ريم الكيلاني: الغناء التّراثيّ جماعيّ، والجمهور جزء منه

 

ليس من السّهل إجراء مقابلة مع المغنّية الفلسطينيّة ريم الكيلاني، فالموضوعات تتفرّع عن بعضها، الأحاديث الجانبيّة تخرج من بعضها ولم تكن لديّ رغبة في إعادة الحديث إلى مجراه، إلى موضوع المقابلة أو السّؤال، لا لتأثير ما تحكيه الكيلاني على مستمعه فحسب، بل لأسلوبها في حكيه، ولهذا السّبب تحديدًا، يكون لهذه المغنّية الفلسطينيّة تأثير 'استحواذيّ' على من يسمعها تغنّي، في حفلة حيّة تحديدًا، فتسيطر على الفرقة والجمهور وعلى أداء ثلاثتهم، سيطرة يبدو أنّ الكيلاني واعية بل متقصّدة لها، لسبب وحيد، هو تحدّيها لنفسها فيها، كأن لا تهدأ في استثارة الجمهور والتّفاعل معه، أو 'تجربة' أعضاء فرقتها بين وقت وآخر بكلمة أو فعل غير متوقّع منها، والخروج دائمًا عن 'النّصّ'، تمامًا كما يتفرّع الحديث معها، لكنّها تبقى في النّهاية المسيطرة على كلّ الحفلة، جمهورًا وفرقة ومغنّية.

سأحكي هنا ما لم أقله لريم أو لغيرها، قبل أن تراسلني لتطلب عنواني البريديّ، فترسل إليه ألبومها الجديد (فريم هي المغنّية والمنتجة والموزّعة…). قبلها بيوم أسمعت صديقًا لي في فرنسا بعضًا من أغاني ريم، من ألبوم «الغزلان النافرة»، أعرّفه عليه، وقلت له إنّه غناء فلسطيني جدير بالاحترام، وإنّني أنتظر أن يخرج ألبوم لها كي أكتب شيئًا عنه، بعده بيوم وصلتني رسالة من ريم تطلب عنواني.

بعدها، في المقابلة، أخبرتها بأنّ الحسرة الوحيدة الّتي سترافق أي مستمع للألبوم، هي أنّه لم يكن في الحفلة (وهي غيرة كذلك ممّن حضرها)، ثمّ تفرّعت الأحاديث وانتهت بعد ساعتين، كانت أقلّ من نصفها تخصّ الألبوم «حفل مهرجان نُور».

رسالة

لم تُسجَّل أغاني الألبوم في استوديوهات، 'قرّرتُ أن أقدّم الألبوم حفلًا حتّى تصل أجواء الغناء والأداء'، تقول، 'كانت الحفلة في 2012، وقد استغرق إنجاز الألبوم وقتًا، الكتيّب ذاته استغرق أشهرًا طويلة، تحديدًا ترجمة النّصوص العربيّة إلى الإنجليزيّة، وقد أشرفت عليها الباحثة سلمى الخضراء الجيوسي'. تقول ريم إنّ الألبوم خرج أخيرًا مشروعًا وليس منتجًا، هو الرّسالة الّتي تريد إيصالها، موسيقيًّا وثقافيًّا وفلسطينيًّا، وكان لا بدّ أن تنتجه هي كذلك.

'من الصّعب أن أشتغل على ألبوم كهذا، أو سابقه، مع بريطانيّين غير ملتزمين بسبب المقولة الفلسطينيّة فيه، أي المضمون الفلسطينيّ تراثيًّا وسياسيًّا، ستتجنّبني شركات إنتاج وكذلك منظّمو حفلات، وكوني بريطانيّة يزيد من ذلك، فأنا هنا، قاعدالهم، ولست في الخارج آتي لحفلة ثمّ أخرج من بريطانيا بقضاياي الّتي غنّيت لها.'

