19/07/2023 - 16:00

مخاطر العلوم الشعبية: يوفال نوح هراري نموذجًا

تعد موهبة سرد القصص وحكايتها في عصرنا ضرورية، ولكنها أكثر خطورة من أي وقتٍ مضى، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلم. يُساعد العلم البشر على اتخاذ قرارات طبية وبيئية وقانونية وغيرها الكثير، ويؤثر على حيواتنا الشخصية

مخاطر العلوم الشعبية: يوفال نوح هراري نموذجًا

(Getty)

عند مشاهدتك لأحد فيديوهات يوفال نوح هراري، مؤلف الكتاب الرائج «العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري»، سوف تسمعه يستقبل أكثر الأسئلة إثارة للدهشة:

• «بعد مئة عام من الآن، هل تعتقد أننا سنظل مهتمين بأن نكون سعداء؟» – الصحفي الكندي ستيف بايكين، في برنامج «الأجندة مع ستيف بايكين».

• «لا أهمية تذكر لكل ما أفعله... كيف أستعد لمستقبلي؟» – طالبة تدرس اللغات في جامعة أنتويرپ.

• «قلت في نهاية العاقل إننا يجب أن نطرح سؤالاً حول ماذا نريد أن نريد؟ حسنًا، ما الذي تعتقد أننا يجب أن نريده؟» – شخص من حضور حوارات TED «القومية في مواجهة العولمة: الانقسام السياسي الجديد».

• "أنت تُمارس تأمل ڨيباسانا. هل يساعدك هذا النوع من التأمل على الاقتراب من مركز قوتك؟» – مدير الجلسة في لقاء خاصٍ لصحيفة الهند اليوم عام 2018.

يتسم أسلوب هراري باللباقة والخجل في هذه اللقاءات، إذ يعتذر في لحظة معينة بلطف، ويقول إنه لا يمتلك قوى العرافة، إلا أنه سرعان ما ينتقل للإجابة عن السؤال بسلطة تجعلك تتساءل عما إذا كان عرَّافًا فعلًا. قال هراري لپايكين، بعد مئة عام من الآن، من المحتمل جدًا أن يختفي البشر، وستكون الأرض مأهولة بكائنات مختلفة تمامًا مثل السايبورغ والذكاء الاصطناعي، وأضاف مؤكدًا أنه «من الصعب التنبؤ بنوع الحياة العاطفية أو العقلية لمثل هذه الكيانات». وأجاب الطالبة الجامعية ناصحًا إياها بتنويع مهاراتها؛ لأن سوق العمل في 2040 سيكون مختلفًا تمامًا عن سوق اليوم. وقال في مؤتمر TED مجيبًا على سؤال الجمهور «نريد أن نعرف الحقيقة». وفي الإجابة على سؤال مدير جلسة اللقاء الخاص لصحيفة الهند اليوم، أشار هراري، دون أن يبتسم لسخافة السؤال، «أمارس تأمل ڨيباسانا لأرى الواقع أكثر وضوحًا»، وأردف بعدها بلحظات: «إذا لم أتمكن من ملاحظة حقيقة أنفاسي لمدة 10 ثوانٍ، فكيف أؤكد على رغبتي وسعيي لمراقبة واقع النظام الجيوسياسي؟».

إذا لم تزعجك إجاباته أعلاه، ففكر بالآتي: من بين قطعان متابعي هراري بعض أقوى الشخصيات في العالم، ويتوجهون إليه بالسؤال، مثلما اعتاد الملوك قديمًا التوجه إلى عرَّافيهم. سأل مارك زوكربيرغ هراري عمَّا إذا كانت البشرية قد صارت أكثر توحدًا أو تشتتًا بسبب التكنولوجيا. سأله المدير العام لصندوق النقد الدولي عمَّا إذا كان الأطباء سيعتمدون على الدخل الأساسي العالمي في المستقبل. سأله الرئيس التنفيذي لشركة آكسل سبرينگر، إحدى أكبر دور النشر في أوروبا، عمَّا يجب على الناشرين فعله لتحقيق النجاح في العالم الرقمي. سأله أحد المحاورين مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عن تأثير كوفيد-19 على التعاون العلمي الدولي. قوَّض كل واحدٍ من الأسماء الكبيرة السابقة سلطته أمام ادَّعاءات هراري الناقصة وغير المُثبتة. وقد فعلوا ذلك مع شخصٍ لا يملك أي خبرة في مجالاتهم المتخصصة، وإنما لمؤرخٍ مُخادعٍ، وخصوصًا في المجال العلمي.

