06/03/2020 - 23:09

عنف الأوروبيّين.. مبرَّر ورافض لعنف الآخر "المتوحش"

رغم كل القسوة المتأصلة في التعذيب الذي مارسه الهنود الحمر، إلا أن عنفهم لم يكن جائرا، وكانت قوانينه مفهومة جيدا بين الشعوب الأصلانية، وجاءت هذه الممارسات امتدادا لروحانية هذه الشعوب وكانت جزءا مهما من طرق خوضها للحرب.

عنف الأوروبيّين.. مبرَّر ورافض لعنف الآخر

صلاة خلال مظاهرة لسكان أميركا الأصلانيّين (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقال الكاتب سام هاسلبي، وهو مؤرخ ومحرر رئيسي في موقع "إيون"، ومؤلف كتاب "أصول القومية الدينية الأميركية".


اعتُبر التعذيب أداة تقليدية لإظهار القدرة السياسية على إدارة شؤون الحُكم عندما بدأ الأوروبيون غزو أميركا الشمالية خلال القرن السابع عشر. وكان يحظى بشرعية مكفولة في جميع أنحاء القارة الأوروبية، كوسيلة مناسبة لمعاقبة جرائم مثل الخيانة، والهرطقة، وغيرها. وصادف الأوروبيون خلال مواجهتهم للشعوب الأصلانية على طول الساحل الشرقي لأميركا الشمالية، تقاليد تعذيب غير مألوفة لهم. وعلى النحو ذاته، واجه السكان الأصلانيون في القارة الأميركية (الذين أطلق عليهم الغزاة وصف "الهندو الحمر)، صعوبة لفهم منطق وأعراف العنف الذي مارسه الأوروبيون. وقد قام الأصلانيون والأوروبيون على حد سواء، بمعرفة بعضهم البعض من خلال أعمال العنف هذه من بين أمور أخرى، والتي أصبحت وسيلة تواصل صاحبت الغزو الأوروبي لأميركا الشمالية، ليتحول التعذيب لشكل من أشكال التبادل الثقافي.

وفي أيلول/ سبتمبر 1637، دار نقاش في المنطقة التي يُطلق عليها اسم كيبيك اليوم، بين مبشر يسوعي ومحاربين من شعب الهورون. وكان النقاش يتمحور حول تقاليد العنف التي ميّزت كلا الطرفين. وكان محاربو الهورون، والذين خاضوا صراعا مريرا آنذاك ضد رابطة قبائل الأمم الأولى (إيراكوي) على الحدود الجنوبية، قد أسروا رجلا من الإيراكوي وأعدوا أنفسهم لتعذيبه وإعدامه. وحضر مبشرون يسوعيون عملية الإعدام، محاولين اغتنام فرصة تعميد السجين وتبشير خاطفيه لإدخالهم في المسيحية. وخلال يوم ونصف اليوم من التعذيب الذي تعرض له الأسير، ناقش المبشرون مع محاربي هورون المفاهيم المسيحية للخطيئة، والجنة، والمعاملة الفرنسية لأسرى الحرب، ولا سيما الطرق الأوروبية للتعذيب والإعدام. وفي مرحلة ما، توجه أحد محاربي الهورون بسؤال لمبشر مستفسرا عن سبب اعتراضهم على تعذيب الأسير، ليوضح المبشر أنه يعترض فقط على طريقة إعدامه. وسأل المحارب "كيف تقومون بذلك كفرنسيين؟"، ليقر الكاهن بأن الأوروبيين كان يعدمون المجرمين "لكن ليس بهذه القسوة". وسأله الأصلاني "ألا تحرقونهم أبدا؟"، ليجيب الكاهن "لا نفعل ذلك عادة"، قبل أن يضيف أنه "حتى عندما نقوم بالحرق، فإن الحرق لا يُستخدم إلا من أجل جرائم شنيعة. علاوة على ذلك، فلا نبقيهم (المتعرضين للتعذيب) لفترة طويلة، فغالبًا ما يتم خنقهم أولا، ومن ثم إلقاؤهم في النار". وكان المبشر اليسوعي يبحث عن طرق لتمييز التعذيب الفرنسي عن نظيره الأصلاني ولإثبات فوقية التقاليد الأوروبية.

