21/07/2018 - 14:20

أزمةُ الحكومة الألمانية

يبدو أن مسار السياسة الألمانية يَحيدُ عن القواعد المُتعارف عليها عالميًا، فبعد 100 يوم فقط من تسلم الحكومة الائتلافية لمنصبها، بدت الأسبوع الماضي، وكأنها تتأرجح على حافة الانهيار. وقد يكون الدافع الأكبر لهذه الخلخلة، كما يتوقع الجميع، الهجرة (اللجوء).

أزمةُ الحكومة الألمانية

أرشيفية (أ ب)

في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب 48" بِتصرُّف:

يبدو أن مسار السياسة الألمانية يَحيدُ عن القواعد المُتعارف عليها عالميًا، فبعد 100 يوم فقط من تسلم الحكومة الائتلافية لمهامها، بدت الأسبوع الماضي، وكأنها تتأرجح على حافة الانهيار. وقد يكون الدافع الأكبر لهذه الخلخلة، كما يتوقع الجميع: الهجرة (اللجوء).

وأعلن وزير الداخلية الألماني، هورست سيهوفر، الذي تسلم منصبه بالنيابة عن حزبه المُشارك في الائتلاف الحكومي، الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري اليميني "سي إس يو"، عن وضعه "خطّة مُحكمة" بما يتعلق في ملف الهجرة (اللجوء)، تهدف إلى سن قوانين أكثر صرامة من أجل "تأمين" حدود الدولة. لكنه لم ينشر تفاصيل خطته بعد، كما أن الائتلاف الذي يجمع حزبه بحزب المستشارة أنجيلا ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي "سي دي يو" وشركائهم الديمقراطيين الاشتراكيين، لا يعلم أعضاؤه الكثير عن مشروعه الجديد.

وكان جلّ ما فهمه مراقبو المؤتمر الحكومي الأخير الذي ناقش خطة سيهوفر، أن ميركل وافقت على غالبية بنودها، أما النقاط الخلافية بين المستشارة الألمانية ووزير الداخلية، كانت تحوم حول السماح للاجئين المسجلين بدول الاتحاد الأوروبي (كإيطاليا وهنغاريا) بطلب لجوء لديها، أم لا.

تتلقى أفكار سيهوفر بإغلاق الحدود عبر زيادة الإجراءات الأمنية فيها، دعمًا كبيرًا من حزبه، في ما تحاول ميركل وحزبها الدفع نحو "حل أوروبي" شامل، يمر عبر اتفاقات ثنائية أرادت عقدها في مؤتمر المجلس الأوروبي الماضي. وهددها وزير الداخلية في حال لم تُقدم نتائج حول حلول "جذرية" لموضوع اللجوء، خلال مهلة محددة، بأنه سيُطبق خطته بشكل مستقل.

وأظهرت بعض الدول الأوروبية خلال القمة، رفضها القاطع لاستقبال اللاجئين أو عقد اتفاق أوروبي شامل، نظرًا لكون اتفاقيات الاتحاد غير مُلزمة للأعضاء، حتى تلك المتعلقة بتأسيس مراكز استيعاب للاجئين في شمال أفريقيا (أي خارج الحدود الأوروبية). ومن هذه الدول، دولة مهمة كهنغاريا.

ورفض سيهوفر الاقتراح الأوروبي لبناء هذه المراكز بحجّة أنها لن تأتي بالنتائج المرجوة من خطته، واضعًا الحكومة بأكملها على المحك، إذ أن العمود الفقري للحركة المحافظة الألمانية المتمثل بالتحالف بين حزبه والاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي لم ينهار إلا مرّة واحدة منذ عام 1949، أصبح مهددا بالانفصال. فما السبب من وراء ذلك؟

الخلاف على عدّة أصعدة

يُعزى الدافع إلى اتخاذ إجراءات جذرية كانفصال الحزبين وذهابهما إلى الانتخابات القادمة في محافظة بافاريا، التي حكمها "سي إس يو" منذ تأسيس النظام الفدرالي بعد نهاية الحربة العالمية الثانية دون انقطاع. حيث أنه في حال خسارته لغالبيته الداعمة في المحافظة، سيفقد شرعية وجود ثلاثة وزراء ينوبونَ عنه في الحكومة الفدرالية، ما سيُهدد منصب وزير الداخلية كما سيُهدّد آخرين.

