أجساد تختفي: رحلة في "طبيعة" ليز غلين

شكل التقدّم - عمل تركيبيّ في MASS MoCA | عدسة: ستيفين بروبيرت

 

عندما يُفتح الباب الزجاجيّ المعتّم لواحدة من صالات "متحف ماستشوستس للفنون المعاصرة" (MASS MoCA)، ينكشف أمامنا عمق يمتدّ كأنّه منظر طبيعيّ، منحدرات متتالية لتلال يظهر في آخرها، بعيدًا لامعًا صغيرًا، أفق من النيروستا. هذا المنظر الّذي ينبسط في الصالة الهائلة الحجم، مجموع أعمال الفنّانة الأمريكيّة ليز غلين، في معرضها "أركيولوجيا لمستقبل آخر ممكن"، وهو يشكّل مقولة زمانيّة أساسًا، تسافر من الزمن التناظريّ (Analog) إلى الزمن الرقميّ (Digital)، من حياة تقوم على المادّة، على الصناعة والتجارة بالسلع الملموسة، إلى ثورة تكنولوجيّة عمادها المعلومات، والتسارع، والأهمّ تغيّر مفهوم العمل.

 

رحلة في "طبيعة" ليز غلين

تبدأ الرحلة في "طبيعة" ليز غلين من ثلاث تلال، مكوّنة من مئات المسطّحات الخشبيّة المستخدمة لنقل البضائع ("مشاطيح" باللهجة الفلسطينيّة تأثّرًا بالعبريّة)، في جوف كلّ واحدة من هذه التلال، تبني ليز غلين عالمًا مادّيًّا يخصّ اللمس والسمع والشمّ. مغارة في جوف كلّ تلّة، الأولى فيها غابة من الأقمشة الصناعيّة الخشنة المتدلّية، والثانية فيها مشغّل أسطوانات وكاسيتات، يمكننا التبديل بينها والاستماع إلى ما أردنا منها، أمّا المغارة الثالثة ففيها قوارير متعدّدة الروائح، تدعو الفنّانة إلى شمّها.

 

عدسة دافيد داشيل | lizglynn.work

 

خلف هذه التلال الثلاث نجد مجموعة من الأعمال التركيبيّة والنحتيّة، الّتي تخوض في أنماط الاستهلاك والعمل الإنسانيّ. "شكل التقدّم" تسمّيه غلين، وفيه تمثال (Household Activities, 2017) لرسم بيانيّ يقارن ساعات عمل النساء بساعات عمل الرجال، وعمل تركيبيّ آخر (Avalanche of Consumer Good, 2017)، مؤلّف من ملبن باب فولاذيّ تكتظّ في داخله الأجهزة الإلكترونيّة والألعاب والسلع البلاستيكيّة المستهلكة، كأنّها تتصارع على دخول البيت، وفيها نبات مزروع في دفيئة زجاجيّة، تنعكس فتحات التهوية على ورقه؛ فتحوّله أخضر مرقّطًا بالظلال.

 

مضاربات

القسم الثالث من المعرض "مضاربات"، يحتوي على ثلاث حاويات نقل بحريّ ضخمة، لكبرى شركات النقل الدوليّ العالميّة. على باب الحاوية الأولى من تلك الحاويات، الّتي وزّعت السلع ذاتها إلى موانئ العالم كلّه، يستقبل الزائر مجسّمًا محطّمًا للكرة الأرضيّة. في الحاوية الأولى بنَت الفنّانة غرفة إدارة لموقع صناعيّ، فيها كلّ التفاصيل والمستندات والأوراق ذات الصلة.

