31/01/2022 - 11:33

وثائق تاريخية تكشف عملية عسكرية لتهجير بدو النقب

بعد هدم قرية العراقيب مسلوبة الاعتراف في النقب للمرة 197 في السنوات الأخيرة، تكشف وثائق تاريخية، الآن، عن العملية العسكرية قادها موشيه ديّان، بداية الخمسينيات بهدف طردهم خارج البلاد، وأرفقت الوثائق بدعوى أهالي القرية بالمحكمة

وثائق تاريخية تكشف عملية عسكرية لتهجير بدو النقب

شيخ العراقيب، صيّاح الطوري، في أعقاب عملية هدم (أرشيف أ ف ب)

تصف النيابة العامة الإسرائيلية دعوى قضائية قدمها سكان قرية العراقيب مسلوبة الاعتراف في النقب، بأنها "ملف إستراتيجي قومي"، وفق تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" اليوم، الإثنين. والاعتقاد السائد في النيابة العامة هو أن "انتصارها" في هذا الملف سيؤدي إلى نهاية دعاوى ملكية البدو للأراضي التي عاشوا فيها مئات السنين في النقب، قبل قيام إسرائيل. ويعتبرون أن هذا سيكون الملف الأخير في هذه القضية.

وقدم المواطنون البدو في النقب العديد من دعاوى ملكيتهم على أراضيهم، خلال العقود الماضية، ورفضتها المحاكم الإسرائيلية. وتصف النيابة العامة دعوى العراقيب الحالية بأنها "إستراتيجية قومية"، إثر إرفاق تقرير بها، عبارة عن دراسة عميقة، أعدها الناشط السياسي التقدمي والمحاضر في قسم التاريخ في جامعة تل أبيب، بروفيسور غادي إلغازي.

ويكشف إلغازي في دراسته عن عملية عسكرية قادها قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، موشيه ديّان، هدفها وفقا لوثائق إسرائيلية، انتزاع الأراضي من البدو بالقوة. وكتب ديان في رسالة، عثر عليها إلغازي، أن "نقل البدو إلى مناطق جديدة سيُلغي حقهم كأصحاب الأرض وسيتحولوا إلى مستأجرين لأراضي الدولة".

وتحدثت وثيقة أخرى للحكم العسكري عن رفض البدو الانتقال من أراضيهم، وأنه إذا لم "ينتقلوا طواعية" فإن الجيش "سيضطر إلى نقلهم"، أي نقلهم بالقوة. وأشارت الصحيفة إلى أنه حتى لو رفضت المحكمة دعوى أهالي العراقيب، فإنه ما زال هناك احتمالا أن تتحول المواد التاريخية المرفقة بالدعوى إلى سابقة قضائية، مع تبعات أكبر بكثير من اعتراف محتمل بقرية واحدة.

قوات الشرطة تهدم العراقيب في آب/أغسطس الماضي

وهدمت السلطات الإسرائيلية العراقيب 197 مرة حتى اليوم، وفي كل مرة كان أهلها يعودون إليها. وقصة العراقيب تروي، عمليا، قصة القرى العربية في النقب، التي تمتد على عشرات آلاف الدونمات، لكن السلطات الإسرائيلية ترفض الاعتراف بها.

وتزعم الدولة أن البدو غادروا أراضيهم خلال حرب العام 1948، ولم يعودوا إليها، وصادرتها الدولة. ورسخت الدولة هذه المزاعم بسن "قانون شراء الأراضي"، في العام 1953، الذي ينص على أن هذه الأراضي المصادرة انتقلت ملكية الدولة إذا لم يعود أصحابها البدو، الذين يتواجدون في البلاد، في الفترة بين 15 أيار/مايو العام 1948 والأول من نيسان/أبريل العام 1952. وادعى القانون أنه في تلك الفترة صودرت الأراضي من أجل "احتياجات تطوير حيوية"، وما زالت توصف كذلك حتى اليوم. وتأتي دعاوى عرب النقب لاسترجاع قسم من أراضيهم لأن السلطات لم تستخدم 66 ألف دونم من الأراضي التي صادرتها منهم بمساحة 247 ألف دونم.

وتؤكد الدعوى أن مصادرة الأراضي جرت بصورة غير قانونية. فهناك شهادات كثيرة على طرد البدو من أراضيهم بالقوة، ودراسة إلغازي الآن تؤكد أن الحديث لا يدور عن شهادات وحسب وإنما يثبت من خلال الوثائق الإسرائيلية، بأن الدولة وضعت مخططا لتهجير السكان والاستيلاء على أراضيهم.

وجاء في تصريح مشفوع بالقسم تم تقديمه إلى المحكمة، أن البدو كانوا يزرعون أراضيهم "بالحنطة، الشعير، الذرة، على سبيل المثال. وتواجدت بهائم فيها، بينها الجمال والخيول والحمير والخراف. وكانوا يبيعون منتجاتهم في بئر السبع".