ويحيلنا هذا النقاش بين المبشر اليسوعي ورجل الهورون في عام 1637، إلى حكمة كاتب عصر النهضة الفرنسي، ميشيل دي مونتين، القائلة بإن "كل رجل يطلق وصف الهمجية على كل ممارسة لا تُنسب له". وبالنسبة للغزاة الأوروبيين في أميركا الشمالية، فإن عباءة الحضارة المسيحية منحت شرعية لأفعالهم وجرائمهم وميّزت عنفهم عن عنف أولئك الذين وصمتهم بـ"المتوحشين". وقيّدت قيم الحضارة العنف الموجه ضد شعوب "متحضرة" أخرى، بينما سمحت بتعنيف يكاد أن يكون غير محدود ضد الشعوب "البدائية".

لوحة لفنّان غير معروف تظهر مجزرة قام بها الأروبيّون بحق الأصلانيّين

وأينما مارس الهنود الحمر الذين سكنوا الساحل الشرقي لأميركا الشمالية، التعذيب، فقد فعلوا ذلك وفقا لمواثيق متماسكة بقدر رسوخ قوانين التعذيب في أوروبا. لكن الأوروبيين فشلوا عمومًا في استيعاب هذه النقطة، ورغم كل القسوة المتأصلة في التعذيب الذي مارسه الهندو الحمر، إلا أن عنفهم لم يكن جائرا، وكانت قوانينه مفهومة جيدا بين الشعوب الأصلانية، وجاءت هذه الممارسات امتدادا لروحانية هذه الشعوب وكانت جزءا مهما من طرق خوضها للحرب.

وعندما كان يُقتل محارب من الهورون أو الإيراكوي، فإن أقاربه الذكور كانوا يتكبدون واجب معاقبة القاتل أو أحد أقربائه، أو أفراد ذريّته. ونادرا ما تُرجم الالتزام للعشيرة أو الأمة إلى محض انتقام، فالقتل بأيدي قريب، أو حليف، أو عدو، كان يتطلب ردودا مختلفة. وكان من شأن الالتزام بالثأر، أن يغذي دورات الثواب والعقاب التي امتدت عبر الأجيال وشكلت الحياة اليومية لهذه الشعوب. وهذا مكنها من تخفيف العنف، فما دامت الأطراف المتحاربة تلتزم بالتقاليد والقصاص الدقيق الذي يتناسب مع خسائرها، فإن احتواء دورات العنف أو حتى وقفها كان ممكنا.

وبالغ العديد من الأوروبيين في وصف تواتر التعذيب عند الشعوب الأصلانية في أميركا، ويبدو أن التصور الأوروبي للتعذيب كعادة تتبناها هذه الشعوب "البدائية"، استمر في مخيلة الأوروبيين فقط وليس بالممارسة الفعلية، إذ أن المجموعات المغيرة، كانت تميل في الغالب إلى قتل أعدائها في ساحة المعركة، أو أسرهم بقصد ضمّهم أو استعبادهم. أما التعذيب، فقد كان طقسا استثنائيا.

