15/05/2020 - 17:16

النكبة ليست وليدة حرب عام 1948

نكبة حرب عام 1948 ليست مستقلة عن النكبات الفلسطينية اللاحقة، وبخاصة احتلال باقي فلسطين عام 1967، تكثيف الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وخلق واقع أبرتهايد إسرائيلي بين النهر والبحر، ولا ننسَ بالطبع المجازر التي ارتكبها "إخواننا العرب" بحق الفلسطينيين

النكبة ليست وليدة حرب عام 1948

مصطلح "النكبة" ليس وليد حرب عام 1948، ذلك لأن فلسطين كانت "منكوبة" منذ زمن طويل، الأمر الذي يعني أن ما جرى في عام 1948 ما هو إلا حلقة في مسلسل نكبات متواصل. وكان الشاعر المصري أحمد محرم قد أطلق هذا المصطلح في عام 1933، ضمن قصيدة طويلة بعنوان "نكبة فلسطين"، والقصيدة تبكي وجع فلسطين، وتحث العرب على نصرتها. ففي البيت العشرين يذكر الشاعر النكبة، فيقول:

يا فلسطينُ اصطليها نكبةً - هاجها للقومِ عَهْدٌ مُضطرِمْ

وفي بيت آخر يشير إلى النكبات المتتالية، فيقول:

فكأَنَّا منهما في مُلتَقى - نكبةٍ تَطغَى، وأُخرى تَسْتَجِمْ

والنكبة الفلسطينية هي عملية تطهير عرقي، مخططة ومتواصلة. بدأ تخطيطها في أواخر القرن التاسع عشر من قبل المنظمة الصهيونية، بدعم بعض الدول الأوروبية الإمبريالية وبخاصة بريطانيا، ولا تزال مستمرة إلى اليوم.

بدء المشروع الصهيوني في استعمار فلسطين في أواخر العهد العثماني. وقد ساعد على ذلك ضعف الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر (الرجل المريض)، وتغلغل الدول الغربية في أراضي الدولة العثمانية، وبشكل خاص في فلسطين (فتح قنصليات في القدس، تملك تلك الدول ومواطنيها أراضي في فلسطين، وانتقال قسم كبير من تلك الأراضي لاحقا إلى اليهود). لم تستطع الدولة العثمانية إيقاف المشروع الصهيوني (المتمثل بالأساس بهجرة اليهود إلى فلسطين، وشراء أراضي وبناء مستوطنات عليها) رغم معارضتها العلنية له. ولذلك وصل عدد المهاجرين اليهود (من دول شرقي أوروبا وروسيا) إلى فلسطين في الفترة (1882 - 1917) نحو 80 ألف مهاجر، وعدد المستوطنات اليهودية نحو 40 مستوطنة، وعدد سكان هذه المستوطنات نحو 12 ألف مستوطن.

تعزز الاستعمار الصهيوني لفلسطين في عهد الاحتلال (أو الانتداب) البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى؛ فقد تبنّت بريطانيا المشروع الصهيوني في فلسطين، وانعكس ذلك في وعد بلفور عام 1917 الذي جاء فيه: "إن حكومة جلالته تنظر بعين الارتياح لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، والذي لن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين". كما نصّ صك الانتداب، المُقر من قبل عصبة الأمم عام 1923، على التزام حكومة الانتداب بإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وقد تعاونت حكومة الانتداب مع المؤسسات اليهودية، وبخاصة المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية، لإقامة الوطن القومي اليهودي. كما وظفت بريطانيا في فلسطين ضباطًا عسكريين وموظفين إداريين بريطانيين يؤيدون الصهيونية، ويدعمون إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين. وتُوِّج ذلك بتعيين البريطاني الصهيوني، هربرت صموئيل، مندوبًا ساميًا على فلسطين، إذ قال قبل قدومه إلى فلسطين: "أنا ذاهب إلى فلسطين لتنفيذ الأوامر المتعلقة بتحقيق مشروع دولتي، بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين".

في ظل ذلك، تعزز بشكل كبير الاستعمار الصهيوني في فلسطين في عهد الانتداب؛ فقد زادت نسبة اليهود من مجموع السكان في فلسطين من حوالي 10 في المئة في بداية الانتداب (1923) إلى نحو 35 في المئة في نهايته (1948)، وذلك بالأساس بفضل الهجرة اليهودية المكثفة. وزادت نسبة الأراضي التي امتلكها يهود من حوالي 2 في المئة من مجموع أراضي فلسطين إلى حوالي 7 في المئة. وزاد عدد المستوطنات (أو المستعمرات) اليهودية من نحو 50 مستوطنة إلى قرابة 300 مستوطنة.

واستنادًا إلى دعم بريطانيا وحكومة الانتداب بشكل كامل للمشروع الصهيوني في فلسطين، وفي ظل الفجوة الكبيرة في التطور الاقتصادي والسياسي والتعليمي بين العرب واليهود في فلسطين، ونتيجة عوامل أخرى، فإن حصيلة حرب عام 1948 كانت متوقعة بل وطبيعية أيضًا. فقد نتج عن تلك الحرب تدمير أكثر من 500 قرية عربية، وتهجير أكثر من ثلاثة أرباع مليون فلسطيني، وتشتيتهم بين الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، والسيطرة على أملاك وأراضي المهجَّرين.

ارتكاب العصابات الصهيونية نحو 70 مجزرة لإرغام السكان العرب على ترك بيوتهم وأملاكهم وقراهم، وليس أقل أهمية تحطيم البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمع العربي الفلسطيني بشكل عام. صحيح إن هذه النتائج لحرب عام 1948 هي نكبة وكارثة يصعب تخيلها، لكنها لم تكن مستقلة عن النكبات التي سبقتها (هجرة مئات آلاف اليهود إلى فلسطين، احتلالهم الأرض وبناء مستوطنات كولونيالية عليها، تشريد عشرات آلاف الفلاحين العرب بعد بيع أراضيهم من قبل إقطاعيين، مطاردة العمال العرب من المنشئات والمصانع اليهودية وإلخ...). كذلك فإن نكبة حرب عام 1948 ليست مستقلة عن النكبات الفلسطينية اللاحقة، وبخاصة احتلال باقي فلسطين عام 1967، تكثيف الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وخلق واقع أبرتهايد إسرائيلي بين النهر والبحر، ولا ننسَ بالطبع المجازر التي ارتكبها "إخواننا العرب" بحق الفلسطينيين ولا "صفقة القرن" وحملة التطبيع العربي المشينة المرافقة لها.

وباختصار، أقول إن نكبة 1948 هي حلقة واحدة في مسلسل النكبات الفلسطينية المتلاحقة. لعلنا نتذكر، ولا نغفر.


أ.د. محمود ميعاري، كاتب وباحث من الجليل

التعليقات