06/04/2022 - 21:00

دائرة بوتين الداخليّة...

تلتزم النخب السيلوفيكية والنخبة الرسمية الروسية بشكل عام وقبل كل شيء، لأسباب تاريخية وثقافية ومهنية وشخصية عميقة، التزامًا عميقًا ولا رجعة عنه بفكرة روسيا كقوة عظمى وبوصفها قطبًا في عالم متعدد الأقطاب

دائرة بوتين الداخليّة...

بوتين ووزير دفاعه، شويغو (gettyimages)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بـ"عرب 48"، لمقالة أناتول ليفين، المؤلف والصحافيّ والمحلل السياسي البريطاني.

ترجمة: أنس سمحان.


بينما يركز الغرب على الأوليغارشية، تُسيطر مجموعة أصغر على السلطة الحقيقية في موسكو، فمن هم السيلوفيكيون؟ عندما أفكر في وصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين ودائرته الداخلية، فغالبًا ما تخطرُ على بالي ملاحظةٌ أدلى بها جون مينارد كينز[1] حول جورج كليمنصو[2]، رئيس الوزراء الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى: كان شخصا موهومًا تمامًا "ووهمه الوحيد هو فرنسا"، وقد ينطبق الأمر عينه على نخبة روسيا الحاكمة، ولربما يُساعدنا هذا في تفسير المجازفة الجماعية التي أخذوها بغزوهم لأوكرانيا.

قد يكون هؤلاء الأشخاص قساة وجشعين، إلا أنهم يؤمنون بفكرة العظَمة الروسية.

تستخدم وسائل الإعلام الغربية مصطلح الأوليغارشية[3] لوصف الأثرياء الروس بشكل عام، بما في ذلك أولئك الذين يعيشون الآن كليًا أو إلى حد كبير في الغرب، واكتسب المصطلح زخمًا في التسعينيات، وطالما أُسيء استخدامه لحدٍ خطير. هَيمنت بالفعل في عهد الرئيس بوريس يلتسين[4] مجموعة صغيرة من رجال الأعمال الأثرياء على الدولة ونهبوها بالتعاون مع كبار المسؤولين، إلا أن بوتين عمل على تفكيك هذه المجموعة خلال سنواته الأولى في السلطة.

حاول ثلاثة من كبار الأوليغارشية السبعة تحدي بوتين سياسيًا، ولكن جهودهم انتهت بطرد بوريس بيريزوفسكي[5] وفلاديمير جوسينسكي[6] إلى خارج روسيا، وسجن ونفي ميخائيل خودوركوفسكي[7]. سُمح للآخرين، ومن يقابلهم من الأثرياء الصغار، بممارسة أعمالهم داخل روسيا مقابل الخضوع العام غير المشروط لبوتين، وعندما التقى بوتين افتراضيا، برجال الأعمال الروس البارزين بعد شن غزو أوكرانيا، لم يكن ثمة شك حول هوية الآمر الناهي.

كانت القوة التي فككّت الأوليغارشية هي الاستخبارات السوفيتية السابقة (KGB)، والتي أُعيد تشكيلها في مختلف الأجهزة التي خلفتها، وقد جاء بوتين نفسه من خلفية الاستخبارات السوفييتية. كما أنّ الأغلبية العظمى من النخبة العليا في عهد بوتين هي من الاستخبارات السوفييتية، أو من خلفيات حكومية مرتبطة بها، باستثناء القوات المُسَلّحة.

بوتين خلال ترؤسه -افتراضيا- اجتماعا أمنيا ("أ ب")

ظلّت هذه المجموعة مستقرة ومتجانسة بشكل ملحوظ في عهد بوتين، وهي قريبة منه شخصيًا. نهبت هذه النخبة تحت قيادته البلاد، على الرغم من احتفاظهم بمعظم ثرواتهم داخل روسيا على عكس الأوليغارشية السابقة، وشاركوا أو وافقوا على معظم جرائم بوتين، بما في ذلك، غزو أوكرانيا. لقد ردّدوا صدى دعاية بوتين "الشريرة" ضد أوكرانيا، وإداناته للانحلال الغربي.

