كيف أقيّم دوستويفكسي على goodreads؟

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

هل أفضّل الموسيقى الكلاسيكيّة؟

شخصيًّا أدّعي أنّني شخص يُفضّل الموسيقى الكلاسيكيّة على أيّ نوع آخر من الموسيقى - كبيتهوفن، وموتزارت، والأوبرا - أفضّله على الاستماع لأيّ موسيقى أخرى، على الأقلّ، هذا هو ادّعائي الشخصيّ. لكن، ووفقًا لـ "Soundcloud" الّذي أنشأت حسابًا عليه قبل عام تقريبًا، كان ادّعائي الشخصيّ عن نفسي في غير مكانه أبدًا؛ لأنّه، وإلى آخر القائمة المكوّنة من 50 تسجيلًا الّتي استمعت إليها خلال 2019، ليس من بينها أيّ موسيقى كلاسيكيّة، بل تتنوّع بين أغانٍ لفرق مثل "مشروع ليلى"، و"كايروكي"، و"دار قنديل"، و"مسار إجباريّ"، وتسجيلات لأحمد قطليش في معظمها عدميّة الطابع الأدبيّ، والشيخ إمام، والستّ أمّ كلثوم... وهكذا، إلخ. إذن، يكون ادّعائي الشخصيّ عن نفسي في غير مكانه، وهذا حتّى الآن، لا يُشكّل أيّ طابع من المفاجأة لديّ، وعادة تكون ادّعاءاتنا الشخصيّة عن أنفسنا قديمة الطابع، وترتكز على أنماط من التفكير لا يمكنها أن تملك التأثير ذاته في حياتنا اليوميّة دائمًا.

 

صرتُ مؤلّفًا على "Goodreads"

في الأسابيع الأخيرة أنشأت حساب "Goodreads"، هذا ترافَق مع نشر روايتي الأولى، ولذا، بطريقة أو بأخرى، صرتُ "مؤلّفًا" على موقع الـ "Goodreads"، بإشارة إلى جانب اسمي على الموقع: "Goodreads Author"، لكنّي ربّما أكون أفقر الناس على هذا الموقع أصدقاء ومتابعة، بالنظر إلى مؤلّفي الموقع الآخرين... هذا لا يهمّ، هذي مفارَقة فقط سخيفة حول كيف يمكن المرء أن يصبح فجأة مؤلّفًا رغم أنْ لا أحد يعرفه مؤلّفًا، وربّما لا أحد يعرفه أبدًا. لكنّ هذا غير مهمّ، وشخصيًّا لا أعِد القارئ - إن وُجِد - بأيّ صلة بين الـ "Goodreads" والـ "Soundcloud".

العزيز إميل سيوران يكتب شيئًا قد يبدو ساذجًا في سرعة استنتاجه، لكنّ فيه بعض الحقيقة: "كتبي، أعمالي: يا لبشاعة الحديث عن العمل الأدبيّ بصيغة الملكيّة! فسد كلّ شيء بمجرّد أن كفّ الأدب عن أن يكون مجهولًا. يمكننا أن نؤرّخ للانحطاط بظهور المؤلِّف الأوّل".

قبل أن أُنشئ الحساب على الـ "Goodreads"، كنت متشدّدًا في موقفي من الموقع؛ تقييم النجوم السخيف هذا للكُتب شيء غير منطقيّ أبدًا، أمّا العالم على ما يبدو فمنهمك في فكرة التصنيف المُرفَق بالتقييم، وهو ما يبدو أنّه امتداد لنهم البشر غير القابل للإشباع وللسيطرة، هذا الوهم الّذي لا يمكن أن يكون بالمُطلق ممكنًا.

العزيز إميل سيوران يكتب شيئًا قد يبدو ساذجًا في سرعة استنتاجه، لكنّ فيه بعض الحقيقة: "كتبي، أعمالي: يا لبشاعة الحديث عن العمل الأدبيّ بصيغة الملكيّة! فسد كلّ شيء بمجرّد أن كفّ الأدب عن أن يكون مجهولًا. يمكننا أن نؤرّخ للانحطاط بظهور المؤلِّف الأوّل". لكنّ فيه بعض الحقيقة؛ القراءة ممارسة خاصّة جدًّا، خاصّة قدرما الكتابة نفسها ممارسة خاصّة جدًّا. وفي الواقع، أشعر ببعض العجز عن التعبير أو الوصف لإشكاليّتي مع موقع الـ "Goodreads"، أو الإشكاليّات الّتي خلقها لي في بضعة أسابيع فقط.