غلاف الكتاب

عندما تضربنا الأوقات العصيبة، نبدأ بالبحث عن إجابات لأبسط الأسئلة عن الحياة والموت، هل سينجو البشر من الموجات القادمة من الجائحات وتغير المناخ؟ هل تحتوي جيناتنا على مفتاح فهم كل شيء عنَّا؟ هل ستنقذنا التكنولوجيا أم ستدمرنا؟ ومن المفهوم تمامًا انتشار رغبة بين الناس لوجود عرّاف حكيم، مثل نبيّ، يقفز بجرأة عبر التخصصات المختلفة ويقدّم إجابات بسيطة وسهلة وواثقة ويضعها جميعًا في قالب قصصي شيِّق. نعم هو أمر مفهوم، ولكن هل هو واقعيّ؟

يخيفني أن هذا السؤال، بالنسبة للكثيرين، يبدو غير ذي صلة. يعتبر كتاب هراري «العاقل» ملحمة شاملة للأنواع البشرية، من بداياتنا المتواضعة كقردة متطورة إلى المستقبل الحالي حيث نكتب الخوارزميات التي ستطيح بنا وتهيمن علينا. نُشر «العاقل» باللغة الإنجليزية في عام 2014، وبحلول عام 2019، كان قد تُرجم إلى أكثر من 50 لغة، وبيعت منه أكثر من 13 مليون نسخة. أوصى الرئيس الأميركي الأسبق بالكتاب على قناة «سي إن إن» في عام 2016، وقال إن الكتاب، مثل أهرامات الجيزة، أعطاه «إحساسًا بالمنظور» حول حضارتنا غير العادية. نشر هراري كتابين آخرين حقّقا أعلى المبيعات لاحقًا وهما كتاب «الإنسان الإله: تاريخ مختصر عن المستقبل (2017)»، وكتاب «21 درسًا للقرن الواحد والعشرين (2018)»، وباعت كتبه بالمحصلة ما ينوء عن 23 مليون نسخةً في جميع أنحاء العالم. يعد هراري من أكثر المثقفين رواجًا في العالم، حيث يتحدث عن مساحات واسعة ومتباعدة، ويكسب مئات الآلاف من الدولارات مقابل كل ظهور إعلامي يتحدث فيه.

أغوانا هراري بقدراته القصصية والحكائية، ولم يُغرنا بعلمه أو حقيقة ما يقدّمه. نظرًا لطبيعة عملي العلمية، أعرف مدى صعوبة تحويل القضايا المعقدة إلى قصص جذابة ودقيقة للجمهور، وأعرف تمامًا متى نتنازل عن العلم لصالح الإثارة. يندرج يوفال نوح هراري تحت تصنيف «مروجو العلوم للعموم» (كما يندرج عالم النفس الإكلينيكي ومشهور اليوتيوب جوردن پيترسون في التصنيف عينه). يُعرَّف «مروجو العلوم للعموم» باختصار على أنهم حكَّاؤون ورواة قصص موهوبين، ويعرفون كيف ينسجون خيوطًا مثيرة حول «الحقائق» بلغة بسيطة ومقنعة عاطفيًا. تُنظَّف قصصهم، إلى حدٍ كبير، من الفروق الدقيقة بين الأمور، أو يُلغى الشك في أمور أخرى، لصالح القصة، وهو ما يمنحهم، أمام الآخرين، إحساسًا زائفًا بالسلطة، ويجعل رسالتهم أكثر إقناعًا. ومثل نظرائهم السياسيين، يُعد مروجو العلوم للعموم مصدرًا للمعلومات المضللة، فهم يروجون لأزمات كاذبة، ويقدّمون أنفسهم وكأنهم يعرفون الإجابات كلها. يعرفون مدى غواية القصة المحكية، ويسعون على الدّوام لزيادة رقعة جمهورهم، دون الاهتمام لمدى تشويه المادة العلمية التي يقدمونها، في سبيل تحقيق الشهرة والتأثير.

