18/03/2022 - 13:38

طريق إلى المجهول: حجْب الاقتصاد الروسيّ سيغيّر العالم...

طردت الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى في غضون أيام، روسيا، من المسرح العالمي، وعزلوا الاقتصاد الحادي عشر من حيث الحجم ماليًا وتجاريًا وثقافيًا، إذ جمدت الولايات المتحدة وأوروبا، الأصول الأجنبية للبنك المركزي الروسي، ممّا أضرّ بقدرته على استقرار عملته. وقطعت

طريق إلى المجهول: حجْب الاقتصاد الروسيّ سيغيّر العالم...

أمام محل صرافة في بطرسبرغ ("أ ب")

في ما يلي ترجمة خاصّة بموقع "عرب 48" لمقال الكاتب في "The Atlantic"، ديريك ثومبسون، وهو مؤلّف كتاب "Hit Makers".

ترجمة: أنس سمحان.


طردت الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى في غضون أيام، روسيا، من المسرح العالمي، وعزلوا الاقتصاد الحادي عشر من حيث الحجم ماليًا وتجاريًا وثقافيًا، إذ جمدت الولايات المتحدة وأوروبا، الأصول الأجنبية للبنك المركزي الروسي، ممّا أضرّ بقدرته على استقرار عملته. وقطعت الشركات الخاصة، بما فيها "آبل" و"نتفليكس" و"أديداس" و"بريتيش بتروليوم"، خدماتها عن السوق الروسية، وتحرّكت الولايات المتحدة لحظر واردات النفط الروسية.

كما أبعدت البطولات الرياضية ومهرجانات الأفلام والمؤسسات الثقافية الأخرى، المنافسين الروس عن المشهد، وألغت "ماكدونالدز" عقود امتيازها في روسيا. العديد من هذه الإجراءات غير مسبوقة بالنسبة لدولة في مكانة روسيا. كلّ هذه العقوبات الجماعية ترقى إلى حدّ تجربة عالمية راديكالية في الانتقام الأخلاقيّ. إذا سعى الرئيس الروسيّ، فلاديمير بوتين، إلى توسيع الإمبراطورية الروسية بالقوة الصارمة، فقد حقّق العكس تمامًا؛ تضاؤل روسيا من خلال عرض غير مسبوق للقوة العالمية الناعمة.

تثير العواقب الفورية لهذه العقوبات، التوترات، وارتفعت على إثر سِتار الحجب الحديدي الجديد، أسعار السلع ارتفاعًا كبيرًا، وأخذت المؤشرات الاقتصادية بالانخفاض، وصار النفط عند أعلى مستوياته على الإطلاق، ويمرّ "ناسداك" بحالة ركود غير مسبوقة، وتشهد أسعار النيكل ارتفاعًا عموديًا، وانهار الروبل بنسبة 50 في المائة. لقد تجاوزت أسعار الجملة للطاقة في أوروبا أرقامًا قياسية تاريخية، وصار يبدو حلول الكساد الأوروبي شِبهَ مؤكد. ويقدِّر الخبير الاقتصاديّ، مارك زاندي أن احتمالات وقوع كساد في الولايات المتحدة هذا العام "واحد من ثلاثة".

طابور لسحب الأموال من صراف آلي في موسكو ("أ ب")

وهذه ليست إلا البداية، فمثل كل التجارب الجديدة، تُعتبر العقوبات المفروضة على رُوسيا طريقًا إلى المجهول، ولا ينبغي أن نكون واثقين من المدة التي ستستغرقها هذه الإجراءات، أو نوع العواقب غير المقصودة التي يمكن أن تحدِثَها. لكن بعد أن قُمت ببعض القراءة وتحدثت مع الخبراء، ظهرت بعض التأثيرات المهمة طويلة المدى، وفي ما يلي ثلاث طرق يمكن أن يغيّر بها حجب الاقتصاد الروسيّ العالم.

