الشعب في الكراجات*

كوابيس | روبيرتا توديسكو

يصرّ كابوسي على أن يتكرّر. عناده الغريب أعاد الحبكة نفسها سبعَ ليالٍ متتالية خلال هذا الأسبوع، على أنّ السيناريو كانت تطاله بعض الرتوش حذفًا وإضافة، مع الإبقاء على الحبكة الرئيسيّة متمحورة حول فقداني لبطاقة هويّتي في المدينة، ومحاولاتي العبثيّة في العودة إلى المنزل عبر طريق مدروزٍ بالحواجز العسكريّة.

في البداية وجدتُ نفسي في ساحة أضرب يدي على جيبي فلا أجد البطاقة، فأنكبّ على الرصيف أفتّش بلاطه لعلّها سقطت هنا أو هناك. انكبابي يتحوّل إلى زحف. زحفي يتحوّل إلى استلقاء يائس. قَطْعٌ حادّ حدث هنا. لا أفهم طريقة مونتاج المنامات، لكنّني فجأة أجد نفسي في الكراجات، والشعب أيضًا كلّه في الكراجات. كانوا غاضبين، لهم وجوه عنيفة، قاماتهم عالية جدًّا. كانوا كما اشتهيهم شعبًا ثائرًا، وصورتهم هذه أكثر ما تصلح لبوستر يُري العالم ترجمة حيّة لعبارة 'الشعب يريد'. لكنّهم جميعًا يمدّون بطاقاتهم كي يعبروا البرزخ العسكريّ العملاق. متراس كجدار بين الأرض والسماء، تنحني قرب فجوة لتمرّ بالبطاقة، فتجد متراسًا ثانيًا بالفجوة ذاتها، وهكذا حتّى تعدّ أربعة عشر متراسًا بأربع عشرة فجوة عند كلّ منها مخلوق حارس، أطرافه بنادق. كلّ بطاقة هويّة صليب، كلّ متراس وقفة على طريق جلجلة البيت، وكلّ واحد من الشعب مسيحُ نفسه، ولا خلاص.

في عودة أخرى إلى المنام الأسود، وجدتني في طريق شديد التعرّج، كتلك الطرق في سباق السيّارات الإلكترونيّ. أقود سيّارة جبّارة برعونة لم تخطر في بال مصمّمي اللعبة أنفسهم.

في وضع مثاليّ كهذا، تهيّأ لي أنّ سيّارات الأمن ستلاحقني كما تفعل سيّارات البوليس في اللعبة، ولن يكون عليّ في المطاردة إلّا التمتّع بتدميرها سيّارةً سيّارةً. لكنّ الّذي حدث أنّ سيّارتي وخيالي توقّفا أمام رجل أمن قبيح له خصية في حنجرته. نزل بلّور النافذة من تلقاء نفسه فنظر إليّ بعينين كلّ منهما فوّهة مسدّس، وأخبرني أنّه يعرف عنّي كلّ شيء، وضحك ضحكة شيطانيّة لأنّي ذاهب إلى حتفي، ثمّ حدث القطع الكابوسيّ.

عند الكراج المحاط بمحلّات الخمور والدخان المهرّب، وجدتُ هيام، ابنة الجيران، تبيع الفلافل. تذكّرتُ عهدي بملاحقتها، وعهدها بصدودي.

إذا كانت على سطح منزلها تراني أصعد سطح منزلي وأبدأ الاستعراض، فإمّا أرفع الأثقال، وإمّا أسير على سياج السطح... فتنزل. إذا ذهبت إلى المدرسة ألحقها بصمت، مع ذلك ترسل إخوتها حين تعود لِيُنْطِقوا كلّ مسامة في جسمي من الضرب. في أوّل عهد الشباب قطعتُ طريقها: 'هل تتزوّجينني يا هيام؟'، فقالت بقرف لن أنساه: 'انقلع'.

حين أحسّتْ أنّني تركتها بدأتْ مناوراتها، فمرّة ترسل المراسيل، وأخرى تتذرّع بطلب رغيف من بيتنا، وثالثة تزور أخواتي لتشرب معهنّ القهوة.

في تلك الفترة بدأتُ أخجل من ذوقي، فالحياد العاطفيّ جعلني أرى شعرها الذي كنتُ أظنّه ذهبيًّا مجرّد ألياف لعرنوس ذرة، وأنّ عينيها الوسيعتين في مخيّلتي ليستا إلّا ثقبين، بينما جسدها المربّع لا يجعلك تعرف قدّامها من ورائها!

جمال هيام الّذي حاكى خيال مراهقتي بدا لي نوعًا من التخفيف لتوتّر دراما الكابوس، وفرصة نادرة لعدم إيقاظ العائلة بصراخي كما بات يحصل مؤخّرًا. هيام جميلة كنقطة في مصحف، قلتُ لها ما تقوله الأمّهات. عيونها شهلاء برموش يتزحلق عليها الضوء. فمها فستق مقشّر ورضابها ماء قراح.

هيام صورة الأمل.

شدّتني إليها وراء مقلى الزيت وقبّلتني، فانتعشتُ وشعرتُ من قبلتها بالشبع، كانت قبلة كقرص فلافل مقليّ بزيوت الفردوس، وقد هبط عليّ من السماء ككبش إسماعيل.

سلّمتها يدي بأمانِ من يرافق حبيبته، لتعبر القطعة العسكريّة المجاورة للكراج. مشينا دقائق قصيرة تحوّلت معها برّاكات العسكر أكواخًا، والأشواك شقائق نعمان. دقائق قصيرة ثمّ وجدتُني وحيدًا بلا هيام، وبلا ذلك المشهد الدافئ. قَطْعٌ مونتاجيّ جائرٌ جعل خوفي مضاعفًا من كابوس أعرف أنّه لن يتركني بسلام.

ما شأني بهيام؟ أريد الوصول إلى البيت وليست معي هويّة. خرجت دوريّة من تحت الأرض واقتادني عناصرها إلى حفرة، لكنّ القَطْعَ الّذي رماني إلى الصحو، لو بِريق ناشف، لو بقلب يرتجف، لو بمثانة تغلي... كان رحمة.

استمرّت كوابيس الأسبوع هكذا، ولم تظهر هيام إلّا مرّة واحدة. رأيتها عند الحاجز تحمل بارودة. أمرت جنودها باعتقالي، ودون أيّ قَطْعٍ وَجَدْتُني في غرفة بادرة بمواجهتها عارية، من بين ساقيها يتدلّى قضيب. انتزعَتْهُ فتحوّل إلى كرباج راحت تجلدني به.

لا يزال الكابوس يتكرّر حتّى بتّ متأكّدًا أنّه الحقيقة، بينما الحياة مجرّد فواصل من الوهم.

* نصّ من الكتاب السّرديّ 'قطعة ناقصة من سماء دمشق'، الصّادر عن دار ممدوح عدوان عام 2015.