09/01/2023 - 22:13

أعمال بدون عمّال: العمل في عصر رأسماليّة المنصّات الرقميّة

ترجمة بتصرّف خاصّة بـ"عرب 48"، لمقال عبارة عن مراجعة لكتاب "أعمال بدون عامل: العمل في عصر رأسمالية المنصات الرقمية" للباحث فِل جونز والصادر عام 2021، والتي أجراها أستاذ الاقتصاد في "كلية المجتمع" في تاكوما بواشنطن، روب لارسون

أعمال بدون عمّال: العمل في عصر رأسماليّة المنصّات الرقميّة

رجل يعمل من منزله في مانيلا، بالفلبين (Getty Images)

أصبحت المنصات الرقمية جزءًا أساسيًا من حياتنا لدرجة صرنا نتحدث عن التأثير على "الخوارزمية"، عندما نناقش قضايا التغيير، من "تويتر" و"إنستغرام" إلى ما يقترحه "جوجل" في شريط البحث أثناء الكتابة، وصولا للإعلانات المعروضة عند كل منعطف، تعرضُ العمليات الخوارزمية المخفية محتواها أمامكم، وتتعلم من اختياراتكم، لتتدرب وتتعلم أكثر في رحلتها لتلبية احتياجاتكم بشكل أفضل.

وهي عمليات أساسية لتجربتنا الإلكترونية، لكن على حساب استغلال عمالة ضخمة وراء الكواليس، إذ يُشرف على تدريب وتطوير الخوارزميات عمال "مايكرو" يتولون مهام صغيرة جدًا، ولكن بكميات ضخمة خاصة في ظل صناعة تكنولوجية دائمة التطور، ومنهم نساء ورجال يحيون في مجملهم في الدول النامية، ويدربون هذه الأنظمة يدويًا، آخذين على عاتقهم مهام تستمرّ لدقائق أو أقل، مثل الإبلاغ عن المنشورات العنيفة أو الإباحية في وسائل التواصل الاجتماعي، أو ترتيب نتائج البحث في جوجل، وكل هذا مقابل سنتات.

يشرف هؤلاء على ما يسمى بـ"مهام الذكاء البشري"، وعملهم جوهري لنجاح المنصات التكنولوجية العملاقة، ولكنهم يُستغَلّون بفجاعة في ظل جشع الشركات، وغياب أي شكل تنظيمي تمثيلي. يقدم كتاب فِل جونز "أعمال بدون عمال: العمل في عصر رأسمالية المنصات" رؤيته حول هذه الأيدي الخفية، وتحديات تنظيمها.

(Getty Images)

يُحافظ سحر التكنولوجيا في الولايات المتحدة على وهم الخوارزميات ذاتية التعلم، فهي من تساعدهم في تحديد أفضل مطعم، أو فرز الصور عند البحث، لكن الواقع هو أن "تصنيف البيانات، هو جوهر سِحر تعلم الآلة، ووراء طقوس عبادة البضائع في وادي السيليكون مساع جبارة وشاقة لغربلة خطابات الكراهية، والصور، والتعليقات المسيئة، وتعليم الخوارزميات كيفية تحديد القطط في الكابتشا".

تحافظ الآلاف من هذه العمليات على سلاسة تجارب المستخدم، وتتزايد الحاجة لمساهمتهم في ظلّ الهوس وراء التقنيات الجديدة، مثل السيارات ذاتية القيادة وتدريب روبوتاتها على تمييز إشارات المرور من المشاة.

تبدأ العملية بتسجيل عمال المايكرو (بروليتاريا القرن الحادي والعشرين) دخولهم إلى مواقع مثل Mechanical Turk أو Appen أو Clickworker أو غيرها من منصات الأعمال المايكرو، لإكمال مهام تستغرق غالبًا دقائق أو حتى ثوانٍ، ويمتلك أرباب العمل، أي أصحاب المهام المعروضة، صلاحيات مطلقة على المنصة، بدون أية إشارة لتقييم من عملوا معهم سابقًا، لكن العمال، وعلى النقيض، يُقيّمون بشكل كامل وتُعرض تقييماتهم أمام أرباب العمل.

نادرا ما يعرف العمال الهدف النهائي لعملهم، أو هوية أصحاب المشاريع، نظرا للطبيعة البسيطة للوظائف، مما يخلق تفاوتا هائلا في امتلاك المعلومات. كما تستقطب المنصات أكبر عدد ممكن من العمال لمعالجة المهام المُدرجة، وذلك للحفاظ على مستوى إنتاجية عالٍ مع تقليل المقابل المادي لكل مهمة، إلى جانب انقلاب الموازين ضد العمال أكثر مع غياب مساحة عمل فعلية، وأية علاقة إنسانية مباشرة مع زملائهم، خاصة مع إمكانية طرد أي منهم بسهولة من المنصة.