وبهذا المعنى، فإن الحكومة الائتلافية على المحك، خصوصًا مع تصاعد قوّة التيار المعاكس لها، المتمثلة بحزب "البديل من أجل ألمانيا – إي إف دي"، الذي تتراوح مواقف أعضائه بين الشعبوية اليمينية والفاشية الصريحة، لا سيّما بما يتعلق باللاجئين. الأمر الذي سيدفع رافضي الهجرة/اللجوء، التصويت لصالحه.

وتتنافس الشخصيات القيادية في "سي إس يو"، في ما بينها، على إثبات توجهها السلطوي، وتجلى هذا الأمر عندما سنّ رئيس بافارايا، ماركوس سودير، قانونًا جديدًا يوسّع صلاحيات الشرطة في المحافظة الغربية، و يخشى الحقوقيون أن يؤدي إلى تقييد الحريات المدنية.

وما يزيد الأمر تعقيدًا، هو دعم حكومات أوروبية أخرى لمواقف وقرارات غالبية أعضاء "سي إس يو" الأخيرة. وترددت عبارات فاشية في لقاء سيهوفر مع المستشار النمساوي، سيباستيان كورتيز، كما سعى الأول إلى التقارب مع قيادات يمينية أخرى في الاتحاد الأوروبي، كلقائه الأخير من رئيس الوزراء الهنغار، فيتكور أوربان، ومباركته لنجاحات وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو سالفيني، بمنع رسو سفن اللاجئين، ما سنح الفرصة أمام سيهوفر المتبني لنهج "الدولة القومية ذات السيادة"، تشكيل تحالف ضد ميركل.

ورغم امتلاك ميركل لحق "توجيه المبادئ السياسية" المنصوص عليه في القانون الألماني، والذي تستطيع من خلاله تجاوز رغبات أعضاء تحالفها الحكومي، إلا أنها تتعرض لضغوطات داخلية وخارجية تضطرها إلى تقديم التنازلات. كما أنه من الواضح أن هناك مساع لتحييدها عن منصبها حتى في شبيبة حزبها التي تنحاز أكثر فأكثر لسيهوفر. وعلاوة على هذا، فإن الضغط الأوروبي عليها أقوى بكثير، خصوصًا بعد أن تبنَّت معظم دول الاتحاد مواقف معارضة لسياسات ميركل "الأوروبية".

وتوصلت الحكومة إلى حلول وسطى لـ"أزمتها"، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن عقد انتخابات مفاجئة قد يُفيد "إي إف دي" على حساب جميع الأحزاب الأخرى المشكلة للحكومة. وبهذا المعنى، استطاع سيهوفر إخضاع ميركل لتهديداته في نهاية المطاف.

وقضى "الحل الوسطي" بتأسيس "مراكز عبور" على الحدود الألمانية-النمساوية، تهدف إلى "اعتراض" اللاجئين الذين وصلوا بعد أن أجبرهم مسارهم على المرور بدول أخرى من الاتحاد الأوروبي، وسُجلوا فيها مضطرين. كما سيتم توسيع نقاط التفتيش الأمنية (العشوائية) في المناطق الحدودية.

ووافق الديمقراطيون الاشتراكيون على القرار الجديد بعد إزالة أكثر "الاعتبارات" قسوة منه. وبهذا، يبدو أن ألمانيا ستُغلق حدودها وستبني مخيمات لاجئين. ومع القرار النمساوي بنقل حدود "صد" اللاجئين إلى أقصى الجنوب، فإن ما يحدث لهم، سيُصبح تحت رحمة قرارات سالفيني (الإيطالي). ونتيجة لذلك ستحلّ المزيد من الكوارث الإنسانية بشكل شبه مؤكّد.