 

عدسة دافيد داشيل | lizglynn.work

 

أمّا الأهمّ في هذه الحاوية، فهو وجود إنسان من لحم ودم، جزءًا من العمل الفنّيّ: إنسان كان عاملًا في واحدة من شركات الصناعة المحلّيّة الّتي أُغلقت، يجلس في الغرفة ويتحدّث مع الزوّار عن وظيفته الّتي فقدها، والحاوية الثانية تحتوي على شاشات عدّة، تبثّ أصواتًا وصورًا في الوقت ذاته؛ فتُشتّت قدرة المشاهد على الانتباه أو التركيز في واحدة منها. من بين هذه الفيديوهات، في عمق الحاوية، فيديو لأجساد عمّال تختفي ببطء شديد من الشاشة، أمّا الحاوية الثالثة فتحتوي على عشرات الأوراق، الّتي رُسمت فيها تخطيطات بخطّ اليد، لميكانيكيّات أجهزة تكنولوجيّة من أزمنة مختلفة.

 

مشي فوق لا شيء

بعد الحاويات الثلاث، يرتفع بنا المعرض إلى الأعلى، درج من النيروستا يحملنا لننتقل بين ثلاثة أبراج معدنيّة نتحرّك بينها، في مركز كلّ برج طابعة ثلاثيّة الأبعاد، وهي تطبع - دون توقّف - مجسّمات صغيرة لعوامل مركزيّة في المعرض: مجسّمات لمسطّحات النقل المستخدمة في بناء "التلال"، الطابعة الثانية تطبع مجسّمات لمعدّات مستخدمة في العمل الصناعيّ "براغٍ وعزقات"، بينما الطابعة الثالثة تطبع مجسّمات أجساد إنسانيّة.

 

 

السير في الهواء على طرق نيروستا خفيفة ضيّقة تُصدر أصواتًا معدنيّة، وهي تُثنى تحت خطوات المارّة، تعطي الزائرين شعورًا بالمشي فوق لا شيء. إنّ خفّة المعدن الّتي تحمل الناس، وهشاشته، تبقى حاضرة بواسطة الصوت، في الوقت ذاته فإنّ الفنّانة تركّب تحت هذه الطرق ميكروفونات، تضخّم صوت خطوات الناس على المعادن، وتعيد بثّها بواسطة مكبّرات صوت حول الطابعات الثلاثيّة الأبعاد.

 

زوال

مبنى النيروستا، الّذي نراه من مدخل القاعة كأنّه الأفق المستقبليّ للإنسانيّة، يعبّر إلى حدّ بعيد عن مفهوم "الزوال Ephemeralization"، كما يستخدمه المعماريّ والمفكّر الأمريكيّ باكمينستر فولير: قدرة التكنولوجيا على أن تفعل أكثر وأكثر، باستخدام ما هو أقلّ وأقلّ، حتّى تكون قادرة على فعل كلّ شيء باستخدام لا شيء. تحت هذا المبنى المعدنيّ، يمكن أن نرى القسم الخامس من معرض غلين، على خطى المفكّر الإنجليزيّ آلدوس هاكسلي ورؤيته، كما يبيّنها في كتابه الصادر في ثلاثينات القرن العشرين، بأنّ البشر بعد العصر الصناعيّ، سيعانون الكآبة والبؤس والملل، حين تُستبدل الآلات ماكنتهم في العمل.

 

عدسة ستيفين بروبيرت | lizglynn.work

 

تأخذنا غلين في رحلة نقاهة في الأرض اليباب، بين أعمدة معدنيّة قديمة انتُزعت من مبنى المتحف المرمَّم - الّذي كان مصنعًا، وأُغلق عام 1985، مخلّفًا 4,137 عاطلًا من العمل، من أصل 18 ألف مواطن من سكّان المدينة - وُضعت أعمدة البناء الفولاذيّة في الصالة، وبينها صنعت غلين مكانًا "للاستجمام". الهياكل المعدنيّة لأسرّة المستشفيات موزّعة، كلّ واحد على انفراد، تحت مصابيح التسفّع الاصطناعيّ...

 

 

مجد كيّال

 

 

صحافيّ وروائيّ. وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. صدرت له رواية "مأساة السيّد مطر" عن الدار الأهليّة، ودراسة "كيف يتغيّر النظام الصهيونيّ؟" عن مركز "مسارات".