 

كيف أقيّم شخصًا مثل دوستويفسكي؟

في البداية قلت لنفسي: فليكن، لن أقيّم إلّا الكتب الّتي أراها عبقريّة بالمُطلق، ولن أقيّمها إلّا بنجمات خمس. وهكذا كان؛ قيّمت حقًّا ما يزيد على 60 كتابًا. لكنّي لاحقًا أدركت فداحة الموقف؛ إذ لا يمكن شخصًا مثلي إلّا أن يحبّ كتابًا بطريقة غير معقولة. لا أتذكّر أنّي قرأت كتابًا لم أجد فيه ما يستحقّ أن يوصف بالعبقريّة المطلقة، وإن لم أجد مثل هذه العبقريّة كنت أخترعها اختراعًا.

لا يمكنني ببساطة أن أُقيّم رواية مثل "الإخوة كارامازوف" أو "الشياطين" لدوستويفسكي، أو "موبي ديك" لهيرمان ميلفل، أو "غير مرئيّ" لبول أوستر، أو "مئة عام من العزلة" و"الحبّ في زمن الكوليرا" لماركيز، أو أيّ رواية أخرى عبقريّة، استثنائيّة، رواية جعلت منّي قارئًا أفضل، جعلت منّي كاتبًا أفضل، رواية جعلتني أُعيد تعريف معنى الرواية، دفعتني لأعيد التفكير في كيفيّة إعادة تعريف معنى الرواية؛ لا يمكن، فقط لا يمكن، أن تُقيَّم.

ليس على المؤلّف أن يكون مجهولًا، كما يبالغ العزيز سيوران، لكن عليه أن يكون بعيدًا، عليه أن يكون خيالًا، عليه أن يكون شخصيّة غامضة، تُكتشَف مع مرور الوقت، مع قراءة كتاب جديد، رواية جديدة نسيت أن تقرأها لمؤلّف ظننت أنّك قرأت أعماله كلّها

لا يمكنني أن أجيء بعد مئة عام على كتابة "الإخوة كارمازوف"، وأنا الّذي كنت أتخيّل دوستويفسكي يكتبها في غرفة مظلمة أمام شمعة فقيرة كغرفته، أو "الشياطين" الّتي كتبها وهو تحت مطرقة الديون، وعرقه البارد يسيل وهو يحاول أن يوازن بين حاجته المادّيّة المُلحّة للانتهاء من العمل وبين رغبته في الكمال، بالدقّة، بالكثافة، بالوصف البطيء، بالعيش الطويل في نفوس شخصيّاته... لا يمكن، فقط لا يمكن، أن أُحدّد دوستويفسكي على شاشة اللابتوب، وأمنحه خمس نجمات وابتسامة بلهاء ترتسم على وجهي.

ليس على المؤلّف أن يكون مجهولًا، كما يبالغ العزيز سيوران، لكن عليه أن يكون بعيدًا، عليه أن يكون خيالًا، عليه أن يكون شخصيّة غامضة، تُكتشَف مع مرور الوقت، مع قراءة كتاب جديد، رواية جديدة نسيت أن تقرأها لمؤلّف ظننت أنّك قرأت أعماله كلّها، وتشعر بالحاجة بعد قراءتها إلى إعادة قراءة أعماله كلّها مرّة أخرى، وهكذا مرّة أخرى، تبدأ بالقراءة كأنّك لتوّك عرفت المؤلّف، كأنّك لتوّك قرأت الرواية ولم تقرأها من قبل مرّات ومرّات.

 

كتب "تُقرأ عادةً"