وبينما تغرق روسيا الآن في مستنقع عسكريّ وأزمة اقتصادية، فإن السؤال المركزي هو ما إذا كان يمكن عزل بوتين، أو إقناعه بالتنحي من قِبل النخب الروسية نفسها، خصوصًا إذا لم تنته الحرب بسرعة من خلال تسوية سلمية، من أجل محاولة إخراج روسيا وأنفسهم من الأزمة التي أدخلوا أنفسهم فيها. ولتقييم فُرَص ذلك، يتطلّب الأمر فهم طبيعة النخب الروسية المعاصرة، وفهم النواة الداخلية لدائرة بوتين.

قال بوتين في وقت سابق، لتوضيح عُمق الكارثة الروسية في التسعينيات، إنه اضطر في مرحلة ما، حينما كان مُقدّمًا في الاستخبارات السوفييتية إلى العمل سائقًا لسيارة أجرة في غير أوقات عملهِ، ليجمع قُوت يومه، وثمة في ما قاله كمّ لحقيقة، إذ إنني وفي عام 1994، وبينما عملتُ صحافيًا في الـ"تايمز" من روسيا، تحدثت مع سائق سيارة أجرة في شمال القوقاز، وكان رائدا سابقًا في الاستخبارات السوفييتية، وأخبرني ذات مرة بمرارة: "ظننا أننا العمود الفقري للاتحاد السوفييتي! انظُر إلى حال أبناء تشيكا الحقيقيين الآن".

كانت عبارة "Real Chekist (شاكيت ناستوياشي)" عبارة دعائية سوفييتية تشير إلى صفات الانضباط القاسي والشجاعة والالتزام الأيديولوجي والصدق التي يفترض أنها سمة من سمات تشيكا (Cheka)، أول شرطة سرية سوفيتية شكلها لينين ورفاقه لمكافحة الثورة والتخريب، وصار هذا الأمر موضوع العديد من النكات السوفييتية، ولكن لا يوجد شك في أن بوتين وكبار النخبة يواصلون رؤية أنفسهم في ضوء ذلك، على أنهم العمود الفقري لروسيا، رغم أنّ بوتين، ليس ثوريًا البتّة، إلا أنه يبدو يُحب أن يرى نفسه ضمن النخب الأمنية لروسيا الإمبراطورية[8].

ويقدّم لنا فيلم "اتحاد الخلاص" (Soyuz Spaseniya 2019)، وهو فيلم عن الثورة الديسمبرية[9] الراديكالية عام 1825، والذي أُنتج بدعم من الدولة الروسية، مثال مثير للاهتمام على ذلك، ولصدمة كثير من أصدقائي الروس الأكبر سنًا، الذين نشأوا على تبجيل الديسمبريين، فإن بطل هذا الفيلم كان القيصر نيقولا الأول والجنرالات الإمبراطوريون المخلصون والبيروقراطيون الذين قاتلوا للحفاظ على الحكومة والنظام ضدّ المتمردين.

جنود أوكرانيون يلتقطون صورًا بالقرب من دبابة روسية مدمرة (gettyimages)

على الرغم من أنهم جمعوا قوة وثروة هائلة، إلا أن بوتين ودائرته المباشرة لا يزالون مستائين بشدة من الطريقة التي انهار بها الاتحاد السوفييتي وروسيا وخدمتهم في التسعينيات، وتعدّ القوة العظمى الممزوجة بالاستياء الشديد، واحدة من أخطر الخلطات في كل من السياسة المحلية والدولية. ومع نمو ميول بوتين الاستبدادية، صارت القوة الحقيقية (في مقابل الثروة) داخل النظام، تعتمد أكثر فأكثر على الوصول الشخصي المستمر إلى الرئيس، وتقلص عدد أولئك الذين لديهم مثل هذا الوصول إلى حفنة من المقربين، خاصة وأن جائحة كورونا أدت إلى عزل بوتين الجسدي الشديد.