(Getty Images)

الترجمة من المجالات الرئيسية التي شهدت انفجارًا كبيرًا في هذا القطاع من الأعمال، حيث يلاحظ جونز بأن استغلال العمال في هذه المهام الصغيرة، مثل ترجمة إرشادات المرور وكتيبات الأجهزة، "يظهر لنا بفجاعة، المسار العنيف لرأس المال بعلاقته بالمسارات المهنية؛ مع تحويل المختصين في المهن الاحترافية إلى بروليتاريا".

كما يُناقش جونز الادعاء الأكبر بأن قطاعات هائلة من الوظائف ستُمسي مؤتمتة مستقبلًا، ملاحِظًا أن الرهاب الحالي من "اندثار بعض الوظائف كليةً" سيحلُّ محله "التكيف مع شكل معين للوظائف... وتغيير طبيعة العمل كلية"، وسيدرك العديد من العمال أن التكنولوجيا الجديدة في وظائفهم تعني استمرار الوظائف، لكن في مسارات جديدة وجوانب أقل مُتعة من الوظيفة.

إن أشكالا مختلفة من "العمل الفرعي" هي النتيجة المتوقعة لدور الذكاء الاصطناعي على المدى القريب في تطور الرأسمالية، من مقاولي "أوبر" إلى متلقي الرعاية الاجتماعية، الذين أجبروا على "الرعاية الاجتماعية المشروطة" رغمًا عنهم. كما يشير جونز بعبقرية إلى أن "المتشائمين من الأتمتة... يخفقون في رؤية أن تعميم تكنولوجيا معينة مرهون بقلة تكلفتها، مقارنة بتوظيف قوى عاملة بشرية".

أوغاد ميكانيكيون

بعض منصات العمل المايكرو الأكبر لديها عملاء من شركات التكنولوجيا الكبرى على غرار "جوجل" و"مايكروسوفت" و"أمازون" (مالكة Mechanical Turk). بالطبع لا يخفى علينا جاذبية استعمال عمال المايكرو، فقد أطلق جيف بيزوس على Turkers اسم "الذكاء الاصطناعي المُصنع"، مدركًا دورهم في جعل خوارزميات البحث والإشراف على المحتوى اليوم تبدو أكثر أتمتة وكفاءة مما هي في الواقع.

استأجرت جوجل منصة الأعمال الكبيرة Appen المُسماة سابقًا Figure Eight أثناء عملها في Project Maven، وهو عقد مع وزارة الدفاع لبرنامج الذكاء الاصطناعي لفرز فيديوهات الطائرات المُسيرة، فكما هو الحال مع المركبات ذاتية القيادة، يتطلب استهداف الطائرات المسيرة بالذكاء الاصطناعي فرز كميات هائلة من البيانات، حتى "يتعلم" البرنامج التمييز بين التدفق الهائل لبيانات الكاميرا المستمرة.

(Getty Images)

يختار العمال، بدون علمهم بالتأكيد، صورًا تشبه الكابتشا لتمييز المباني من التلال والسيارات عن الناس، كما تتعاقد Appen مع مايكروسوفت وخدمات "أمازون" الشبكية في مشاريع مختلفة، بينما يستخدم Twitter Turk لتحديد المواضيع الشائعة بسرعة. يُشتبه أيضًا في استخدام أمازون لشركة Turk لتدريب برنامج التعرّف على الوجه المزعوم، والذي بيع إلى أقسام الشرطة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، إلى جانب تأسيس جوجل منصة الأعمال المايكرو الخاصة بها Raterhub، لهدف محوري في اختبار جودة نتائج البحث واستدامتها (بخلاف حشو النتائج بالإعلانات المدفوعة).

يصنف مقيمو البحث (عمال المايكرو)، خاصة من دولة الفلبين، أهمية نتائج البحث في محرك البحث جوجل ومدى ملاءمتها، والإبلاغ عن العناصر المسيئة أو غير القانونية، أي إنهم يدعمون فعليًا خوارزمية جوجل البحثية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، في بلد بلغ متوسط دخله 3430 دولارًا في عام 2020.