1- تسريع ثورة الطاقة الخضراء

تُعرّف ثورات التكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين بسرعتها الخارقة، إذ لم نستغرق عقدًا بالكاد، لتنتقل نسبة الأميركيين الذين يقتنون هاتفًا ذكيًا من صفر إلى 80 في المئة، لكن ثورات الطاقة "كسولة"، وكان التحول للطاقة الخضراء على وجه الخصوص صعبًا في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما قد يكون مفاجئًا بالنظر إلى انخفاض سعر الطاقة الشمسية. لقد رفض الغرب ببساطة بناء مشاريع الطاقة الخضراء بالسرعة الكافية لخفض الانبعاثات الكربونية.

يمكن أن تؤدي حرب روسيا إلى تسريع الثورة الخضراء بطريقتين كبيرتين: أولا، يزيد الضغط السياسي على الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية لتقليل الاعتماد على النفط والغاز الروسي، وسيتكثف اعتماد الدول على المدى القصير بشكل أكبر على احتياطي النفط والغاز لإبقاء الأسعار منخفضة، ولكن بمرور الوقت، قد تؤدي مقاطعة الطاقة الروسية إلى رفع سعر الطاقة الحرارية بما يكفي لإجبار الدول على نشر المزيد من مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية بكثرة. وقفت لسنوات المخاوف المناهضة للنمو، والمشاعر المناهضة للأسلحة النووية، ونزعة؛ "ليست في عقر داري" في طريق بناء الطاقة الخضراء. يمكن أن يزيل إلحاح وجود تهديد خارجي بعض تلك المخاوف. يقول قدري سيمسون، المفوض الأوروبي للطاقة: "لا يمكننا الحديث عن ثورة مصادر الطاقة المتجددة إذا كان يستغرق الحصول على تصريح لبناء حديقة رياح سبع سنوات. لقد حان الوقت للتعامل مع هذه المشاريع على أنها تصب في المصلحة العامة الغالبة، لأنها كذلك".

("أ ب")

ثانيًا، سيؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى تغيير تفضيلات المستهلكين، ودفع المزيد من المستهلكين بعيدًا عن السيارات العاملة بالغازولين (البنزين)، حيث تعمل اليوم أقل من 5 في المئة من سوق السيارات الأميركية بالكهرباء، لكن الصناعة تدفع بالسيارات الكهربائية بقوة، إذ أن أغلب إعلانات السيارات في فعاليات مثل "السوبر بول" الأميركي، كانت للسيارات الكهربائية. يمكن أن يتكاتف هذا التحوّل التسويقيّ مع الارتفاع الموجع لأسعار الغازولين بطريقة تجعل المزيد من الأميركيين يشترون السيارات الكهربائية، ما سيشجع بدوره المزيد من شركات السيارات على الاستثمار في إنتاج السيارات الكهربائية، وهو ما سيخفّض أسعارها، وبالتالي زيادة الطلب عليها.

توجد سابقة تاريخية لهذا التحوّل المحتمل من حالة المعاناة في ارتفاع الأسعار نحو التقدم بأنواع الطاقة الأخرى. قطعت "أوبك" النفط في عام 1973 عن الولايات المتحدة ودول أخرى، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الغازولين، على الرغم من أن معظم الأميركيين يربطون تلك الفترة بالكساد الاقتصادي، فإن الأزمة أدت أيضًا إلى أن تصبح شركات تصنيع السيارات الأميركية أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، وبدأ اقتصاد استهلاك الوقود وقياس استهلاك الغالون الواحد بالنسبة للميل في عام 1973. يمكننا أن نشهد بعد خمسين عامًا نفس الديناميكية: صدمة الطاقة التي أدت إلى عقود من التقدم.

2- إمبراطوريّة صينيّة جديدة

لقد أدّى حجب الاقتصاد الروسي لزيادة الاعتماد الكبير على الصين، التي تناوبت بين إلقاء اللوم على الغرب في الصراع، ونأت بنفسها عن روسيا، ورفضت وصف الغزو بأنه غزو، وعبَّرت عن حزنها على الخسائر في صفوف المدنيين مع دعوتها إلى إحلال السلام، وبغض النظر عن اللغة الخطابية، تواصِل الصين تجارتها مع روسيا، وتفكر بكين بقوة في الاستحواذ على حصة عمالقة الطاقة الروسية الذين استغنت عنهم الشركات الغربية.