الـ "Goodreads" موقع لا يَصلح لكلّ قارئ؛ كتبتُ مثلًا مراجعة على الموقع لـ "يوميّات كافكا"، قلتُ إنّني لا أكتب مراجعة لـ "يوميّات كافكا"، بل أكتب ما يمكن أن يوصف بإشكاليّة بما يتعلّق بتصنيف حالة كتب مثل "يوميّات كافكا"، وشعر درويش، وشعر المتنبّي، والمعرّي، ورسائل دوستويفسكي، ورسائل تولستوي، و"هكذا تكلّم زرادشت"، وكتب أخرى كثيرة توضع عادة في مكان في المتناول دائمًا، عادةً تُقرأ يوميًّا، أو تُسمَع، أو يُسترَق النظر إليها مرّة كلّ يومين، كلّ ثلاثة، كلّ أسبوع. من غير الممكن تصنيف كتاب كهذا بأنّه قُرِئ، أو حاليًّا يُقرَأ، يمكن تصنيفه كتابًا يُقرَأ عادة، أو كتابًا مُلازمًا. هذي كتب ونصوص، وحتّى روايات لا تُقرَأ مرّة واحدة، ولا ألف مرّة، بل توجد لتوضع في المتناول دائمًا، في الترحال، وتُسمَع في الانتظار، في الليل، في الصباح، عند الشعور باللاجدوى، عند الشعور بالفزع، عند الشعور بالحاجة إلى صديق غير موجود، ولا يمكن أن يوجد لأنّه أصلًا موجود في كتاب، وهذي إحدى مشاكل الـ "Goodreads" والتكنولوجيا عمومًا؛ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تعبّر عن الحياة الداخليّة الخاصّة لأيّ قارئ.

وربّما يكون أسوأ ما قد يفعله أيّ قارئ بنفسه، محاولة فرض هذا الموقع على نفسه؛ لكلّ قارئ عاداته، ومن عاداتي على ما يبدو أن لا أتصالح مع التكنولوجيا أبدًا.

 

لعنة الزمن الإلكترونيّ

على ما يبدو، لقد اخترتُ في النهاية أن أكتب عن شيء، وألّا أكتب عن أشياء أخرى كثيرة؛ عن "آليّات التقدير والإعجاب" المضمرة في سياق الموقع، عن حالة التوهّم الّتي يعيشها المُسْتَخْدِم – وأجل، استعملتُ مصطلح مستخدم بدلًا من قارئ – جرّاء قدرته على التقييم أيًّا يكن، حيًّا كان أو ميتًا، عبقريًّا كان أو أحمق، عن معنى أن تملك عشرة آلاف مُتابع أو مئة ألف، وتَجرّهم وراءك إلى كلّ كتاب جديد تكتبه، عن بضعة أسابيع لـ "Goodreads"، انتهت بطلاق فوريّ، فالآثار الإلكترونيّة القليلة جدًّا، الّتي تركتها في الأسابيع القليلة كانت تطاردني في كلّ لحظة من حياتي؛ أنا هناك وأنا هنا في الآن ذاته.

استعملتُ مصطلح مستخدم بدلًا من قارئ – جرّاء قدرته على التقييم أيًّا يكن، حيًّا كان أو ميتًا، عبقريًّا كان أو أحمق، عن معنى أن تملك عشرة آلاف مُتابع أو مئة ألف، وتَجرّهم وراءك إلى كلّ كتاب جديد تكتبه...

علاقتي بالكتاب إشكاليّة، مع القصيدة إشكاليّة؛ سأقرأ "لاعب النرد" لدرويش في الساعة الواحدة ليلًا، وأدخّن سيجارة وأشعر بأنّي على مقربة من القصيدة، وفي الواحدة ظهرًا لمّا تطالعني الشمس بلعنة الوجود البشريّ وإشكاليّاته اللانهائيّة، لن أحتمل درويش؛ الإعجاب والتقدير حالة عقليّة نفسيّة في المقام الأوّل، سأحتمل القصيدة ليلًا، ثمّ لا أحتملها عامًا كاملًا، حرّيّتي فوضاي، على حدّ تعبير درويش، وتعجبني الرواية الآن، وربّما أتذكّرها بنفور بعد عام أو أقل، حرّيّتي فوضاي مرّة أخرى.

لكنّ القصيدة والرواية والديوان، مرتّبات إلكترونيًّا هناك، ممسوكات بلعنة الزمن الإلكترونيّ هناك، بينما في غرفتي مبعثرات، ثمّ هنالك القصيدة نفسها، "يوميّات كافكا" ورسائله إلى ميلينيا وفيليس. تلك كتب أقرؤها على مهل إلى أن أموت، تلك كتب لا يمكنني أن أقول: قرأتها، لا، لم أقرأها حقيقةً، بل كانت معي طوال الوقت، القصيدة كانت معي طوال الوقت، الرواية كانت تُعاودني بين الحين والآخر، الفكرة الفلسفيّة كانت تُنقذني يومًا من الانتحار ويومًا آخر تدفعني إليه، ولا يمكن، فقط لا يمكن، أن أُقيّمها بـخمس نجمات تافهات.

 

 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة بيرزيت، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة في الجامعة نفسها. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما.