31/10/2010 - 11:02

ماكريستال.. افتضاح الإخفاق../ بسام الهلسه

ماكريستال.. افتضاح الإخفاق../ بسام الهلسه

*بقبوله استقالة –والأصح إقالة- الجنرال ستانلي ماكريستال، قائد القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي العاملة في أفغانستان، يكون الرئيس الاميركي باراك اوباما قد اختار أهون الشرين: التضحية بضابطه المشاكس، أو التضحية بمكانته وسمعته كرئيس قادر على إدارة من يعملون بامرته وضبطهم عند الضرورة.

وما كان له ان يتردد في الاختيار وهو على عتبات انتخابات الكونغرس القادمة التي يتوعده الجمهوريون بحسمها لصالحهم، ويركزون بشكل خاص في حملاتهم الدعائية على ضعف الرئيس اوباما وفشل استراتيجياته في التصدي "للإرهاب"، وفي الحفاظ على مكانة اميركا القيادية في العالم.

* * *
لكن إقالة ماكريستال ليست سوى تسوية جزئية لتهدئة غضب كبار المسؤولين الأميركيين الذين طالتهم انتقاداته اللاذعة التي أدلى بها لمجلة "رولينغ ستون"، ورأوا فيها فضيحة مدوية لهم على الملأ، وخروجا للعسكر على تقاليد الانضباط والطاعة الواجبة للمسؤولين السياسيين المدنيين.

ولأن أوباما يدرك الأثر الذي ستحدثه اقالة قائد كبير مثل ماكريستال في أوساط المنافسين والحلفاء والأعداء، والاستنتاجات التي ستتولد لديهم، وبخاصة بصدد تقييم الوضع في أفغانستان، فقد سعى الى التخفيف من وقع القرار بتعيين قائد معروف جيداً بدلا من ماكريستال، هو الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القيادة المركزية، مع التوضيح والتأكيد على أن تغيير القادة لا يعني تغيير الاستراتيجية المعتمدة في افغانستان.

* * *
لكن هذه الأقوال لا تبدو مطمئنة بقدر ما تثير من القلق:
قلق الرأي العام الأميركي، وقلق شركاء أميركا في الحرب.
فقد سبق وأن قيل كلامٌ وتأكيدات مشابهة عند تعيين الجنرال ماكريستال نفسه لقيادة القوات في أفغانستان في حزيران- يونيو-2009، اي قبل عام بالضبط، خلفاً للقائد السابق الجنرال ديفيد ماكيرنان، الذي عُزيت إقالته حينها لفشل الاستراتيجية التقليدية التي يتبعها في مواجهة "العدو" في أفغانستان، وكان الجنرال ماكريستال أحد ابرز نقادها، فيما كيل المديح لماكريستال وجرى الاحتفاء به وبالاستراتيجية الجديدة التي
التي قيل وقتها بأنها ستأتي بالنصر، إلى الدرجة التي أغرت اوباما بتحديد موعد لبدء انسحاب تدريجي من افغانستان بحلول منتصف صيف العام القادم 2011!

* * *
توالت الايام والأسابيع والشهور ثقيلة، ومضت منذ حزيران-يونيو الماضي، دون أن تتمكن القوات الأميركية من تقديم ما يسمح لها بالزعم بأنها حققت ما هو جدير بمسمى النصر، والموارد والجهود والاجراءات التي بذلت طوال سنة: (عشرات الآلاف من الجنود الجدد الذين ارسلوا لساحة الحرب، الأموال الإضافية التي تم ضخها لرشوة فئات افغانية وشراء تعاونها او سكوتها، مجالس "لويا جيرغا" السلام، الزيادة الهائلة في عدد وعدة منتسبي أجهزة الجيش والأمن الأفغانية، التعاون مع الحكومة والجيش الباكستاني في المواجهة، والاستراتيجية العسكرية الجديدة القائمة على الزحف البري والاستيلاء على معاقل المقاومة الأفغانية، بدل الاستراتيجية السابقة التي اعتمدت على القصف الجوي)، بدا وكأنها بلا طائل، تراوح عاجزة عن إحراز تقدم جدي على طريق الاهداف المحددة: تشتيت وتدمير "قوى التمرد"- اي المقاومة الأفغانية-، مع العمل على مساومة قياداتها تحت ضغط النار بأمل تطويعها للقبول بالمشاركة في الحكومة تحت سلطة الاحتلال. السعي الى عزل الشعب الافغاني وابعاده عن تأييد المقاومة وتوفير المدد والحاضنة لها، ومحاولة كسب فئات منه على طريقة " صحوات القبائل" واللعب على موضوع الاثنيات والمناطق كما جرى في العراق. تعزيز الحكومة والجيش والأمن الأفغاني، بما يسمح بتقليل الحاجة تدريجياً للجهد الاميركي والاطلسي.

* * *
حصاد هذه الجهود كان التأزم، والمزيد من الخسائر والنفقات، ليس بسبب افتقاد الارادة لدى أميركا، ولا بسبب نقص كفاءة القادة او الوسائل، بل بسبب رفض اغلبية الشعب الافغاني للاحتلال وأدواته، ونجاح مقاومته في استيعاب الاستراتيجية الجديدة وصدها بفاعلية ملحوظة.

والتأزم في الوضع بنتجة الإخفاق في الميدان، هو ما دفع بالجنرال ماكريستال ومساعديه الى الاحباط والسخط الذي افصح عنه الحديث لمجلة "رولنغ ستون". فما كان لقائد آمر من مستوى ماكريستال أن يغامر بسمعته ومركزه الوظيفي المتقدم لو ان الأمور تسير على ما يرام، وكان سيتجاوز عن الانتقادات التي أعلنها، أو أبقاها ضمن إطار المراتب الهيكلية، لو أن الأوضاع حسنة أو حتى محتملة. كان لديه ما يحرص عليه ويضيفه لسجله المهني ويباهي به.. فقط لو كان ثمة ما يَعِد بالتحسن!

يدل على هذا حديثه للصحفيين الذين التقاهم في مقر حلف شمال الاطلسي في بروكسل في 10-6 الماضي، بعد لقائه مع وزراء دفاع الحلف الذين اجتمعوا لتقييم الوضع في أفغانستان واستمعوا لتقديره للموقف بعد سنة من مباشرة الاستراتيجية الجديدة. فرغم رغبته في إسماع المتسائلين ما يرضيهم، إلا أن ما أمكن تعداده من انجازات، بدا ضئيلاً امام الادعاءات التي روجت، والأمر الأهم أنه لم يصادق على وعد قريب بالنصر والانسحاب، وهو ما يعني الاستمرار في الحرب الدائرة في بلاد بعيدة وتحت سماء غريبة دونما افق منظور بنهاية مرتقبة. وكذا الاستمرار في صرف نفقات جديدة باهظة في ظل ازمة مالية واقتصادية تتفاقم يوماً بعد يوم، وتزداد مع تفاقمها اعداد الناقمين.

هذا التقدير للموقف على الأرض هو النقيض لما يدعيه أوباما وفريقه المنهمك في إطلاق وعود لا أقدام لها، تماماً كوعود سلفه جورج بوش الابن، ومن قبلها وعود الرئيس جونسون الذي كان يغرٍق أميركا في فييتنام أكثر كلما ادعى انها تقترب من النصر!

* * *
لم يكن امام ماكريستال إذا، سوى النجاء بنفسه والتنصل من الاخفاق الذي يراه ويعاينه بناظريه، فألقى بقنبلته الانتقادية التي دوت في واشنطن.

أما اوباما الذي وجد نفسه وقد افتضح، فلم يكن أمامه أن يفعل سوى ما فعل: إقالة ماكريستال، والدفع بأفضل خيوله الى الميدان الافغاني: الجنرال بترايوس، مؤملاً منه أن يسترد ثقة الأمة الاميركية القلقة، والشركاء المنزعجين الذين بدأوا ينسلون مما تورطوا فيه وعلقوا.

لكن الصراع في أفغانستان، لا يتقرر بإرادة واشنطن وقادتها واستراتيجياتها المتعددة المتعثرة منذ تسع سنوات، بل بالشعب الافغاني.. بعزيمته، وبمقاومته التي لا تحتاج إلا للصمود لسنوات قليلة حتى تقنع الولايات المتحدة بما سبق للمقاومة الفييتنامية وأن اقنعتها به.

التعليقات