إخراج الآلهة: رحلة الديانات منذ الإنسان العاقل

من معبد النار في يزد، إيران | توماس شولزي، Getty

 

الإنسان العاقل

يُعتقد أنّ «الثورة الكلاميّة» بدأت قبل سبعين ألف سنة، على الأغلب استغرق الأمر آلاف السنوات، حتّى تطوّرت تلك الأصوات الفرديّة إلى لغة تصنع خيالًا مشتركًا لمَنْ ندعوهم اليوم بشرًا، هذا الخيال، على ما يبدو، كان نقطة تحوّل «الإنسان العاقل» ((Homo sapiens، جعلته يتفوّق على أشباهه من الإنسان المنتصب والإنسان العامل وغيرهما ممّن سبقوه، ويتواصل في مجموعات أكبر، متحوّلًا من مجرّد جنس آخر من الحيوانات، إلى جنس خطير على غيره، فقد قضى على كلّ الحيوانات الأخرى الّتي نافسته من ’آدميّين‘ أو الماموث أو النمر ذي الناب الطويل.

تجمّع «الإنسان العاقل» في مجموعات من بضع عشرات (...) يبلور دينه الأرواحيّ أو الإحيائيّ، يتواصل مع أرواح الحيوانات والنباتات والحجارة...

تجمّع «الإنسان العاقل» في مجموعات من بضع عشرات، يتواصل ويلتقط طعامه وصيده في مناطق معيشة تصل إلى عشرات الكيلومترات لكلّ مجموعة، بدون أغراض شخصيّة تقريبًا، وبدون أيّ التزام بالمكان، يتنقّل بين ما تطرحه الطبيعة له، يمارس دوره في نظام الطبيعة، ويبلور دينه الأرواحيّ أو الإحيائيّ، يتواصل مع أرواح الحيوانات والنباتات والحجارة، دون أن يشعر بأنّ له حاجة إلى التفوّق في قيمته على غيره من كائنات.

 

إله الزراعة

بقدرة البشر على الخيال المشترك، يبدو أنّه كانت تكتّلات تفوق المجموعات الصغيرة، ورويدًا رويدًا راحت تلتقي، ربّما كي تمارس بعض الشعائر الدينيّة، ومن أقدم دلائل ذلك معبد عمره اثنا عشر ألف سنة في تركيا. في مثل هذه التجمّعات تركّزت حاجة إلى طعام كثير وآنيّ؛ ليتحوّل البشريّ رويدًا رويدًا من صيّاد وملتقط للطعام، إلى مزارع يبني بيوتًا ثابتة، ويزرع الأرض، فتروّضه حاجته إلى الحنطة أو الرزّ أو الكينوى حتّى يعبّد الأرض ويسقيها، ويمحي أيّ أثر لنباتات أخرى باتت مضرّة باحتياجاته. كذلك بدأ بتجميع الحيوانات والدأب على تكاثرها، حتّى غدت الدجاجات والخراف والأبقار من مجرّد أنواع أخرى من الحيوانات إلى أكثر الأنواع انتشارًا على الكرة الأرضيّة، مقابل انقراض العشرات من الأنواع الّتي باتت تزعج البشريّ في معقله.

لم تعد المعتقدات الدينيّة الأولى مناسبة لتعلّل الاستغلال لتلك الأرض وتلك الحيوانات؛ من أجل لحمها وحليبها وبيضها وغير ذلك، فنشأت مع هذه التحوّلات ديانات ألوهيّة؛ ديانات تعلّل الاستغلال البشريّ، بأنّ تلك رغبة الآلهة، وتشرعن ذلك بتفوّق الإنسان، وأنّ كلّ ما يحيطه مجرّد ديكور جاء كي يخدمه.

تطوّرت المجموعات الصغيرة من الصيّادين وملتقطي الثمار إلى ممالك؛ لتصلنا أخبار أولى الممالك من بلاد الرافدين، الّتي أنتجت اللغة السومريّة ، وهي تُمَثّل عائلةً لغويّة تُعَدّ الأساس لغالبيّة اللغات البشريّة المحكيّة اليوم.

كلّ هذا التغيير خلق مجتمعات طبقيّة مدعومة أيضًا من الآلهة، فشريعة حمورابي استلمها من الإله شمش والإله مردوخ مثلًا. وقد تراوحت الديانات بين آلهة متعدّدة أحيانًا وإله واحد هو الأفضل بين الآلهة، كما فعل آخناتون المصريّ عندما منع عبادة أيّ آلهة أخرى غير إله قرص الشمس أتون؛ وقد ظهرت أيضًا في هذه المرحلة ديانات بإله واحد مثل اليهوديّة، أو ديانات بإلهين (إله الخير وإله الشرّ) كالزرادشتيّة، أو ديانات قديمة استمرّت بآلهة عديدة كالهندوسيّة. وفي الحقيقة ثمّة دائمًا تبادل غزير للأفكار بين الديانات؛ ففكرة الجنّة وجهنّم والشيطان وغيرها مثلًا، ظهرت في الديانات الثنائيّة الآلهة؛ لتنتقل إلى الديانات التوحيديّة.