وبتجاوز مواضيع توفير فرص عمل ومشاريع إنمائية للمجتمعات الفقيرة حول العالم، نجد واقعًا مختلفًا: فمتوسط راتب العامل منهم يقل عن 2 دولار في الساعة. هي مهنة يختارها اللاجئون وسكان الأحياء الفقيرة في العالم النامي وعمال القطاع الخدماتي، لذلك تبدو فكرة العمل المايكرو كإستراتيجية مهنية أو تنموية دولية مثيرة للضحك.

يستعرض جونز العقبات الهائلة التي تحول دون تنظيم العمال، ممن يفتقرون لملفات تعريف مستخدم، ويفتقدون لأية نظام تواصل بينهم، أو مساحة عمل واجتماع فعلية. الأسوأ من ذلك كله أنهم يقوضون مهنتهم بأيديهم، لأن منصات الأعمال المايكرو مثل Mechanical Turk تُسجل جميع البيانات المتعلقة بإكمال المهام المطلوبة -المدة الزمنية وخطوات التصنيف وترتيبها- لزيادة مستوى الأتمتة في نهاية المطاف، وتعليم الخوارزمية "كيف تؤدي عملها".

(Getty Images)

هذا يقود جونز لملاحظة أنه في حين أن Turk "يبدو كوسيط أعمال... فإن الغرض الحقيقي منه توفير وتصنيف البيانات لخدمات أمازون الشبكية". وفي ظل افتقار العمال التام لاتحادات عمالية والهيمنة شبه الكاملة لطالب المهام المجهول، يخلص جونز إلى أن "العمل المايكرو يمثل قمة الخيال النيوليبرالي: رأسمالية بدون نقابات وثقافة ومؤسسات عمالية، أي رأسمالية بدون عامل يزعجها".

إن ازدراء جونز النثري لهذه المنصات جعل الكتاب في متناول اليد، فكما يصف بيئة العمل المايكرو النموذجية "مساحات عمل ضيقة ومخنوقة يزينها مزيج من الكابلات والأسلاك المتشابكة، وهي النقيض النظري المثالي للحرم الجامعي شبه السماوي الذي يسكنه أسياد الكون الجدد". ويقصد بذلك مكاتب شركات التكنولوجيا الضخمة.

إن اعتماد المنصات الرقمية على القوى العاملة المايكرو مذهل لدرجة أن "إضراب المشرفين على المحتوى سيغرق حسابات المستخدمين بصور عنيفة وإباحية على الفور"، كما يشير جونز. لكن رأس المال تنبّأ بذلك فعندما انسحب العمال المايكرو غير المتعاقدين مع فيسبوك بسبب استخدام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، للمنصة لنشر الأكاذيب، جاء في بيان المشرف عنهم ما يلي: "سننسحب معكم إذا سمح فيسبوك بذلك. بصفتنا مقاولين خارجيين، فإن اتفاقيات عدم الإفصاح تمنعنا من التحدث بصراحة عما نفعله وما نشهده طوال ساعات عملنا الطويلة".

يستعين جونز بالدروس المستفادة من النجاحات التنظيمية العمالية السابقة للتوصية ببعض الإستراتيجيات. وبدلا من التنظيمات والمفاوضات الجماعية، يصف إجراءات مماثلة لإضرابات "أوبر" 2018- 2019 في كيب تاون ومومباي، والتي سدّت الشرايين المركزية للمدن بمطالباتهم بتخفيض أسعار الوقود، والإجراءات التي اتخذها السائقون في لندن وباريس عند تحميلهم أعباء السياسات المناخية.

(Getty Images)

كما يقدم حجة قوية دفاعًا عن مراكز لاتحادات العمال المايكرو، وجمعيات العمال بدون أجر، ويطالب بإزالة تسليع الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية وربطها بأداء مهام معينة، إلى جانب مناقشة تكتيكات مراوغة مثل منصة Turkopticon، وهو مكون إضافي للمتصفح يغطي واجهة الموقع، ويسمح بإجراء مراجعات مباشرة لمقدمي المهام.

ويرى أن الخيار المتاح للعمال "للمقاومة هو تشكيل تحالفات أوسع". ولو نظرنا بعيدًا عن هيمنة مراكز البيانات الضخمة والواجهات الرقمية السلسة، سنجد في غبش الظلمة الإلكترونية هذه قوى عاملة كادحة تمامًا مثل أي شركة أخرى في ظل الرأسمالية، لكن الطبيعة الغامضة للاقتصاد الرقمي تخلق مناخًا ضبابيًا، يجعل رؤية ما يجري وراء الكواليس أمرًا صعبًا، بدون أن ننسى العبادة المعاصرة للتكنولوجيا وما تخلفه من لامبالاة بما يُدار وراء الستار، فلا أحد يبالي.

التعليقات