الجمهور جزء من العرض

لا تكتفي ريم بالتّركيز في الحفل على جمهورها، بل على الفرقة كذلك، 'في حفلة جاز لا تستطيع أن تضع فرقة خلفيّة (وول-بيبر)، هم جزء من العرض الحيّ، هو الجاز هكذا، العازفون ليسوا أقلّ أهمّيّة من المغنّي'، وفي حالة ريم يصبح الجمهور كذلك جزءًا من العرض الحيّ، في الألبوم نسمعها تُشركهم في أغانيها، كما يحدث في المسرحيّات، يشاركونها في أدوار محدّدة. أحدهم، وهو تركيّ، صعد إلى الخشبة وبدأ بالغناء والعزف على آلة الكمان الّتي كانت معه. 'الجمهور لا يتجزّأ من مجمل العرض'، تقول.

'التّراث عندي كالزّيت والزّعتر،' ردّت حين سألتها لمَ التّراث؟ 'آكل الزّيت والزّعتر صباحًا ولم أتعوّد على الفطور الإنكليزيّ، هذه أنا، وكذلك أغاني التّراث، أجدني هناك دون أسباب محدّدة، والغناء بالمجمل مسألة وجوديّة لدي، والتّراث مسألة هويّاتيّة.'

من فم النّسوة

بالحديث عن أغنيات الألبوم، تقول عن أغنية 'آه يا ريم الغزلان' إنّها تعلّمتها من حجّات فلسطينيّات في مخيّم عين الحلوة في لبنان، عام 1999، رقصن رقصة دائريّة فسجّلتها في واحدة من زياراتها وأخرجت من الرّقصة إيقاعًا لحّنت وفقه الأغنية. 'لا أغيّر في الكلمات أبداً لأنّها أساس الأغاني، جمعتُ الكلمات من أكثر من سيّدة مسنّة وأنسّق بينها وأقوم بتوزيع الألحان لها، فأغنية ’الحمدالله‘ جمعتها في النّاصرة وكذلك المخيّمات، لكنّني وزّعت اللّحن بشكل صوفيّ  يكرّر الكلمة مع النّوتة الموسيقيّة، وأمّي أيضًا أعطتني كلمات هذه الأغنية قبل أيّام من رحيلها.'

أغنية 'حوّلونا' أخذتها ريم من قريتَي شعب قضاء عكّا ويعبد قضاء جنين. أمّا 'تهليلة جليليّة' فمن ألحانها، وكلماتها كانت تلك الّتي جمعها توفيق زيّاد. أمّا 'الفراقيّات' فقد أخذتها من حجّة لاجئة من صفد كانت قد قابلتها في سوريا؛ 'تُغنّى بدون إيقاع ومليئة بالشّجن.'

شعر

لا تقتصر الحفلة على التّراث، بل هنالك حضور واضح لسيّد درويش فيها، نسمعها تغنّي 'لحن الشّيّالين'. 'أغنّي لدرويش لأنّه والتّراث الفلسطينيّ من علّقني بالموسيقى والغناء. اشتغلَ درويش مع بديع خيري على الأغاني، واحد يكتب والآخر يلحّن، ثمّة دائمًا إهمال للشّاعر في التّجارب الغنائيّة العربيّة، فخيري جزء أساسيّ من تجربة درويش، وعملهما كان بالتّوازي، أي أنّه لم يكتب الكلمات لتُلحّن لاحقًا، بل كان العمل ينضج أغنيةً بلحنه وكلماته معًا؛ هنا تكمن قوّة العمل.'

مقطوعة '1932' أؤدّيها في الكثير من الحفلات، تكون موسيقى تُعزف وإلقاءً للشّعر، ليسمع النّاس الشّعر العربيّ والمترجم ملقًى وليس مغنًّى فقط، أختار قصيدة مع مقطوعة ألّفتُها أنا وأسميتها بهذا العام الّذي عُقد فيه مؤتمر الموسيقى العربيّة الأوّل في القاهرة عام 1932، الّذي تناول كذلك صراع الشّرق والغرب موسيقيًّا عن طريق التّآلف، والقصيدة المرفقة تحكي عن قضيّة ما، في حينها، نوفمبر 2012، كانت غزّة تُقصف فاخترت قصيدة لمعين بسيسو، هي ’كأس الخلّ‘.'