 

الديانات الإمبراطوريّة

فكّر سرجون الأكديّ في أمر مملكته، هو مَنْ حملت به أمّه البتول وأنجبته سرًّا، ثمّ وضعته في سلّة ورمته في النهر، لكنّ الآلهة أحبّته وجعلته ملكًا، ليصل إلى استنتاج أنّ فكرة المملكة المحدودة لا تلائم طموحه، ليبدأ باحتلال الممالك المجاورة، فيصبح ملك شعوب بلاد ما بين النهرين، ويُنشئ أوّل إمبراطوريّة في التاريخ، إمبراطوريّة توقّفت عن التفكير في حدود معيّنة أو شعوب معيّنة، بل تريد أن تصل إلى البشريّة كلّها كي تخلّصها من نفسها.

تختلف ديانات الآلهة المتعدّدة عن التوحيديّة، ليس بعدم وُجود إله واحد مركزيّ يسيّر الخليقة، بل في أنّها عندما وجدت هذا الإله لا يستجيب لأيّ صلاة تصلّيها له، ابتدعت آلهة أصغر وأقلّ شأنًا، لكنّها تستطيع أن تحبّ وتكره...

توالت الإمبراطوريّات وتطوّرت معها الديانات الّتي فُرِضَتْ على أتباعها حينًا، ولم تُفْرَضْ أحيانًا أخرى، ولكن لا يعني ذلك أبدًا أن يُسْمَحَ للخاسرين التابعين باحتقار آلهة المنتصر كما فعل المسيحيّون الأوائل بآلهة الرومان، فاضطُهِدوا. وبما أنّ الناس على دين ملوكهم، فإنّ الملك الرومانيّ قسطنطين عندما تنصّر، وبما أنّ المسيحيّة تختلف عن آلهة الرومان القديمة الّتي لم تعنها الآلهة الأخرى، كما لم يعنها نشر ذاتها، فقد انتقلت المسيحيّة إلى كلّ مساحات الإمبراطوريّة بالتبشير بعض الأحيان، وبالقوّة في أغلب الحالات.

ومن شبه جزيرة العرب، الحديقة الخلفيّة لمركز الإمبراطوريّات القديمة، نشأت الديانة الإسلاميّة لتأخذ مكانها أيضًا بالتبشير بإله واحد حينًا، وبالقوّة أحيانًا، وتنتشر كالنار في هشيم الإمبراطوريّات السابقة.

تختلف ديانات الآلهة المتعدّدة عن التوحيديّة، ليس بعدم وُجود إله واحد مركزيّ يسيّر الخليقة، بل في أنّها عندما وجدت هذا الإله لا يستجيب لأيّ صلاة تصلّيها له، ابتدعت آلهة أصغر وأقلّ شأنًا، لكنّها تستطيع أن تحبّ وتكره، وتستجيب لدعائك وقرابينك، بل تحارب معك ضدّ إله أعدائك، بينما الديانات التوحيديّة اختصرت تلك الطرق غير المباشرة؛ ليمتلك الإله الواحد كلّ القدرات وكلّ المشاعر، دون الحاجة إلى آلهة أخرى.

 

الديانات الأيديولوجيّة

على عكس المعتقد، إنّ أهمّ أسس الثورة العلميّة اعتراف البشر بجهلهم؛ فبدل رجل الدين الّذي يمتلك الإجابة عن كلّ الأسئلة، اكتشف فجأة العلماء، الأوروبّيّون تحديدًا، جهلهم، وهذا تسبّب في الدفع نحو حركة جديدة وكثيفة للعلوم. ومن ركائز البحث العلميّ الاعتماد على ’المنطق السليم‘ و’الفطرة البشريّة/ الطبيعة البشريّة‘ في تفسير أيّ ظاهرة، بل الاعتماد على البحث الأمبيريّ واعتماد الأسس الرياضيّة، ومن ثَمّ تحوير العلم إلى قوّة فعليّة تخدم مصالح جهاتٍ مختلفة.

هذا التطوّر احتاج إلى دول مركزيّة تستطيع تجميع موارد كبيرة للبحث والتطوير العلميّ، وتتحوّل رويدًا رويدًا أيّ مشكلة تواجه البشريّة إلى سؤال تقنيّ يحتاج إلى تطوير جديد يبحث عن حلّ؛ فلكي تفوز الولايات المتّحدة في الحرب العالميّة الثانية؛ جمعت مئات العلماء في «مشروع مانهاتن» لسنوات عدّة حتّى كان تطوير القنبلة الذرّيّة، الّتي خلقت بذاتها مسارًا موازيًا ممكنًا تقضي فيه البشريّة على ذاتها.