وكانت طقوس التعذيب التي تعرض لها أسير الإيراكوي في عام 1637، مألوفة لدى الهنود الحمر على طول ساحل المحيط الأطلسي في أميركا الشمالية. وعندما كان الأصلانيون يعودون إلى قراهم بعد الإغارة على آخرين، كانوا عادة يجبرون أسراهم على الركض وسط مجموعتين من المحاربين تقفان مقابل بعضهما البعض، وتلقي ضرباتهم حتى الطرف الآخر. وتباينت شدة العنف وفقًا لأهداف الخاطفين. وعندما كانت غايتهم تبني السجناء، أي ضمهم إلى عشيرتهم، كانت هذه العقوبة البدنية لا تتعدى كونها طقس رمزي لمحو الهوية السابقة للأسرى من أجل الانضمام للعشيرة الجديدة. وفي حالات أخرى، استُخدمت العقوبة هذه لإضفاء شعور عام بالمشاركة الجماعية في طقوس الثأر من الأسير. ولقد فهم كل من الجلاد والمعذَّب أدوارهما بوضوح. وكان يُفترض بكل من الطرفين، التحكم بقواهما العاطفية والعقلانية.

وكان يتوجب على الأسرى إظهار سلوك متماسك لإثبات كرامتهم وشجاعة شعبهم. وكان المعذِبون يهدفون إلى تنفيس غضبهم العاطفي بقدر ما يشفي غليلهم للثأر لأقاربهم المقتولين، مع الحفاظ على كبح جماح أنفسهم في الوقت ذاته، لعدم قتل الأسير حتى اللحظة المناسبة التي تمليها المعتقدات الروحانية الأصلانية. ووصل الأمر أحيانا إلى أن يُعامل أفراد هذه الشعوب أسراهم باحترام شديد، طوال محنة إعدامهم عبر التعذيب المتواصل. وهو أسلوب يتماشى مع الأهمية التي ينسبها الهنود الحمر إلى طقوس التعذيب والإعدام.

توضيحية: التعذيب لدى الأصلانيّين

التعذيب الأوروبي

امتلك الغزاة الأوروبيين تقاليد تعذيب خاصة بهم، وغالبا ما وجدها الهورون وغيرهم من الهنود الحمر في أميركا الشمالية، مروعة للغاية. فقد تجاهل الأوروبيون اتفاقيات الدبلوماسية الهندية. ومارسوا قسوتهم دون مبرر، في حين شنوا ما بدا للهنود حربًا شعواء.

ويرتبط التعذيب في التاريخ الأوروبي، بفن الحكم، والحرب، والثقافة. ولقد استخدم الإغريقيون القدماء التعذيب، كما قوننه الرومان القدماء في القانون، وكانت الكنيسة الكاثوليكية تدعو إليه خلال العصور الوسطى. وتعرض مخالفو القوانين للجلد علانية، ورُبطوا بأطواق حديدية، وقُطعت أيديهم وآذانهم، ورُفعت أجسادهم على ألواح خشبية، وسُلخت، وقُطعت. واستعرضت الكنائس تمثيلات لقديسين يخضعون لتعذيب مروع بالسكاكين والرماح والسهام والنار. وقدموا المسامير، والرماح، والأشواك، والسياط، وخاصة دم المخلص، كتذكير بالتعذيب الذي تعرض له يسوع. وراكمت كتيبات مفهرسة، بتفاصيل دقيقة، الحكمة حول طرق التعذيب الفعالة.

واستخدم الحكام الأوروبيون التعذيب لإظهار سطوة حكمهم، وخصوصا ضد أولئك الذين اتهُموا بالخيانة. فمنذ العصر الروماني، اعتُبرت الخيانة من أخطر الجرائم لكونها ضد جلالة وسلطة الحاكم الفرد. واحتل التعذيب دورا بارزا بالمقدار ذاته في حملة الكنيسة الرومانية ضد الهرطقة أيضا. ورسميا، منعت الكنيسة محققيها من إيذاء المشتبه بهم بشكل متواصل أو سفك دمائهم، لذا ابتكروا أساليب فعالة أخرى للتعذيب، مثل الشبح والإيهام بالغرق، لانتزاع اعترافات المشتبه بهم حول الذنوب التي يفترض أنهم ارتكبوها.

وواجهوا مأزقا عند مواجهتهم لقضايا يفتقرون فيها إلى الشهود أو الاعترافات. ففي مثل هذه الحالات، اعتمدت المجتمعات ما قبل القرن الثاني عشر على المحاكمة بالتعذيب البدني، والتي قرروا من خلالها إدانة المتهم أو تبرئته عن طريق إخضاعه لمعاناة جسدية مستمرة (مثل الحرق أو الغرق). وعبر مراقبة كيفية تحمل المتهم لهذه المحنة أو مدى إصابته، ادّعت المحاكم أنها قادرة على تمييز حكم الله بما يتعلق بذنب المته. وبعد أن سحبت الكنيسة اللاتينية في عام 1215، موافقتها على المحاكمات بالتعذيب، اختبر القضاة إجراءات جديدة لتحديد الحقيقة. استقروا تدريجيا على طريقة مُفصلة للتوصل إلى دليل قاطع من خلال الاعترافات، وشملت التعذيب.

عودة للمبشر اليسوعي الذي خاض نقاشا مع محارب الهورون في عام 1637، فقد اعتقد أن المتطلبات الإجرائية الأساسية لوجوب التعذيب في الصيغة الأوروبية، هو ما يميّزه عن نظيره لدى الأصلانيين. فمنذ عصر روما القديمة على الأقل، رأى الأوروبيون أن "الهمجيين" يرتكبون أعمال عنف فاقدة المعنى وغير منطقية، وأنها لم تسعى لغاية عقلانية سوى إرضاء دافعهم "الوحشي". وبحلول القرن السادس عشر، كان الأوروبيون قد وضعوا قائمة طويلة من الشعوب التي "ارتقت" لوصف أفرادها بالهمجيين، وشملت السكوثيين، والساراكينوس، والمسلمين، والفايكنغ والمغول. لذا، فقد كان من سهل إضافة سكان أميركا الأصلانيين إلى هذه القائمة.

وخلال القرن السادس عشر، ساهمت الروايات المتراكمة حول الثقافة والتقاليد الهندية، وخاصة التعذيب، بإثبات الصورة "البدائية" التي أضفاها الأوروبيون على الهنود الحمر، بالنحو الذي يرضيهم. وبحلول منتصف القرن الثامن عشر، خلص معلقون أوروبيون إلى أن الهنود الحمر كانوا عبارة عن أشكال شبيهة بالشعوب البدائية الأوروبية التي عاشت قبلها بألف عام أو أكثر. فقد كان هنود أميركا الشمالية من البدو الرحل، مثل همج أوروبا القديمة، وكانوا يفتقرون إلى أنظمة قانونية وملكية (يحترمها الأوروبيون المعاصرون).

أدوات تعذيب كانت تستخدم في أوروبا (أ ب)

وميّز الأوروبيون بين الإجراءات الرسمية المفصلة المحيطة بممارسات التعذيب في أوروبا، عن الفوضى المتخيّلة للتعذيب الذي مارسه الهنود الحمر. وبالتماهي مع "حكم القانون" المُشار إليه بكثرة، والذي نص الأوروبيون على أنه شرط أساسي لوجود الحضارة، فإن التعذيب الأوروبي كان من صلاحيات الدولة المدربة والسلطات الدينية التي زعمت أنها تعمل لصالح المجتمع. وفي المقابل، أوضحت مشاركة النساء وأحيانا الأطفال في ممارسة العنف في المجتمعات الأصلانية، جلافة هذه الشعوب، من وجهة نظر الأوروبيين. وعلى سبيل المثال، وثق أحد المبشرين اليسوعيين في القرن السابع عشر، التعذيب الذي تعرض إليه أسير من الأيروكاي من نساء وأطفال ينتمين إلى شعب الهورون، واصفا ما فعلنه بأبشع التوصيفات. فبالنسبة لهذه المبشر، فإن سماح مجتمعات الأصلانيين للنساء، بممارسة العنف، تتعارض كليا مع المفاهيم الأوروبية للسلوك الأنثوي المناسب.

ساعدت الأحكام المسبقة حول الهمجية والوثنية الهندية الأميركية، الأوروبيين على تجاهل مبادئ الحرب والعدالة المعلنة التي ربما كانت ستحد من فظاعاتهم. ومن الأمثلة على ذلك مآثر المستوطنة الأوروبية هانا داستون، التي حظيت قصتها بشعبية كبيرة، بعدما قيل إنها أُسرت من قبل الهنود الحمر خلال حرب الملك وليام. وتقول الرواية إنه في آذار/ مارس 1697، تعرضت هانا وزوجها وأطفالها التسعة لهجوم من قبل مجموعة محاربين من قبيلة أبيناكي من كيبيك. وتمكن زوج داستون من الفرار مع ثمانية من أبنائهما، لكن الأبيناكي أسر هانا وابنتها المولودة وممرضتها. وبعد ستة أسابيع من أسرها وبعد مشاهدة مقتل طفلها البالغ من العمر ستة أيام، انتهزت هانا فرصة لمهاجمة خاطفيها أثناء نومهم. وباستخدام فأس فقط، قتلت ثلاثة بالغين وستة أطفال، ومن ثم سلخت فروة رأسهم (حتى تمتلك دليلا كافيا للحصول على مكافأة لقتلهم)، قبل أن تهرب بالقارب إلى مدينة هافيرهيل، في ماساتشوستس، حيث رُحب بها كبطلة.

وبالنسبة لكوتن ميذر، والذي كان أحد رجال الدين البارزين في مستعمرة ماساتشوستس، فلا يجب لوم داستون لقلتها لهؤلاء الهنود وسلخ فروة رأسهم. وعلى الرغم من أفعالها المعيبة، ولا سيما إعدام الأطفال النائمين وسلخ جثثهم، والتي تتناقض مع المعايير الحضارية (الخاصة بالأوروبيين)، لا سيما تلك التي تنطبق على النساء، فقد تغاضى ميذر عن هذه الأفعال. وعذر أفعلاها لأنها ارتُبكت في مكان خارج الحدود التي يسود فيها القانون الرسمي. وأوضح: "كونها لم تكن تتمتع بحياتها الخاصة المضمونة بموجب أي قانون، فقد اعتقدت أنها ليست ممنوعة بموجب أي قانون، من أن تقضي على حياة القتلة، الذين قُتل طفلها بأيديهم". وبدلا من توفر أفعال داستون دليلا على أن المستوطنين يتدهورون إلى مستوى وحشي، فقد شهدت على تصميمها على حماية أسس الحضارة والمجتمع المدني.

حتى أن المعلقون الأوروبيون أقروا في بعض الأحيان بأن الفروق التي حددها بني جلدتهم، بين التعذيب الذي مارسوه، وذلك الذي مارسه الأصلانيون في أميركا الشمالية، خالية من أي معنى، وتخدم المصالح الأوروبية فقط.

انضم جان دي ليري، وهو فرنسي عاش في القرن السادس عشر، إلى مستعمرة من المستوطنين البروتستانت في البرازيل، حيث خلص إلى أن عنف الأصلانيين والأوروبيين، اختلف من حيث الكم لا النوع. وفي كتابه " قصة رحلة صنعت في أرض البرازيل" (1578)، وثق الفظائع الوحشية التي ألحقها البرازيليون الأصلانيون بأسراهم، وميلهم إلى أكل لحوم البشر. ولقد أعطى أهمية أكبر لمرتكبي العنف في العالم القديم، محيلا بجزء من كتابه لهذه الغاية، تحت عنوان "عن القسوة التي مارسها الأتراك وغيرهم من الشعوب: وبالتحديد العنف الذي ارتكبه الإسبان، والذي يُعد أكثر بربرية بكثير من همجيي العالم الجديد حتى". وخص ليري الإسبان بتوبيخهم ليس فقط بسبب فظاعة عنفهم واتساعه، بل أيضا بسبب نيتهم ​​الواضحة في انتزاع إنسانية الشعوب الأصلانية في العالم الجديد. وبعد تقييمه للقسوة في العالمين الجديد والقديم، استنتج ليري أن الشعوب الأصلانية التي قابلها في البرازيل أقل إجراما من شعوب العالم القديم.

وحذر معلقون آخرون من أنه لا يمكن تنمية الحضارة في العالم الجديد من خلال ارتكاب أعمال عنف ضد السكان الأصلانيين الأميركيين. واستنكر بارتولومي دي لاس كاساس، وهو رجل دين إسباني عاش في القرن السادس عشر، الأعمال الوحشية التي ارتكبها المستعمرون الإسبان، ومارس ضغوطا لحماية الهنود في جميع أنحاء الإمبراطورية الإسبانية في العالم الجديد. وخلال القرن الثامن عشر، اتبع السير ويليام جونسون، وهو عميل بريطاني اختص بشؤون الهنود الحمر في مستعمرة نيويورك، سياسة التعايش بين الأصلانيين والمستوطنين الأوروبيين التي خففت العنف الأنجلو أميركي ضد الهنود الحمر. وباعتراف الجميع، فإن جونسون وغيره من المسؤولين الإمبرياليين الذين شجعوا على التسامح ودعوا إلى إجراء مفاوضات مع الهنود الحمر، فعلوا ذلك على أسس براغماتية؛ إذ أن العنف الأوروبي أثار ردود أفعال هندية عنيفة، ما أدى إلى تعطيل التجارة القيمة وأحبط الهجرة الأوروبية إلى المستعمرات. وفي نهاية الحقبة الاستعمارية، شعر بنيامين فرانكلين بالقلق من أن تؤدي ظروف العالم الجديد إلى تآكل المشاعر الحضارية للمستوطنين الأوروبيين. وأعرب عن أسفه من تفوق الأوروبيين على الأصلانيين في الهمجية. وعلى سبيل المثال، وكما أشار فرانكلين وغيره، فإن حالات التعنيف الجنسي التي ارتكبها أصلانيون بحق أوروبيين، كانت استثنائية للغاية، في حين أن المستعمرين اعتادوا ممارسة الاغتصاب بشكل روتيني كتكتيك حرب ضد الهنود الحمر.

لكن لم تكن المخاوف من الوحشية الأوروبية في إمبراطوريات أميركا الشمالية، مهما كان نوعها، رادعا يكبح الجوع الأوروبي للاستيلاء على أراضي الأصلانيين. وحشد المدافعون عن المستوطنين جميع الموارد الثقافية المتاحة لهم للتخلص من الاتهامات للمستوطنين بالوحشية، وتشويه صورة الهنود الحمر على أنهم مثال على همجية عصيّة عن الإصلاح.

وفي الوقت الذي كان الأوروبيون في أميركا الشمالية يبرزون فيه العلاقة المزعومة بين التعذيب والهمجية، كان المفكرون والحقوقيون ورجال الدولة ورجال الدين في أوروبا في القرن الثامن عشر، يؤكدون على أن التعذيب كان إهانة لكرامة الإنسان. وبحلول عام 1770، بات سوء سمعة التعذيب الأوروبي يزداد، وبدأت أمة تلو الأخرى، بحظر التعذيب في القارة في أوائل القرن التاسع عشر. وعلى هذا الأساس، أبرزت الروايات الشفوية عن التعذيب في أميركا الشمالية، المسافة التي فصلت بين مراكز التقدم والتحضر في أوروبا الغربية عن بؤر الحضارات الضعيفة في العالم الجديد.

ومع تأسيس الجمهورية، واسى الأميركيون أنفسهم بأن ممارسة التعذيب ستقتصر على المناطق الواقعة في الحدود المتنازع عليها للأمة حيث تتاخم الحضارة الأوروبية، البدائية الهندية. وبقي "خطر" التعذيب الهندي ظاهرا في الثقافة الشعبية الأميركية. وراجت ذاكرة جماعية للأسر لدى الهنود الحمر، والتي تضمنت دائما روايات مطولة عن العنف الهندي غير المبرر والتعذيب، ولاقت شعبية واسعة طوال القرن التاسع عشر. واستمرت المزاعم بوجود "همجية هندية" بمنح الأميركيين البيض شرعية لممارسة أعمال عنف لا يمكن تصور بشاعتها ضد الهنود الحمر. وحتى في الأماكن التي سادت فيها "الحضارة" في القارة، فإن التعذيب لم ينته، بل على النقيض من ذلك، استمرت ممارسة التعذيب في الأمة الجديدة، كما استمر التذرع بثنائية الحضارة مقابل الهمجية، للدفاع عن استخدامه. ففي السجون في البلاد، التي كانت تُعتبر على نطاق واسع أنها بمثابة مختبرات لعلم التشريح الحديث، تعرض السجناء للتعذيب الذي زُعم أنه سرع إعادة تأهيلهم. وعمليا، لم يكن الأميركيون الأفارقة محميين من أعمال العنف "الضرورية" لتحقيق "خضوعهم الكامل"، كما أوضح أحد الأسياد الذي امتلك عبيدا. وخلال أواخر القرن التاسع عشر، كان المشتبه بهم يتعرضون بشكل روتيني للعنف على أيدي الشرطة، ويشار إليهم بـ "الدرجة الثالثة"، بهدف انتزاع اعترافاتهم. وكما أوضح أحد معارضي وحشية الشرطة في أوائل القرن العشرين، فإنه عندما يقوم رجال الشرطة "بانتزاع اعترافات من رجل ما، فإنهم يتخطون المشاكل العويصة للتوصل إلى إدانته".

وأصر المدافعون عن العنف الموجه ضد هذه الجماعات على أن كل ما عاناه أفرادها كان يصب في مصلحة المجتمع، إضافة إلى أنهم جلبوا هذا العنف على أنفسهم. وفي العقود التي سبقت الحرب الأهلية، ندد مالكو الرقيق بـ"الأعمال الخيرية الخاطئة"، و"الحساسية المثيرة للغثيان"، و"نفاد الصبر تجاه كل خضوع عادل"، التي سعت إلى القضاء على العبودية. وعلى حد تعبير عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، ديفيد يولي: "يجب أن يكون هناك نظام. ويجب أن تكون هناك سلطة تعسفية". وفي نهاية القرن العشرين، قارن مدير أحد أشهر السجون في البلاد بين الضرب بالخراطيم المطاطية والمجاذيف بـ"ضرب الوالدين غير المؤذي"، والضروري للسيطرة والطاعة. وبالمثل، برر مدير الشرطة في واشنطن العاصمة، العنف الذي تقوم به الشرطة باعتباره ضروريًا لحماية "الجمهور من اعتداءات وإهانات المنتهكين الذين يعتبرون أعداء الدولة المعلنين".

وللخلاصة، نصت مواثيق الجمهورية الأميركية على أنه لا يجب تعذيب أحد؛ ولكن إذا تعرض الناس للتعذيب على أرض الواقع، فلا بد أنهم يستحقون مصيرهم بطريقة أو بأخرى. وبالتالي، فإن التعذيب بحد ذاته لا يمثل انتهاكا مزمنا للمبادئ الوطنية لأن ضحاياه لا يستحقون الاهتمام العام. ومكنت هذه المصادقات الأميركيين، مثل المبشرين اليسوعيين في عام 1637، من الافتراض بأنه عندما يقوم الآخرون بالتعذيب، فإن ذلك يعكس خصائصهم الأساسية، ولكن عندما يمارس الأميركيون البيض التعذيب، فإنه ينتهك خصائصهم. وقد يساعد هذا الفهم الأميركيين البيض في الحفاظ على إيمانهم بنوع من أنواع تفوقهم كأمة، لكن لا علاقة له بالسجل التاريخي.

التعليقات