خمسة في الدائرة الداخليّة لبوتين:

- وزير الخارجية الحالي، سيرغي لافروف.

- وزير الدفاع الحالي، سيرغي شويغو.

- رئيس جهاز المخابرات الخارجية، سيرجي ناريشكين.

- أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف.

- المدير التنفيذي لـ"روسنفت (نفط روسيا)"، إيغور سيتشين.

في سنواته الأولى في السلطة، كان يمكن اعتبار بوتين الذي كان ضابطًا صغيرًا نسبيًا في المخابرات السوفييتية؛ "الأول بين أنداده" في نخبة رفيعة من الأصدقاء والزملاء، إلا أن الأمر لم يعد كذلك، حيث اختُزل دور السيلوفيكيين[10] علنًا حتّى إلى خَدَمٍ للحاكم المستبد، كما يتضح من إذلال بوتين لرئيس مخابراته الخارجية، سيرغي ناريشكين، في الاجتماع المتلفز لمجلس الأمن القومي عشية الحرب، وقد يعود مثل هذا السلوك الاحتقاري تجاه أتباع بوتين لينقلب ضده، كما حصل مع الكثير من الحكام المستبدين في الماضي.

تضمّ النواة الداخلية لدائرة بوتين القريبة، شويغو (وزير الطوارئ السابق وليس جنديًا محترفًا) ونيكولاي باتروشيف، الرئيس السابق للاستخبارات الداخلية والأمين العام الحالي لمجلس الأمن القومي الروسي، وإيغور سيتشين، نائب رئيس الوزراء السابق الذي عينه بوتين لإدارة شركة نفط روسنفت. وبقدر ما كان كبار المسؤولين الاقتصاديين من ذوي الميول "الليبرالية الوطنية" جزءًا من هذه النواة الداخلية، فقد تم استبعادهم منذ فترة طويلة منها.

بوتين بجانب أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف ("أ ب")

يُعرف هؤلاء الأشخاص في روسيا باسم "السيلوفيكيين" أو "رجال القوة"، أو ربما حتى باستخدام العبارة الإيرلندية: "الرجال الأشدَّاء". يجب رسم خط تمييزي واضح بين السيلوفيكيين والنخب الروسية الأوسع، والتي تضمن تجمعات كبيرة ومتباينة للغاية ومفككة من كبار رجال الأعمال، وكبار المسؤولين خارج الدائرة الداخلية، وشخصيات إعلامية بارزة، وكبار الجنرالات والمثقفين الوطنيين، والأفراد المتنوعين من الأعيان المحليين، وموظفي الخدمة العامة والوكلاء الذين يشكلون قيادة حزب روسيا الموحدة[11] الذي ينتمي إليه بوتين.

يبدو القلق من غزو أوكرانيا وعواقبه واضحًا بالفعل بين أوساط النخب الروسية الأوسع، وبطبيعة الحال بدأ هذا الأمر مع النخب الاقتصادية، نظرًا لمخاطرها العميقة على الأعمال التجارية مع الغرب، وفهمها للتأثير الكارثي للعقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي. عانى رومان أبراموفيتش، الذي كان يبحث عن مشترين لنادي تشيلسي لكرة القدم، عندما علم بتوقف عملية البيع نظرًا لتجميد أصوله في المملكة المتحدة، ودعا ميخائيل فريدمان، رئيس مجلس إدارة مجموعة "ألفا" Alfa Group -التي تضررت بالفعل بشدة من العقوبات الغربية- وأحد الأوليغارشية السابقين الناجين من التسعينيات، إلى إنهاء الحرب مبكرًا، كما فعل قطب الألمنيوم أوليغ ديريباسكا.

