15/01/2023 - 14:11

"نفسي فيه وتفو عليه"

المعركة مع الفاشية ما زالت في بدايتها، ويجب على من يريدون التصدي لها بجدّية أن يجدوا المعادلة الصحيحة لتجميع القوى المتصدية لها، وهذا يشمل العرب، ولكنك لا تستطيع تجييش العرب ضد قانون واحد وتتجاهل قضاياهم الجوهرية الأخرى.

مظاهرة عربية ضد "قانون القومية" بتل أبيب (أرشيف عرب 48)

لم يترك مثلنا الشعبي الفلسطيني موضوعًا إلا وطرقه، وأعتقد أن الخُطب والبيانات لم ترتق حتى الآن في تعبيراتها المختلفة إلى المستوى الذي بلغه المثل الشعبي المستوحى من الحياة اليومية والواقعية للناس.

قوّة المثل هو أنه يختصر مواقف كبيرة ومعقدة ببضع كلمات، فيغني عن خطبة وبيان ومن دون ديباجات ومقدّمات وتفسيرات، ويصل إلى المتلقي جاهزًا فيستوعب الموقف بسرعة.

كلما كانت هذه الأمثال أكثر ومتداولة أكثر، دلّ هذا على عراقة الشّعب وأصالته وغناه الثقافي.

يقول مثلنا "نفسي فيه وتفو عليه"، المثل الذي يعني رغبتك بالشيء، ولكن لسبب ما تشمئز منه. وهناك مثل شعبي أكثر بلاغة عن "الكَلْبة والعودة".

هذا الشرح مقدمة إلى مظاهرة تل أبيب، أمس السبت، والتي دعيت فيها الجماهير العربية إلى المشاركة في مواجهة سيطرة اليمين المتطرف على المحكمة العليا وتقويض القضاء، الأمر الذي يعني تحوّل النظام في خطوة عملاقة إلى الدكتاتورية. ويذكر المشاركون أن العرب كانوا قلة قليلة، علمًا أن أمرًا كهذا يهمهم جدًا، فقد تحوّلت معظم قضاياهم إلى الدرجة العليا. المشكلة مع من يريدون مشاركة العرب هي طلبهم بألا يرفعوا العلم الفلسطيني، لأن رفع العلم الفلسطيني يؤدي إلى حساسية وأوجاع لدى جزء كبير من المتظاهرين، ويذكِّرهم بحوادث أليمة!

كثيرون يرونه علم العدو الذي يجب تغييبه، ومحوه من الوجود، لأن منح شرعية للعلم له إسقاطات وتداعيات، تعني وجود شعب آخر له رموزه وشخصيته القومية وحقوقه، وهو ما تحاول أجيال من الحكومات الإسرائيلية إلغاءه وتجاهله. إلى جانب هذا، هناك قلة ترى فيه علم شعب ينشد الحرية وليس علم العدو، بل الشعب الذي لا مناص من التعايش معه تحت السماء وفي الأرض نفسها.

مشكلة العرب ليست في المحكمة العليا فقط، والتي قد تتحول إلى أداة في خدمة الفاشية، فالعنصرية متجذّرة وباتت جزءًا من حياة العرب اليومية، وما يخاف جزء من اليهود منه اليوم، يعيشه العرب منذ عقود.

هناك فارق كبير بين أن تكون مشكلتك مع صلاحيات المحكمة العليا فقط، وبين أن تكون مشكلتك مع مجرد وجودك في وطنك واستمرارك في العيش فيه بكرامة واحترام لخصوصيتك وحقوقك القومية والمدنية، وكونك جزءًا من شعب يعاني محنة طويلة، هي أم كل القضايا.

ولهذا يتحسّس المتحسّسون من العلم الفلسطيني لأنه يقول لهم بأن لب القضية والصراع هناك، وهو الأساس الذي يجب حلّه.

وجود العلم يعني وجود قوميتين في هذه البلاد، ومن يرفع العلم الفلسطيني يريدها دولة لجميع المواطنين وليس لطرف واحد فقط، وهذا ما ترفضه جهات عريضة مما يسمى وسط ويسار ويمين ليبرالي.

المعركة مع الفاشية ما زالت في بدايتها، ويجب على من يريدون التصدي لها بجدّية أن يجدوا المعادلة الصحيحة لتجميع القوى المتصدية لها، وهذا يشمل العرب، ولكنك لا تستطيع تجييش العرب ضد قانون واحد وتتجاهل قضاياهم الجوهرية الأخرى.

هنالك عرب طلبوا من العرب أن يشاركوا، ولكن ألا يرفعوا العلم الفلسطيني، وبعد ذلك اذهبوا وارفعوا العلم في قراكم ومدنكم وليس في تل أبيب.

هذا يحوِّل العلم أو أي رمز فلسطيني كالكوفية مثلا، إلى مادة خطيرة عدائية، وحصر رفعها في القرى والمدن العربية يجعلها مادة للتحريض ضد العرب كأنها أسلحة ممنوعة! في الوقت الذي نحتاج فيه إلى "شرعية" أيضًا من المجتمع اليهودي، كي يذوّت في نهاية الأمر وجود الشعب الآخر إلى جانبه في هذه البلاد وليس مجرّد مواطنين بلا معالم واضحة.

قد تجد بضعة آلاف من العرب يتقبّلون هذه المعادلة، من منطلق التعامل مع القضايا الآنية والملحّة وترك القضايا الأساسية كي لا نستفز الطرف الآخر. ولكن الشعور العام لدى العرب هو نفس شعور "نفسي فيه وتفوه عليه"، وهذا سبب نأيهم عن المشاركة.

سيبقى المعسكر المواجه للفاشية ضعيفًا ما لم يعترف كل طرف بحق الآخر في التعبير عن مشاعره القومية والوطنية بثقافته ورموزه وتاريخه، وفي هذه الحالة يتحمل الطرف الأقوى المسؤولية التاريخية.

لا تحاولوا أن تجعلوا من العرب الصادقين في مواجهة الفاشية مثل "حمار العُرس" الذي ليس له من العرس سوى التعب، بأن يحمل على ظهره الحطب والماء ثم يُنسى، وينبذ ويبعد عن ساحة الفرح.

التعليقات