ديان: "آمل بإمكانية أخرى لتنفيذ الترانسفير"

يكشف إلغازي في دراسته، لأول مرة، عن العملية العسكرية التي قادها ديان، في تشرين الثاني/نوفمبر العام 1951، لطرد البدو من أراضيهم ونقلهم إلى منطقة أخرى في النقب، بمصادقة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، يغآل يادين. وقال إلغازي إن "الدراسة تثبت حدوث ما نفاه (رئيس الحكومة حينذاك) دافيد بن غوريون، بأنه تم تنفيذ نقل منظم لمواطنين بدو من شمال غرب النقب شرقا، وإلى مناطق مقفرة، بهدف السيطرة على أراضيهم. وحدث ذلك بمزيج من التهديدات، العنف، الرشوة والاحتيال".

ديان وبن غوريون، عام 1953 (مكتب الصحافة الحكومي)

وأضاف إلغازي أن الدراسة تبين كيفية سير العملية العسكرية، وأيضا من خلال قصاصات ورق تبادلها ضباط الحكم العسكري الذي نفذوها فيما بينهم، وأن الضباط الكبار كانوا يعلمون أن هذه عملية عسكرية غير قانونية. ولذلك، كانت هناك أهمية لتسليم البدو أوامر "انتقال" خطية.

وأشار إلغازي إلى حقائق أخرى، بينها "معارضة البدو واحتجاجاتهم، وإصرارهم على محاولة التمسك بأراضيهم، حتى بثمن الجوع والعطش، إلى جانب تهديدات وعنف الجيش". وأضاف أنه "بالإمكان أن نرى كيف تم منع النشر وتنظيف التقارير مرحلة بعد أخرى إلى حين المصادقة على الصيغة التي بموجبها انتقل البدو ’طواعية’".

بروفيسور غادي إلغازي

وأفاد إلغازي، وهو ناشط في نظال المواطنين البدو، بأنه بدأ دراسته في أرشيفات وزارة الأمن والكيبوتسات في النقب. "وجدت ثراء (الوثائق) في أرشيفات الكيبوتسات، ووجدت نفسي أحيانا مع أرشيفات تحتاج إلى جهد سنوات من أجل تجميع وترتيب المواد. وأحيانا تم إرسالي للبحث في خزانة قديمة. ولم أتخيل أن هذا الأمر سيتحول تدريجيا إلى دراسة تُشغلني ثماني سنوات".

وعثر على رسالة بعثها ديان إلى هيئة الأركان العامة للجيش، في 25 أيلول/سبتمبر العام 1951. وكتب فيها أنه "بالإمكان الآن نقل معظم البدو المتواجدين قرب (كيبوتس) شوفال إلى أراض جنوبي شارع الخليل – بئر السبع. وبذلك، سيتم إخلاء 60 ألف دونم كي نزرعها ونقيم بلدات. وبعد هذا النقل لن يكون هناك بدو شمالي شارع الخليل – بئر السبع".

واعتبر ديان في رساله أن "نقل البدو إلى أراض جديدة سيلغي حقهم كأصحاب الأرض وسيكونوا مستأجرين لأراضي الحكومة". وقال ديان قبل ذلك بسنة، خلال اجتماع لحزب مباي الحاكم، في حزيران/يونيو العام 1950، إنه "يجب أن تكون سياسة الحزب موجهة بحيث نرى هذا الجمهور، 170 ألف عربي، كأنه لم يتم بعد حسم مصيرهم. وآمل أن تتوفر في السنوات القريبة إمكانية أخرى لتنفيذ ترانسفير (طرد) لهؤلاء العرب من أرض إسرائيل". وبعد سنة نفذ هذه السياسة في النقب، إلا أن المواطنين البدو بقوا في البلاد.

وقال إلغازي إنه لم يكن سهلا العثور على رسالة ديان. ففي تشرين الثاني/نوفمبر العام 2017، تم السماح بالاطلاع على ملف كبير، شمل مراسلات الحكم العسكرية في 1037 صفحة، بينها تقرير للحكم العسكري حول رفض البدو الانتقال من أراضيهم، وسؤال حول "ماذا يمكن أن نفعل كي ننفذ الهدف".

وأضاف كاتب التقرير، وهو القائم بأعمال حاكم النقب العسكري، موشيه بار-أون، أنه "تلقينا أوامر من قائد المنطقة الجنوبية (ديان) بأن نمارس ضغوطا على القبائل البدوية في المنطقة الشمالية من أجل نقلهم ولدرجة أنه في حال لم ينتقلوا طواعية، سيضطر الجيش إلى نقلهم".

البدو عادوا دائما إلى أراضيهم التي طُردوا منها

لا تزال الرقابة الإسرائيلية تُعتم على تفاصيل حول الضغوط التي مورست من أجل إرغام البدو على الانتقال من أراضيهم. ووصف تقرير للضابط ميشا هنغبي، من 21 تشرين الثاني/نوفمبر العام 1951، تسيير دورية بهدف "تسريع" انتقال البدو، وواجهت "معارضة شديدة من جانب سكان المكان لمغادرة أراضيهم"، وأنه فقد "بعد مفاوضات" تم تنفيذ الانتقال. إلا أن الرقابة شطبت عند هذه النقطة فقرة كاملة، يرجح أنها توضح كيف تم "إقناعهم".