على التوازي لنشأة الإمبراطوريّات، نشأت ’ديانات حديثة‘، هي أيديولوجيّات، كالماركسيّة والليبراليّة والرأسماليّة والنازيّة، كلّها بدون أيّ مكان مركزيّ للآلهة في تشريعاتها...

هذا التطوّر احتاج إلى مثلّث غير مقدّس من العلاقة بين السياسيّين والشركات الربحيّة والمؤسّسة الأكاديميّة، الّتي تحصل على تمويل وفق أهواء الطرفين الآخرين، لكنّها تقوم بمهمّتها وفق أسسها الأكاديميّة؛ لتقرّر الشركات والدول كيفيّة استخدام تلك الاكتشافات والاختراعات. وقد خُلِقَ نظام رأسماليّ يدّعي مريدوه حتميّته أو على الأقلّ عدم القدرة على الفكاك منه، تمامًا كالثورة الصناعيّة.

يؤدّي توق الرأسماليّة إلى زيادة الأرباح إلى إعادة الاستثمار في البحث والتطوير، وفي ضوء هذا زحفت الإمبراطوريّات، الأوروبّيّة تحديدًا، نحو مناطق غير واقعة تحت سيطرتها، بمزيج من البحث عن المعرفة والتبشير والجشع والسيطرة، وخلال هذا التطوّر نمت إمبراطوريّات واضمحلّت، مثل إسبانيا والبرتغال وهولندا، لتتلوها فرنسا وبريطانيا الّتي كانت منبع الثورة الصناعيّة، الّتي تحوّلت بمنزلة منصّة إطلاق جديدة لتفوّق غير مسبوق لهذه الإمبراطوريّات.

على التوازي لنشأة الإمبراطوريّات، نشأت ’ديانات حديثة‘، هي أيديولوجيّات، كالماركسيّة والليبراليّة والرأسماليّة والنازيّة، كلّها بدون أيّ مكان مركزيّ للآلهة في تشريعاتها؛ لكي تعطي بدائل عمليّة لبشر عصرها، ’ديانات‘ تركت ثنائيّة الإنسان والإله، وركّزت على الإنسان فقط محورًا للكون.

 

إخراج الآلهة

نجح العلم في تحقيق الكثير خلال مدّة قياسيّة؛ لن يختلف الأمر كثيرًا على شخص عاش في القرن العاشر أن تقفز به خمسة قرون إلى الأمام، بينما منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم، نجد أنّ كلّ تفصيل صغير في حياتنا قد اختلف، تغيير لا يزال يتسارع، لتجد أنّك حتّى إذا أحضرت شخصًا عاش قبل خمسين سنة إلى حاضرنا فسيُفاجَأ من الاختلاف وحجمه.

بالمقابل، أدّى هذا التطوّر إلى خلق أدوات جديدة من الاستبداد الّذي ينبع أحيانًا من صراع على الموارد، وأحيانًا لغرض زيادة الأرباح، وقد أدّى في كثيرٍ من الحالات إلى انتهاكات مريعة، حدّ العبوديّة وضحاياها، مثل ملايين القتلى خلال إجبار سكّان من أفريقيا وغيرها على الانتقال إلى ‘العالم الجديد‘، ليكونوا عبيدًا يعملون في إنتاج السكّر والقطن وغيرها من صناعات.

في الزمن العلميّ، كلّ ذلك يحصل دون الرجوع إلى الآلهة، بل كلّ بقعة سلّط عليها العلم الضوء، تُخْرَج الآلهة من هناك.

 

التحدّيات الّتي يتعامل معها العلم الحديث كثيرة، من ضمنها انشغاله بمشروع الحياة الأبديّة، الّذي لا يُطْرَح اليوم على طريقة «جلجامش»، بل عن طريق أبحاث طبّيّة تحارب الآفات والأمراض؛ لتنجح في مضاعفة معدّل معيشة البشر في المئة العام الأخيرة، وخفض نسبة وفيات الأطفال إلى أقلّ من عُشْر النسب القديمة، حيث أنّ الهدف غير المعلن للطبّ الحديث إلغاء مسبّبات الموت من أمراض وآفاتـ، ورغم أنّه لا تزال المسافة طويلة، إلّا أنّ التسارع المتواصل في البحث الطبّيّ لم ولن يتوقّف قريبًا.

في الزمن العلميّ، كلّ ذلك يحصل دون الرجوع إلى الآلهة، بل كلّ بقعة سلّط عليها العلم الضوء، تُخْرَج الآلهة من هناك.

 


 

رشيد إغباريّة

 

 

 

كاتب من فلسطين.