يتقارب الطرف الروسي والصيني حتى قبل الأزمة الأوكرانية، فمنذ الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ارتفعت التجارة الروسية الصينية بنسبة 50 في المئة، وفقًا لرئيس إستراتيجية السوق والاستثمار في "جي بي مورغان" لإدارة الأصول، مايكل سيمباليست، والذي كتب: "تعد روسيا الآن أكبر متلقٍ لتمويل قطاع الدولة من بكين"، مشيرًا إلى أن الصين وروسيا بدأتا في استخدام عملتيهما لتسوية التجارة الثنائية في عام 2010، و"فتحتا خطًا لمبادلة العملات في عام 2014، مما قلّل اعتمادهما بشكل حادّ" على الدولار الأميركي.

مظاهرة داعمة لأوكرانيا في أميركا ("أ ب")

ويبدو أن الصين ستكون ما يشبه الملاذ الأخير لروسيا، وهذا من شأنه أن يجعل روسيا دولة مثل كوريا الشمالية، إذ اعتمدت كُوريا منذ عام 2010 على الصين فيما يقرب من 90 في المئة من إجمالي تجارتها. وعليهِ فإن أحد السيناريوهات المعقولة هو أن محاولة بوتين الفاشلة لتوسيع الإمبراطورية الروسية قد تؤدي إلى نمو الإمبراطورية الصينية، حيث تتشبث روسيا بالصين لتجنُّب خرابها الاقتصادي.

3- معركة عالمية على الغذاء

تغذي روسيا وأوكرانيا العالم، وتمثلان نحو 30% من صادرات القمح العالمية، إلى جانب 20% من صادرات الذرة العالمية و80% من الصادرات العالمية لزيت عباد الشمس. تتلقى العديد من الدول، بما في ذلك مصر وتركيا وبنغلاديش والسودان وباكستان، نصف قمحها أو أكثر من روسيا أو أوكرانيا.

إجمالا، تأتي واحدة من كل ثماني سعرات حرارية تُتداول بين تلك البلدان من أوكرانيا وروسيا، وفقًا لـ"NPR"، وهم الآن في حالة حرب. كما تُعدّ روسيا وبيلاروسيا من الدول الرئيسة المصدرة للأسمدة، ويمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الأسمدة إلى تعطيل زراعة المحاصيل علاوة على التكلفة المتصاعدة لأسعار الخبز.

("أ ب")

كما أوضح زميلي ديفيد فروم (صحافي، ومحام، وكاتب من الولايات المتحدة)، لن تكون معركة الغذاء العالمية خبرًا سيئًا لكل فقراء العالم، إذ يعتاش ثلثا سكان إفريقيا جنوب الصحراء، من العمل في الزراعة، ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية، يمكنهم كسب المزيد وتجربة ابتكارات جديدة لزيادة إنتاجهم. توقعت العديد من البلدان الأكثر اعتمادًا على روسيا وأوكرانيا للواردات، احتمالية تعطل التجارة وتخزين ما يكفي من القمح والذرة للحصول عليها خلال عدة أشهر.

لكن لا يمكن التغاضي عن الخطر طويل الأمد المتمثل في غياب الاستقرار السياسي، حيث عُزيت العديد من التحليلات الخاصة بالانتفاضات الشعبية عام 2011 التي أطاحت بحكومتي تونس ومصر خلال ما يسمى بالربيع العربي، أصلها إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وبخاصة الحبوب. ستكون الحرب بين دولتين كبيرتين في سلة الخبز أكثر تعقيدًا للأسعار. إذا كان عام 2011 مؤشرًا، فقد لا نجد أنفسنا في "ربيع عربي"، بل في "ربيع عالمي"، أي موجة من عدم الاستقرار السياسي العالمي.

لقد أظهرت الأسابيع القليلة الماضية بالفعل قوة العمل الجماعي، حيث أصبح ما بدأ كعقوبة مالية ضد روسيا، مقاطعة عالمية لها. تخيّل أن يتحرّك عمل جماعي موازٍ، ولكن ليس مدفوعًا بالصلاح الأخلاقي وحسب، وإنما بالجوع أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا | وماذا لو خسرت روسيا؟

التعليقات