوله الوظيفيّ. حتّى إذا حضر استعدّ طاقم التلفاز لبدء التصوير، وتنحنح السيّد لاري كينج، وتململ في مقعده؛ تحضيرًا لافتتاح الأمسية.

ولكم أن تعذروني إن أخبرتكم أنّ نحنحة السيّد كينج إيذانًا باقتراب كلامه، كانت كفيلة باستنفار حواسّي حذَرًا، فبئست من حواسّ تلك الّتي لا يستنفرها إقدام شخص مثل السيّد كينج على الحديث في مناسبة مهيبة كهذه. وإن كنتم ترون في كلامي هذا مبالغة، فتفضّلوا أعرض لكم ما أعلنه هذا الإعلاميّ في بداية الأمسية.

الأمسية التكريميّة - وكما تجري العادة بشأن مثيلاتها - تكون برعاية مشتركة ما بين المعلم الثقافيّ الوطنيّ الّذي يحتضنها، والتلفاز الوطنيّ الرسميّ، مع هذا، فبعد ترحيبه بالضيف والحضور، حملق السيّد لاري كينج ببلاهة في الطاولة القصيرة بينه وبين الضيف، الفارغة حتّى من كوب ماء، وأعلن أنّ الأمسية برعاية شركة «موبايلكو». ومع حفظ الاحترام لشركة «موبايلكو»، إلّا أنّ أحدًا لم يكن باستطاعته أن يحدّد على وجه الدقّة طبيعة الدور الّذي أدّته في أمسية التكريم، بل إنّ أحدًا لم يستطع تخمين ما كان يدور في خلد السيّد لاري كينج عندما نطق بهذا، لكن متابعة لمواقف سابقة له مثل هذه، تُظهر أنّ للرجل رؤًى مغايرة للمألوف في تحليل العلاقات القائمة بين الأشياء.

لعلّكم الآن في فضول لمعرفة ردّة فعل الكاتب لطفي الحيران إزاء ما تفوّه به مُحاوره للتوّ، وشاهدًا أمينًا؛ أخبركم أنّه لم يملك القيام بأيّة ردّة فعل إزاء هذا، فبداية، تمنعه دماثة خلقه المعروفة من إظهار سيماء السخرية أو الاستياء على وجهه، وفي ما عدا وجهه، لم يكن في مستطاعه التعبير بأيّة وسيلة عن عواطفه؛ ذلك أنّ استلقاءه على هذا المقعد المنفرج - الّذي فات لاري كينج إعلانه أنّه مصنوع من خشب نخب أوّل - وانحناء كامل جذعه ورأسه إلى الخلف، كما يُفْعَل بالمرضى في عيادة طبّ الأسنان، هو وضع جرّده من القدرة على إبداء أيّة ردّة فعل.

بعد مقدّمة أجهض السيّد كينج خلالها كلّ أمل في قضاء أمسية مشرّفة، اعتلى منبر المنصّة أمين عام الحزب الآفل نجمه؛ لسرد التاريخ النضاليّ للأديب في الحزب أثناء سنوات عزّه. وفي هذه اللحظة بدأت أقلام الصحافيّين الجالسين جواري بالحركة. لقد دوّنوا فقرة، فقرتين، ثلاثًا من تاريخ الحزب في حقبة سبعينات القرن الماضي... ثمّ صفحة، صفحتين، ثلاثًا من منجزات الحزب في سنوات الثمانينات. وعندما أرهق التدوين أياديهم، والأمين العامّ لمّا يذكر بعدُ من الدور النضاليّ للأديب شيئًا، ألقوا أقلامهم جانبًا، وأخذوا يشهقون بطريقة محمومة كالمصابين بالربو. بالنسبة إليّ، كان أمرًا مبهرًا أن أستنتج من كلمة الأمين العامّ أنّ المقعد غريب الطراز، الّذي أُجْلِس الأديب عليه، والّذي اعتقدته، عشوائيًّا، يعبّر في تصميمه عن حتميّة تاريخيّة مقصودة لمصير من بذلوا جهودًا معطاءة في الحزب.

 

***

 

انتهى الأمين العامّ من كلمته، وأغلب الظنّ أنّ خصلة جديدة من شعره شابت خلال مدّة إلقائها، واعتلى المنبر بعده ممثّل من طرف الحكومة. وممثّل الحكومة شخصيّة تجدونها في كلّ ما تحضرون من مناسبات. لكنّ الأزمة ليست في هذا الحضور الحتميّ لهذه الشخصيّة، بل في ثقله. إنّ هذا الممثّل يرين على القلب يا ابن الكرام رَين الآثام. وفوق هذا، إن استطعت الثبات في مقعدك خلال المناسبات الّتي يحضرها، يكن لزامًا عليك في كلّ مرّة الادّعاء بأنّك تصغي إلى خطابه المبتذل بانتباه، وكأنّك تسمعه للمرّة الأولى.

