سيرتي الذاتية التي لم تحدث

 

وُلدت في قرية بيت نبالا في عام 1964، درست المرحلة الدراسيّة الأولى في مدرسة قريتي الابتدائيّة، ثمّ أكملت المرحلة الثانويّة في "مدرسة خليل بيدس" في الرملة، أمّا دراستي الجامعيّة فكانت في "جامعة يافا الأهليّة"، وقد أنهيتها في عام 1989، حاصلًا على ليسانس أدب عربيّ وإعلام.

"جامعة يافا الأهليّة" من أرقى جامعات فلسطين، تأسّست في عام 1948 من قِبَل نخبة من مستنيري فلسطين - من المفكّرين والأدباء - مثل: خليل السكاكيني، وحبيب خوري، وجورج أنطونيوس، وإلياهو شابير. وأهمّ ما في المدرسة احترامها لحرّيّة الطالب، وتقديرها لميوله، وبُعدها عن العنصريّة والطائفيّة؛ ففيها يدرس المسيحيّون واليهود والمسلمون الفلسطينيّون معًا، بلا أيّ حساسيّات طائفيّة، وأظنّ أنّ هذه الجامعة أسهمت في تكويني الثقافيّ التسامحيّ والفكريّ الاستناريّ والديمقراطيّ، وفي إحساسي بكونيّة الأدب وإنسانيّة الثقافة.

بعد التخرّج في عام 1989، عُيّنت مدرّسًا لمادّة اللغة العربيّة، في قرية يازور القريبة من يافا، في أثناء ذلك واصلت كتابة القصّة القصيرة؛ إذ صدر لي في هذه الفترة مجموعتان قصصيّتان: صدرت الأولى في عام 1990 عن "مطبعة النصر" في يافا، أمّا المجموعة الثانية فصدرت في عام 1992 عن "المطبعة الوطنيّة" في يافا أيضًا. شاركت في العديد من المهرجانات الدوليّة الأدبيّة في بداية التسعينات، وهي الفترة الخصبة الّتي نبتت فيها أسئلتي، وهواجسي، وأحلامي الإبداعيّة، وشغفي... كان السفر عن طريق "مطار اللدّ الدوليّ الفلسطينيّ"، وهو مطار قديم أُنشئ في عام 1936 أيّام الانتداب البريطانيّ، بمبادرة من رجل الأعمال الفلسطينيّ يوسف عويضة وأخوَيه عمران وفايز.

في صيف العام الثاني من عملي مدرّسًا في مدرسة قرية يازور، تزوّجت صديقتي شوشانا إدري، وهي شاعرة فلسطينيّة، يهوديّة الديانة، كنت قد تعرّفت عليها في "سينما الحمراء" في أثناء دراستي الجامعيّة، حيث كنّا نشاهد مع المئات من الفلسطينيّين والعرب حفلة غناء صاخبة للمطربة السوريّة ميّادة الحنّاوي. كان قرار الزواج بيهوديّة مشكلة كبيرة لأهلي وأهل شوشانا؛ كونها من ديانة أخرى، لكنّ إصرارنا وقوّة حبّنا جعلا أهالينا يرضخون.

في عام 1997، حصلت على عمل صحافيّ، كاتبًا في زاوية أدبيّة أسبوعيّة في "جريدة فلسطين" الشهيرة، الّتي كان يرأس تحريرها عيسى العيسى، وشقيقه يوسف العيسى. بدأت من تلك الصحيفة حياة ثقافيّة جديدة أسّست في ما بعد لخبرة استفدت منها لتطوير كتابتي الأدبيّة. في عام 2000، تركت "مدرسة يازور"، وانتقلت إلى "مدرسة الفرير" في يافا، وكنت على تواصل دائم مع أهلي في قرية بيت نبالا الّتي غزتها الحداثة، وغيّرت كثيرًا من معالمها الريفيّة.