أمكنة

عن الأغنية التّونسيّة في الألبوم، تقول: 'بالنّسبة لأغنية ’بابور زمّر خشّ البحر‘، فهي تلحين التّونسيّ الهادي قلّة، وكلمات عمّ المولدي زْليلة، أعطاني كلماتها الشّاعر التّونسيّ محمّد صغيّر أولاد أحمد، الّذي رحل مؤخّرًا، وقال لي أن أقرأها في الطّائرة أثناء عودتي من تونس، لم أفهم الكلمات بداية كونها محلّيّة جدًّا، اتّصلت به لاحقًا فشرحها، ووجدت كم كانت رائعة. وأخيرًا غنّيتها.'

وعن أغنيتها 'هنا اليرموك' الّتي أُرفقت بفيلم 'شباب اليرموك'، تقول عنها: 'وصلني إميل فيه صورة لغلاف ألبومي ’الغزلان النّافرة‘، معلّقة على الحائط، فانجبر خاطري، وقيل لي إنّ الشّباب في الفيلم هم من طلبوا أن أغنّي فيه، فأخبرت مخرجه أكسل سلفاتوري أنّني لا أستطيع أن أغنّي التّراث هنا، لأنّه سيبدو كليشيه ومُقحمًا، فأخذت قصيدة من إياد حياتلة، شاعر من المخيّم ومن سكان اسكوتلندا، ولحّنتها بمقام غربيّ.'

'الفصل بين الأغاني كان حسب السّرديّة، وليس حسب الجانر، أو النّوع، فأتت ’الحمدالله‘ في آخر الألبوم، في وقت تركّزَ التّراث في أوّله، أي أنّ النّوع الغنائيّ وُظِّفَ في خدمة السّرديّة أو موضوع الأغنية، وفي الأغنية الأخيرة كما هو متعارف عليه في حفلات الجاز، لا بدّ من مساحة تُعطى لكلّ عازف لينفرد على آلته، نوعًا من ختام وشكر للعازف والجمهور، وكلمة الحمد الله التي تتكرّر كثيرًا، بأسلوب صوفيّ، هي ختام جيّد للحفلة، يشارك فيها الجمهور لسهولة ترديدها.'

جماعيّة الغناء

تفاعل الجمهور الّذي يبلغ ذروته في الأغنية الأخيرة من حفلة ريم المسجّلة، يبدأ في الأغنية الأولى منها، وللتّفاعل أشكاله. 'في أغنيتي عن اليرموك ظلّ الجمهور ساكتًا، هذا هو التّفاعل المطلوب مع أغنية تحكي عن المخيّم ووضعه المأساويّ. في أغنية ’بابور زمّر‘ طلبت منهم أن يقلّدوا صوت البابور، فبدأ كلّ واحد بإخراج صوت كان محصّلتها جزءًا من أداء الأغنية بالاشتراك مع الجمهور. التّراث الغنائيّ مبني على الأداء الجماعيّ، وفكرة الغناء المنفرد للتّراث أُقْحِمَ عليه إقحامًا. ومن إنجازات سيّد درويش أنّه أدخل الغناء الجماعيّ إلى الغناء المدينيّ المصريّ بدايات القرن العشرين.'

بأدائها وطريقة 'تحريضها' للجمهور ومشاركتها مع الفرقة في الأغنية، تقول ريم إنّها والجمهور والفرقة، يكونون بذلك في مواجهة الصّعوبات الّتي يمكن أن تطرأ على العرض الحيّ، 'يكون الجمهور إلى طرفك وليس في مواجهتك، وإشراكه في الغناء التّراثيّ يعيد الأغاني إلى طبيعتها وأصلها، وعلى المسرح تكون جروحي مفتوحة أثناء الغناء، لا يشبه ذلك أبدًا غناء التّراث بصوت واحد في الاستوديو.'