في هذا الوقت، فضّل العديد من الحضور المغادرة، وراودتني نفسي على أن أفعل مثلهم. لكنّ احترامي للأديب لطفي الحيران، وأملي بسماع بعض من حديثه، ولو في الدقيقة الأخيرة من الأمسية، منعاني؛ فبقيتُ أجاهد في الاستماع إلى خطاب الممثّل الحكوميّ، على أمل أن يأتي فيه على شيء من سيرة الأديب الضيف، بدلًا من أن يظلّ خطابه، كما دومًا، سردًا لسيرته الشخصيّة ومنجزات الحكومة. شرد فكري أثناء هذه اللحظات السخيفة بما تُراه يدور في بال الأديب الحيران، وتخيّلتُ أنّه قد يتدخّل بإبداء ملاحظة ما على الخطاب الممجوج لممثّل الحكومة. لكنّني سرعان ما كنست من نفسي هذا التفاؤل، فباستثناء حركات غير لائقة محدودة، قد يعلّق بها الأديب بأصابعه على الخطاب (وهذا أمر مستبعد ممّن هو في رِفعة خُلقه)، فإنّ ارتماءه غير الطوعيّ إلى الخلف، لم يكن يتيح له أن يفعل شيئًا سوى تأمّل سقف القاعة.

أنهى ممثّل الحكومة خطابه بـ ’كليشيهات‘ النضال والتحرير، وعلى ما بدا، كان ثمّة كاتبة شابّة تجلس في الصفوف الأماميّة، تنتظر انتهاءه على أحرّ من الجمر؛ فقد قامت من مقعدها قبل أن يتسنّى لأيّ متحدّث جديد بدء خطابه، وشرعت في توجيه الاتّهام لأرباب الثقافة بتجاهل الإبداعات الشابّة، وضربت نفسها مثالًا على أصحاب هذه الإبداعات. ثمّ، وعلى نحو مأساويّ، شرعت في توسّل الحضور محاولة الاطّلاع، ولو لمرّة واحدة، على ما تنشر. وهنا، توهّجت سرياليّة كوميديا المشهد: كاتبة شابّة تتوسّل إلى الحضور قراءة أعمالها/ نصف الحضور غادر للتوّ، والنصف الآخر يرمق الكاتبة بنعاس وقليل اكتراث/ السيّد لاري كينج يُخرج مرآة صغيرة من جيبه، يتفقّد بها وسامته أثناء سطوة الكاتبة على الأجواء/ مقعد الأديب لطفي الحيران ينحني إلى الخلف أكثر – أو هكذا هُيِّئ لي- فينتقل بصاحبه إلى عالم موازٍ.

خمس وسبعون دقيقة مضت حتّى الآن، وأغلب الظنّ أنّ الأديب الضيف لن يقوى على تحريك ظهره بعدها أبدًا، وأمّا الهمس الّذي جاب القاعة في هذا الوقت، فقد كان يدور حول أمسية تأبينيّة قريبة له.

أخذت أفكّر في ماهيّة هذا التكريم! ونحن إلى الآن لم نسمع من صاحب الشأن كلمة، ولم يُقْرَأ أمام الحضور شيء من كتاباته. في هذا الوقت، كان مَنْ تبقّى من الحضور يتشتّت بصره عن الكاتبة المتوسّلة إلى السيّد لاري كينج، الّذي صار يومئ بيده إلى موظّف واقف عند باب القاعة ليُغيثه بالماء. جلب الموظّف قارورة ماء صغيرة ولقّفها للسيّد كينج، والكاتبة في الأثناء توشك أن تُقبّل أيادي الموجودين لأجل أن يقرؤوا كتاباتها. فتح لاري كينج القارورة، ورفعها، يسأل لطفي الحيران في ما إن كان عطِشًا، فأشار إليه الأخير بيده بالنفي.

 فجأة، سمعتُ إحدى الصحافيّات بجانبي تهمس لزميلتها: "كيف يشرب وهو في هذا الجلوس! لو فعلها لغصّ بالماء ومات". صعقتني ملاحظتها، وبدأتْ تتابع سلسلة من الاحتمالات السوداويّة في مخيّلتي بشأن الأديب الضيف: "ماذا لو أنّه - لا سمح الله - يعطش، فيرفع لاري كينج إليه قارورة ماء، فيشرب وعنقه مائل إلى الخلف، فيغصّ بعنف ويخسر حياته في أمسية تكريمها؟ يا إلهي!". أرعبتني هذه الاحتمالات، وكلّ ما رجوته له بعد هذا في أمسية تكريمه، هو ألّا يشعر أديبنا الكبير بالعطش.

 

 

* من المجموعة القصصيّة بعنوان «دعوة إلى استلقاء طويل»، للكاتبة ميس داغر، والّتي صدرت مؤخّرًا عن سلسلة «كتاب كناية» التابعة لـ «مؤسّسة ميتونومي» في استوكهولم.

 


 

ميس داغر

 

 

 

كاتبة قصّة قصيرة تقيم في بير زيت. لها مجموعتان قصّصيّتان، «الأسياد يحبّون العسل» (مركز أوغاريت للنشر، 2013) و«معطف السيّدة» (الأهليّة للنشر والتوزيع، 2017)، ورواية لليافعين «إجازة اضطّراريّة» (الأهليّة للنشر والتوزيع، 2016). حاصلة على جائزة الكاتب الشابّ من «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» لعام 2015.