ويوضح تصريح مشفوع بالقسم، لحسين إبراهيم حسين الطوري (80 عاما)، تم تقديمه إلى المحكمة قسم من الضغوط التي مارسها الجيش. "أذكر أن الجيش أمر عائلتي بمغادرة العراقيب والنزوح إلى الشمال. وقسم من الرجال الذين عارضوا الطرد اعتقلوا. وقيل لنا أن المنطقة مصادرة لعدة أشهر لاحتياجات عسكرية. وجاءت الشرطة العسكرية وكبّلت أصدقاءنا وطلبوا منهم الانتقال. فانتقلوا، لكنهم حاولوا العودة. وهذا لم ينتهِ بصورة حسنة. لقد اعتقلت، وعمي اعتقل، وجميعنا اعتقلنا. ندخل أراضينا ويأخذنا الجيش. يأخذوننا ليوم أو اثنين وبعد ذلك يحرروننا".

وجاء في تقرير وضعه حاكم النقب العسكري، ميخائيل هنغبي، أنه "بالرغم من القيود على استخدام القوة، جرت محاولات بموافقة قيادة المنطقة الجنوبية من أجل إرغامهم على الانتقال – فككت وحدة الحكم العسكري عدة خيام وحملتها على سيارات – وأصحاب الخيام لم يرحلوا ولم ينضموا إلى عائلاتهم التي جرى نقلها".

وكتب يوسف تسور من كيبوتس شوفال إلى قيادة حركة الكيبوتسات أنه "تم إحاطة المنطقة بشرطة الحكم العسكري بسيارات عسكرية. والأشخاص هربوا، والخيمة فُككت وأولئك الذين قُبض عليهم أوقفوا عند السيارات ونُقلوا إلى تل عراد.

وكتب الحاكم العسكري هنغبي في إحدى رسائله أن "النقل تم بالأساس بواسطة الإقناع وضغط اقتصادي". وأضاف أنه "لم ين لدينا أي أساس قانوني وحتى أنه كان هناك أمر واضح بعدم استخدام القوة، ولذلك كان من الضروري التصرف بحذر والتنفيذ من دون التورط بمشاكل قانونية".

ووجد إلغازي وثيقة تتعلق بـ"الضغط الاقتصادي"، وهي عبارة عن قصاصة ورق كتبها مستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب، يهوشع فولمان. وجاء فيها أن الحكم العسكري منع البدو من زراعة الأراضي من أجل الضغط عليهم أن يوافقوا على الانتقال. كذلك جاء في رسالة بعثها أعضاء كيبوتس شوفال إلى حزب مبام، الشريك في الحكومة حينذاك، في 28 كانون الثاني/يناير العام 1952، أن "الحكم العسكري أرغم البدو على الرحيل عن أراضيهم. وتم إيقاف تزويدهم بالطعام لشهرين".

اقرأ/ي أيضًا | هدم العراقيب للمرة 197

وكان قسم من البدو يعودون إلى أراضيهم بعد طردهم منها. "وعندها كان الجنود يطلقون النار أو يعتقلون ويفرضون غرامات" بحسب إفادة في تصريح مشفوع بالقسم تم تقديمه إلى المحكمة. ولفت إلغازي إلى أن عودة البدو إلى أراضيهم لم تكن عفوية، إذ أن الدولة زرعت شعورا لديهم بأن إخلاءهم مؤقت وحسب. وكتب الضابط أبراهام شيمش في وثيقة من تلك الفترة، أنه سمح للبدو الذي تم نقلهم بالعودة إلى أراضيهم بين حين وآخر من أجل زراعتها "إلى حين إعادة عشيرة بني عقبى إلى أراضيها". ووفقا لشهادات البدو، فإن أمورا كهذه قيلت لهم مرارا وتكرارا.

وتبين الوثائق أن أعضاء كيبوتسات في تلك المنطقة عبروا عن غضبهم من طرد البدو من أراضيهم. واحتجوا في رسالة بعثوها إلى لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، نهاية العام 1951، على نقل البدو. "نرى من واجبنا أن نشدد على أن هذا الأمر يتم من خلال إحاكة مؤامرة، رشوة وضغوط"، مشيرين إلى أن "عدة خيام نُقلت بالقوة". وشهد الحاكم العسكري هنغبي، في اجتماع للجنة البرلمانية، في تشرين الثاني/نوفمبر 1952، بأنه نفذ الأوامر التي تلقاها، لكنه أكد على أن الجيش تعمد "تقويض مكانة القبائل التي تم نقلها، من أجل أن يغادروا حدود البلاد". وأضاف أنه في إطار العملية العسكرية، "استخدموا وسائل ترهيب ورشوة ولكن ليس في جميع الحالات"، وأن الجيش تعامل مع البدو "بوحشية وقسوة".

التعليقات