النظام اللبرالي يتهافت

عند النظر إلى التغييرات الألمانية بمفاهيم عالمية، فإن الانقسام أكبر من المشروع الذي أُقر حديثًا لصد تدفق اللاجئين، وحتى هذه اللحظة على الأقل، فإن مسألة "الدولة القومية" تشغل جميع الأحزاب الألمانية بما فيها الاشتراكيون من الحزب اليساري "دي لينكه" بالإضافة إلى الليبراليين من حزب "إف دي بي".

في نهاية الأمر، إن "مسألة الهجرة" التي صاغت "مسألة مصير الاتحاد الأوروبي"، تتلخص في مدى قوّة الاتحاد الاقتصادية في المنافسة العالمية. بمعنى آخر، هل سيستمر مفهوم "التعددية" السائد بالبقاء، أم أننا نشهد عودة إلى تبني الدول الأحادية؟

تستمر ألمانيا حتى الآن، ببقائها على عرش الدول التي تنتهج النظام التعددي الليبرالي، ونجحت ميركل حتى الآن بالموازنة بين التعددية و"المصالح الألمانية". حيث أنها تدفع نحو مجموعة من القيم، لكنها تهدف قبل كل شيء إلى ترسيخ المصالح الاقتصادية التي تستطيع الدمج بين القيم اللبرالية أو التقدمية التي من الممكن أن تشكل اتحادا قويًا وفعّالا. وفي المقابل، يرى أعضاء "سي إس يو"، مصالح ألمانية من باب/زاوية النظام السياسي للدولة مما يجعلها أقرب لليمين المتطرف.

ولا تعني موافقة ميركل على أغلب شروط خطة سيوهفر "المحكمة"، أنها تُسيطر على هذه التوازنات، فإن النظام التعددي الليبرالي الذي كانت رمزا له طوال الـ12 عاما الماضية، في خطر الانهيار، خصوصًا أنه يمر بـ"أزمة هيمنة"، تُثبت كل يوم، أنه عاجز عن تأسيس تحالفات مستقرة أو الإجماع على آراء معيّنة.

وما زلنا نشهد تداعيات آخر انهيار اقتصادي عالمي، حتى بعد مرور نحو 10 أعوام منذ حدوثه، حيث أن الاتحاد الأوروبي باعتباره اتحادا اقتصاديا يتمتع بحريّة حركة البضائع والأموال والناس، يمر بأزمة الشرعية، بسبب تآكُل منظومة المؤسسات التي تعمل كضمان للحفاظ على النظام.

وتتجلى أزمة الهيمنة هذه بالمعضلة التي تواجهها المستشارة الألمانية، ويبدو موقفها أكثر هشاشة من أي وقت مضى، وسيتعين عليها في المدى القريب العثور على شركاء ائتلاف جدد في الحزب الديمقراطي الاشتراكي و"الخضر" من أجل الحفاظ على إجماع أوروبي مبني على القوة الاقتصادية الألمانية.

ولا يعني تمكّن التحالف الحكومي من الصمود حاليًا، أنه سيصمد لفترة كاملة. فإن "سي دي يو" و"سي إس يو" تفتقران بشكل جاد إلى أغلبية في البرلمان الفدرالي، مما اضطرها إلى التحالف مع الديمقراطيين الاشتراكيين. ورغم إثبات التحالف لنجاعته، إلّا أن الحفاظ عليه بطلب من ميركل الحفاظ على مواقفها "الوسطية" لإرضاء أعضاء "إس بي دي"، في ما تُهدد قوة سيهوفر المتعاظِمة استمرار ذلك.

ويتشكَّل البرلمان الألماني من عدّة قوى سياسية كل منها تدفع باتجاه معتقداتها المتناقدة إلى حد ما، ومسألة بقاء عهد ميركل أم اندثاره، تتعلق بشكل أساسي، في التحالفات التي ستعمل من خلالها في المستقبل، وإذا نجحت القوى اليمينة المتطرفة داخل حزبها بالتمرد عليها وإزاحتها عن قيادة الحزب، فإن مستقبل ألمانيا وأوروبا بنفس المعنى، سوف يكون مفتوحًا على احتمالات شتّى يصعب تنبُّؤها في الوقت الحالي.

 

التعليقات