أبراموفيتش ("أ ب")

إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام وإذا استمرت الحرب في طريق دموي مسدود، فسيتدهور الاقتصاد الروسي أكثر، وسيشهد الشعب الروسي انخفاضًا حادًا في مستويات معيشتهم، وبالتالي فإن الاضطرابات العامة وقمع الدولة ومحاولاتها لجرّ واستغلال الأعمال التجارية، ستظلّ كلها حتمية، كما تزداد تعاسة النخب الأوسع بشكل جذري.

ولكن يُشار إلى افتقار النخب الأوسع إلى المؤسسات الجماعية، وربما الأهم من ذلك، الهويات الجماعية التي من شأنها أن تسمح لهم بالتَّوحّد بسهولة لإزاحة بوتين.

وصف لي صديق روسي مجلس الدوما، أو مجلس النواب في الجمعية الاتحادية الروسية، بإيجاز على أنه "كومة سماد مليئة بالخضروات المتعفنة المتنوعة"، وهذا أمر غير عادلٍ، إذ يحتوي المجلس بالفعل على بعض الأشخاص "المحترمين"، ولكن سيكون من غير المجدي أن ننتظر منهم تغيير القيادة السياسية.

بوتين ووزير دفاعه، شويغو (gettyimages)

ولن تجد في الجيش أيضًا قوة ضد بوتين، على الرغم من أنه المؤسسة التي تقف وراء الانقلابات في الدول عادة، وذلك لأن الجيش لم يعد مسيّسًا بشكل حازم، أولا من قبل الدولة السوفييتية، والآن من قِبل بوتين، وذلك نظيرًا لتمويل ضخم من الدولة، كما أن الجيش الآن صار ملتزمًا بتحقيق نصر عسكري في أوكرانيا، أو على الأقل أي أمر يمكن تقديمه على أنه انتصار.

من ناحية أخرى، قد يؤدي تخلُّص بوتين من الرّتب العليا في الجيش، خصوصًا مع غياب كفاءته في دفع القيادة العليا لغزو أوكرانيا، إلى استياء مستقبلي كبير في الجيش، بما في ذلك جنرالات الرتب الدنيا، بمعنى، حتى لو لم يتحرّك الجيش بنفسه ضد بوتين، فمن غير المرجح أن يتحرك لإنقاذه أيضًا.

قد يأتي بعض الضغط الأكثر فاعلية على نخبة بوتين من أبنائهم، ففي حين نشأ جميع الآباء تقريبًا وبدأوا حياتهم المهنية في السنوات الأخيرة من الاتحاد السوفييتي، فقد تلقى أطفالهم تعليمهم غالبًا وعاشوا في الغرب، ويتّفق الكثيرون، على الأقل في السر، مع إليزافيتا بيسكوفا، ابنة المتحدث الصحافي لبوتين ديمتري بيسكوف، التي احتجت على الحرب عبر "إنستغرام"، وتمت إزالة المنشور بسرعة.

ولكن لا يجب أن ننسى الارتباط الوثيق بين السيلوفيكيين وبوتين والحرب، لدرجة أن أي تغيير في النظام الروسي يجب أن يشمل رحيل معظمهم عن السلطة، ربما مقابل وعد بأنهم لن يتم القبض عليهم، وأن يحتفظوا بثروة عائلاتهم (كان هذا هو الضمان الذي قدمه بوتين مع سلفه يلتسين).

انتظار التغيير قد يأخذ وقتًا طويلًا، حيث صُوِّر السيلوفيكيون بدقة على أنهم فاسدون للغاية، لكن لفسادهم سمات خاصة، فالوطنية هي أيديولوجيتهم والتبرير الذاتي لثروتهم الهائلة.

وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف (gettyimages)

تحدثت ذات مرة مع مسؤول سوفييتي سابق كبير كان على اتصال بأصدقائه القدامى من نخبة بوتين. قال متأملًا: "كما تعلم، في أيام الاتحاد السوفييتي، كان معظمنا سعداء حقًا بالتلفزيون الملون، والوصول إلى المتاجر الخاصة لبعض السلع الغربية، وللعطلات في سوتشي. كنا مرتاحين تمامًا، وقارنّا أنفسنا فقط ببقية السكان، وليس بالنخب الغربية. اليوم، بالطبع، يحب السيلوفيكيون كمالياتهم الغربية، لكني لا أعرف ما إذا كانت كل هذه الثروة الهائلة تجعلهم أكثر سعادة، أم أن المال نفسه هو أهم شيء بالنسبة لهم. أعتقد أن أحد أسباب السرقة بهذا الحجم هو أنهم يرون أنفسهم ممثلين للدولة ويشعرون أن كونهم أفقر من مجموعة من رجال الأعمال سيكون بمثابة إذلال، ونوعا من الإهانة للدولة. كان من المعتاد أن تمنحك الرتبة الرسمية مكانة عليا، أما الآن فيجب أن يكون لديك مبالغ طائلة أيضًا. هذا ما فعلته التسعينيات بالمجتمع الروسي".

يرتبط السيلوفيكيون بشكل طبيعي بفكرة النظام العام، وهو نظام يضمن سلطتهم وممتلكاتهم، لكنهم يعتقدون أيضًا أنه ضروري لمنع سقوط روسيا مرة أخرى في فوضى التسعينيات والثورة الروسية والحرب الأهلية، ومن وجهة نظرهم، فإن كارثة التسعينيات لم تشمل فقط التدهور الكارثي للدولة والاقتصاد، ولكن الفوضى الأخلاقية المدمرة اجتماعيًا، ولم يكن رد فعلهم مختلفًا عن رد فعل المجتمع الأميركي المحافظ على الستينيات، أو المجتمع الألماني المحافظ لعشرينيات القرن الماضي.

يحظى بوتين والسيلوفيكيون -في هذا- بتعاطف أجزاء كبيرة جدًا من الشعب الروسي الذين لا يزالون مستائين بشدة، سواء بسبب الطريقة التي تعرضوا بها للخيانة والنهب في التسعينيات، أو ما يرون أنه ازدراء صريح تجاه الروس العاديين من قِبل النخب الثقافية الليبرالية في موسكو وسانت بطرسبرغ.

في إحدى المناسبات التي لا تُنسى في منتصف التسعينيات، طُلب مني إلقاء كلمة بعد عشاء في مؤتمر عقده أحد البنوك الغربية الرائدة للمستثمرين الغربيين والنخبة المالية الروسية، وكان العشاء قد أقيم في ملهى ليلي شهير في موسكو، وعندما نفد مني الوقت، لم يطلب مني رئيس الجلسة أن ألخّص كلامي باحترام وأدب، بدأتْ بدلا من ذلك نسخة مُحدّثة من أغنية وطنية سوفييتية بالتأجج، وظهر من ورائي على خشبة المسرح شخص يرتدي زي دب ويلوح بالراية العسكرية الروسية ويقود مجموعة من الراقصين يرتدون نسخًا قصيرة جدًا من الزي الوطني الروسي.

في مواجهة هذا المشهد، لم أتمكن من إكمال أفكاري، وعدت إلى طاولتي مرتبكًا، وأشعرني هذا ببرودٍ ما، وتذكرت مشهدًا من فيلم Cabaret لعام 1972، الذي جرت أحداثه في ملهى ليلي في فايمار برلين[12] قبل وقت قصير من صعود النازيين إلى السلطة، حيث يؤدي الراقصون محاكاة ساخرة لاستعراض أمام جمهور يضحك على أنغام مسيرة عسكرية ألمانية شهيرة، وتساءلت عمّا إذا كان في روسيا أيضًا، سيكون هناك فاتورة رهيبة لدفع ثمن كل هذه المتعة، وأخشى أن أوكرانيا والجنود الروس يدفعونها الآن.

سيكون أحد أسوأ آثار هذه الحرب هو العزلة الروسية طويلة الأمد عن الغرب، وأعتقد أن بوتين والسيلوفيكيين يرحبون بهذه العزلة، لأنهم صاروا معجبين بالنموذج الصينيّ؛ اقتصاد ديناميكي للغاية، ومجتمع منضبط، وقوة عسكرية عظمى متنامية تحكمها سيطرة حديدية من قبل نخبة وراثية تجمع بين الثروة الهائلة والوطنية العميقة، وتروّج لفكرة الصين باعتبارها حضارة منفصلة ومتفوقة.

"أحد أسوأ آثار هذه الحرب سيكون العزلة الروسية طويلة الأمد عن الغرب" ("أ ب")

ربّما كانوا يرغبون في أن يدفع الغرب، روسيا، إلى أحضان الصين، على الرغم من الخطر المتمثل في تحويل روسيا إلى تابعة لبكين، وبالطبع تعتقد نُخب أن الحرب في أوكرانيا سترسخ الشعور الوطني في روسيا في أثناء حكمهم، فضلا عن السماح لهم بالانخراط في قمع مكثف باسم دعم المجهود الحربي، والذي بدأ بالفعل، مع إغلاق آخر وسائل الإعلام الروسية المستقلة المتبقية وفرض القوانين التي تعاقب أي انتقاد للحرب باعتباره خيانة.

تلتزم النخب السيلوفيكية والنخبة الرسمية الروسية بشكل عام وقبل كل شيء، لأسباب تاريخية وثقافية ومهنية وشخصية عميقة، التزامًا عميقًا ولا رجعة عنه بفكرة روسيا كقوة عظمى وبوصفها قطبًا في عالم متعدد الأقطاب. وإذا كنت لا تؤمن بذلك، فأنت لست جزءًا من المؤسسة الروسية، تمامًا كما لو كنت لا تؤمن بتفوق الولايات المتحدة العالمي، فأنت لست جزءًا من المؤسسة الخارجية والأمنية الأميركية.

لُخّصت مكانة أوكرانيا في هذه العقيدة بدقة على لسان مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، زبيغنيو بريجنسكي: "بدون أوكرانيا، لن تعود روسيا إمبراطورية أوراسية"، وتوافق المؤسسة الروسية على ذلك تمامًا، وقد اتفقوا أيضًا على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية على الأقل، على أنّ نيّة أميركا هي اختزال روسيا إلى قوة خاضعة من الدرجة الثالثة. وخلصوا في الآونة الأخيرة إلى أن فرنسا وألمانيا لن تعارضا الولايات المتحدة أبدًا. أخبرني أحد المثقفين من أبناء المؤسسة الروسية في عام 2019 أنه "لا يوجد باتجاه الغرب إلّا الأعداء".

ترى المؤسسة الروسية أن تشجيع القومية الأوكرانية عنصر أساسي في إستراتيجية واشنطن المناهضة لروسيا، حتى أن الأعضاء الذين يتمتعون بالهدوء والعقلانية في المؤسسة الروسية، انخرطوا غاضبين عندما تجرأت على الإيحاء في محادثة بأنه قد يكون من الأفضل لروسيا نفسها، أن تدع أوكرانيا وشأنها. يبدو أنهم مستعدون، إذا لزم الأمر، للقتال بلا رحمة لفترة طويلة وبتكلفة هائلة وبالمخاطرة بنظامهم لمنع حدوث ذلك.


الهوامش:

[1] اقتصادي إنجليزي.

[2] رجل دولة فرنسي، وكان رئيس الوزراء لفرنسا من 1906 لـ1909 ومن 1917 لـ1920، وقاد فرنسا خلال الحرب العالمية، وكان من أهم المساهمين في مُعاهدة "فرساي" وقد لُقّب بعددٍ من الألقاب منها، أبا النصر والنّمر.