كانت أمّي في تلك الأثناء... تصارع مرضها الشرس في "مستشفى الدجاني" في يافا، وكان أبي المزارع الكبير، صاحب البيّارات الكثيرة، قد تقدّم في السن... بعد حياة حيويّة، وخصبة اقتصاديًّا، واجتماعيًّا، كان فيها مسؤولًا مع شريكه عمران القمحي، وهو يهوديّ الديانة أيضًا، عن تصدير البرتقال والليمون والحمضيّات، إلى ميناء يافا؛ تمهيدًا لنقله إلى أوروبّا. وكنت على تواصل - أيضًا - مع أساتذتي الّذين علّموني في المراحل المدرسيّة المختلفة، منهم أستاذ الكيمياء العظيم ثابت الخالدي، الّذي كان يسكن في حيّ المنشيّة، وكنت أزوره كثيرًا مع أصدقائي وزملائي.

كان نهر العوجة في يافا من الأماكن الّتي لا أملّ من زيارتها؛ إذ شكّل هذا المكان مصدر ثراء بصريّ وذهنيّ وعقليّ وإنسانيّ لي! انعكس بجلاء على تجربتي اللغويّة؛ فقد كان هذا النهر باستمرار مسرحًا لعديد من الحوادث، والشخصيّات الإبداعيّة والدراميّة الّتي ضمّتها رواياتي وقصصي... أمّا المقاهي الشعبيّة في يافا، الّتي كنت مولعًا بالجلوس والتأمّل والكتابة فيها، منها: "قهوة أبو شاكوش"، و"قهوة المدفع"، فقد اختفت للأسف! بفعل الحداثة... وحلّت محلّها المقاهي الشبابيّة الّتي تعتمد على الأطعمة الجاهزة والمشروبات الغربيّة!

لست ضدّ الحداثة، لكنّي ضدّ اندثار القيم والسلوكيّات النبيلة والحميميّة في العلاقات الاجتماعيّة. كلّ ذلك يظهر في قصصي، على شكل صراع بين القديم والحديث، والحيرة بينهما... وأحيانًا برسم صورة غريبة في ذهني للحياة، تمزج بين القديم والحديث، في محاولة لكسب فوائد الحداثة، وقيم الماضي الجميلة.

كان للمكتبات دور كبير في تشكيل وعيي الثقافيّ في مدينة يافا، وأهمّ تلك المكتبات الّتي كانت تحضر لنا الروايات والقصص من الخارج: "مكتبة السفري"، و"مكتبة فلسطين العلميّة"، و"مكتبة الطاهر". قرأت من هذه المكتبات المئات من الروايات لأدباء عرب وعالميّين، مثل: المصريّ إدوار الخرّاط، والأمريكيّ هنري ملر، والكولومبيّ ماركيز، والإيطاليّ ألبرتو مورافيا، والألمانيّ هرمان هسة.

واضح أنّي كنت محظوظًا جدًّا؛ لكوني عشت وما زلت أعيش في مدينة يافا، المزدهرة اقتصاديًّا وصناعيًّا، وكانت - وما زالت - قبلة ثقافيّة للعديد من الأدباء العرب والفنّانين العالميّين.

علاقتي بالسلطة السياسيّة في بلادي تتّسم بالتوتّر وعدم الانسجام، والحقيقة أنّ الأديب أو الفنّان لا يستطيع أن يُعجب بأيّ سلطة سياسيّة، أو غير سياسيّة؛ فهو مفطور على التذمّر وعدم الرضا. إنّ القانون السياسيّ في دولتنا الفلسطينيّة يقوم على الانتخاب الحرّ؛ فكلّ فلسطينيّ - بصرف النظر عن دينه أو طائفته - يحقّ له الترشّح، أو الانتخاب. ثمّة وزير خارجيّة يهوديّ، ووزير داخليّة مسيحيّ، ورئيس وزراء مسلم... لا يهمّ.

هذا كلّه جيّد، لكنّ الفساد الماليّ للأسف، مثل باقي الدول العربيّة القريبة الشقيقة، ينخر في جسد النظام السياسيّ العربيّ؛ وهذا يدعوني - كوني كاتبًا - مع زملائي في عالم الكتابة، إلى مقاومة هذا الفساد وفضحه، وثمّة ممارسات قمعيّة تقوم بها الأحزاب السياسيّة في بلادي، حين تفوز بالسلطة، رغم الزعم بأنّ القضاء مستقلّ، والزعم بوجود حياة تشريعيّة حرّة في البلاد. 

إنّ مسؤولي الأحزاب الفلسطينيّين، يعتمدون في شرعيّتهم الشعبيّة على ماضيهم المشرّف، حين كان معظمهم مناضلين عسكريّين، وسياسيّين أسهموا بشكل كبير في محاربة العصابات الصهيونيّة، الّتي حاولت السيطرة على فلسطين، بادّعاء أنّ هذه الأرض هي أرضهم، وقد هُزِم الصهاينة والحمد لله. هذه الشرعيّة النضاليّة شكّلت لهؤلاء القادة غطاء لانحرافهم وفسادهم. كلّ ذلك يشكّل تحدّيًا ومصدرًا للسخط لدى الأدباء والفنّانين الفلسطينيّين، ومدعاة إلى اتّخاذ مواقف شريفة ضميريّة، لمحاربة الخلل، وفضحه للناس...

صدر لي حتّى الآن عشرون كتابًا، بين رواية وقصّة ونقد ثقافيّ وتربويّ، ووقّعت العديد من هذه الكتب في "مسرح النادي العربيّ"، وقد تُرجم العديد من كتبي إلى العديد من اللغات الأجنبيّة. ما زلت أعيش في يافا، "أمّ الغريب" كما يسمّونها؛ لتسامحها، وحبّها للضيوف، وانفتاحها على كلّ جديد.

حصلت على درجة الدكتوراه في الكتابة الإبداعيّة من "جامعة غزّة" قبل عام، صرت مدرّسًا للكتابة في "جامعة حيفا"، ما زلت هناك، أكتب وأقرأ وأعيش، مستمتعًا بأنّي من بلاد عظيمة اسمها فلسطين. 
لكنّ فلسطين الّتي أحببتها ووهبتها كلّ عاطفتي، كانت تشبه البلاد الأخرى؛ ففيها الملائكة وفيها القتلة، فيها البشاعة وفيها الجمال، تمامًا كأيّ بقعة في العالم...

كنت أجلس على رصيف "مطعم أبو العافية" في يافا، مع مجموعة من الأدباء العرب، كنّا نستريح من عناء مناقشات مستفيضة حول توحيد "اتّحاد كتّاب العالم العربيّ"، لم أتوقّع أنّ الردّ سيكون على شكل رصاصة تخترق جمجمتي، يطلقها على رأسي ملثّم يركب درّاجة مسرعة، كنت أظنّ أنّهم سوف يطلقون النار على بيتي، أو سوف يشبعونني ركلًا في الشارع... 

كانت جريمتي رواية "جنون النوافذ"، الّتي صدرت قبل عام، وأثارت إعجاب الكثيرين وسخط الكثيرين؛ فالّذين أحبّوها اعتبروها أوّل عمل أدبيّ فلسطينيّ شجاع، يكتب حياتنا الحسّيّة كما نعيشها، أمّا الساخطون فاعتبروها إهانة لأخلاق العامّة، وخطرًا على الجيل الشابّ، وتشجيعًا على الفسق، ودعوة إلى الفجور.

سقطت على الأرض مضرَّجًا بدمائي وبكتبي، حزنت كثيرًا على نهايتي الّتي لم أكن لأستحقّها. أنا الآن تحت الأرض، جثّة تتحلّل بسرعة، لكنّ أفكاري ما زالت تشعّ وتنتشر؛ وهذا يجعلني المنتصر في قضيّة حرّيّة التفكير والتعبير المقدّسة.

طافت فلسطين كلّها مظاهرات عنيفة تندّد باغتيالي، وتطالب بمحاكمة أعداء الحرّيّة. لكن أجمل ما حدث هو إطلاق اسمي على مدارس ومؤسّسات كثيرة، واستحداث جائزة أدبيّة باسمي. هذا كلّه أراح روحي؛ فقضيّة حرّيّة الفكر والتعبير، الّتي هي أهمّ قضيّة تواجه فلسطين الآن تنتصر، بتكاتف الناس حولها، وباكتشافهم أنّ تقدّم الشعوب مرهون بحرّيّة تفكيرها.

لو لم تحدث النكبة...

 

 

زياد خدّاش

 

 

كاتب ومدرّس فلسطينيّ من مواليد 1964. له 12 مجموعة قصصيّة، يدرّس الكتابة الإبداعيّة في رام الله، وهو حاصل على الجائزة التقديريّة لدولة فلسطين.