[3] أو الأوليغاركية أو حكم الأقليِّة، وهي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية، وتشتق الكلمة من الكلمة اليونانية أوليغارخيا "ὀλιγαρχία"، وتعرف الكلمة في القاموس السياسي الفرنسي على أنها "النظام السياسي الذي تكون فيه معظم القوى في أيدي عدد قليل من الأفراد، كبعض العائلات أو جزء صغير من السكان، وعادة ما تكون الطبقة الاجتماعية أو الطائفة، تكون مصدر قوتهم الثروة، التقاليد، القوة العسكرية، القسوة.. إلخ".

[4] سياسي روسي سوفييتي وأصبح أول رئيس للاتحاد الروسي، وامتدت ولايته من عام 1991 إلى عام 1999.

[5] يُعرف أيضًا باسم بلاتون يلينين، ملياردير يهودي روسي المولد، يحمل الجنسيتين الروسية والإسرائيلية. بعيد بدء التحقيقات حوله في روسيا غادرها إلى بريطانيا في 2001 حيث مُنح اللجوء السياسي، بينما تعيش عائلته في إسرائيل. يعرف عنه مواقفه العدائية من النظام الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين. اعتنق المسيحية الأرثوذكسية عام 1990.

[6] شخصية إعلامية روسية كبيرة وأسس عددًا من القنوات التلفزيونية والصحف والمجلات في رُوسيا قبل طرده منها، ويحمل الجنسيات الروسية والإسرائيلية والإسبانية.

[7] رجل أعمال روسي يهودي صنف عام 2003 على أنه أغنى رجل في روسيا، إذ قُدّرت ثروته بـ15 مليار دولار، واعتُقل في العام نفسه بتهمة الاحتيال.

[8] أو كما تعرف بالإمبراطورية الروسي، والتي ابتدأت منذ عام 1721 وحتى قيام الثورة البلشفية سنة 1917، وكانت خلفًا لروسيا القيصرية وسلفًا للاتحاد السوفيتي، وكانت تعد ثاني أكبر إمبراطورية من حيث الامتداد الجيوغرافي.

[9] ثورة الديسمبريين أو انتفاضة الديسمبريين في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1825، حيث قاد بعض ضباط الجيش الإمبراطوري احتجاجًا ضد تولي القيصر نيقولا الأول العرش بعد تنحي أخيه الأكبر قسطنطين بافلوفتش عن قائمة ولاة العهد، وانتهت الثورة بسحق المحتجين ونفي بعضهم إلى سيبيريا، وكان لها آثارٌ على سياسة نيقولا في الحكم مثل تحريره للأقنان (حالة من الرق/العبودية كانت في روسيا في ظل الإقطاع).

[10] السيلوفيك، مصطلح سياسي روسي يشير إلى رجل السياسة الذي أتاها بخلفية في الأمن والجيش أو الخدمات الأمنية الأخرى مثل وكالة الاستخبارات السوفيتية، أو مديرية المخابرات الرئيسية، أو جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، أو خدمة المخابرات الخارجية، أو خدمة الحراسة الاتحادية، أو جهاز مكافحة المخدرات الفدرالي الروسي.

[11] أكبر حزب سياسي في روسيا الاتحادية، وهو يحتل 238 مقعدا من جُملة الـ450 مقعد بالبرلمان الروسي (دوما)، يُصَنِّف نفسه على أنه حزب محافظ.

[12] أو جمهورية "فايمار" التي نشأت في ألمانيا في الفترة من 1919 إلى 1933 كنتيجة الحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا الحرب. سميت الجمهورية الناشئة باسم مدينة فايمار الواقعة بوسط ألمانيا والتي اجتمع بها ممثلو الشعب الألماني في العام 1919 لصياغة الدستور الجديد للجمهورية والذي اتبعته الجمهورية حتى العام 1933، حين تمكّن الزعيم النازي أدولف هتلر من إحكام سيطرته على مقاليد الحكم في برلين بعد توليه منصبي المستشارية ورئاسة الجمهورية، واعتبر المؤرخون هذا الحدث نهاية جمهورية فايمار.

التعليقات