تعد موهبة سرد القصص وحكايتها في عصرنا ضرورية، ولكنها أكثر خطورة من أي وقتٍ مضى، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلم. يُساعد العلم البشر على اتخاذ قرارات طبية وبيئية وقانونية وغيرها الكثير، ويؤثر على حيواتنا الشخصية، حول ما نقلق حياله، وكيف نعيش حياتنا. تعتمد أفعالنا المُجتمعية والفردية المهمة والحرجة، الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، على أفضل فهم لدينا للعالم من حولنا، خصوصًا مع انتشار الجائحة قبل ثلاثة أعوام، ومع اقتراب آثار تغير المناخ.

حان الوقت لإخضاع نبينا «المروِّج»، ومن أمثاله، للتدقيق الحقيقي والجاد.

قد يكون هذا مفاجئًا، لكن أعمال يوفال هراري لم تلق سوى القليل من المراجعات العلمية المدروسة. قدم مشرف أطروحة هراري، البروفيسور ستيڤن گن من جامعة أكسفورد الذي أشرف على بحث هراري حول «مذكرات عصر النهضة العسكرية: الحرب والتاريخ والهوية، 1450-1600» اعترافًا مذهلاً، وقال إن تلميذه السابق قد تفادى عملية التحقق من المعلومات في بحثهِ. وفي ملف عن هراري في صحيفة نيويورك عام 2020، افترض گن أن هراري قد تجنب نقد الخبراء، في كتاب «العاقل» تحديدًا، بقوله «دعونا نطرح أسئلة كبيرة جدًا بحيث لا يمكن لأحد أن يقول إن هذه الجزئية أو تلك خاطئة... فلا يمكن لشخصٍ واحدٍ أن يكون خبيرًا في كل شيء، أو في تاريخنا جميعًا، على طول التاريخ».

ولم يمنعني هذا من محاولة قراءة «العاقل» قراءة متفحصة ودقيقة، وهو الكتاب الذي منح هراري شهرته. استشرت زملائي من علم الأعصاب والبيولوجيا التطورية، ووجدت أن أخطاء هراري عديدة وجوهرية، ولا يمكن استبعادها على أساس أنها تصيد في الماء العَكِر. فعلى الرغم من أن الكتاب مصنف على أنه كتاب «غير خيالي أو غير روائي»، إلا أن بعض قصصه أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، وكلها علامات نجدها عند مروجي العلوم للعموم.

ولنأخذ، على سبيل المثال «الجزء الأول: الثورة المعرفية»، حيث يكتب هراري عن قفزة جنسنا البشري إلى قمة السلسلة الغذائية، قفزًا فوق الأسود، على سبيل المثال.

«فمعظم الحيوانات المفترسة المتربعة على رأس الهرم الغذائي كائنات عريقة ملأتها ملايين من السنين من السيادة بالثقة بالنفس، أما العقلاء، ونقيضًا لذلك، فكانوا أشبه بطاغية من جمهوريات الموز. فلأننا كنا حتى فترة قريبة نسبيًا أحد مستضعفي الساڤانا، فإننا مملؤون بالمخاوف والقلق على مكانتنا، ما جعلنا قساة وخطيرين على نحو مضاعف» .

يستنتج هراري أن «كثيرٌ من الأحداث المأساوية في التاريخ، من الحروب المهلكة إلى الكوارث البيئية، قد جاءت نتيجة لهذه القفزة المتعجلة» . بصفتي عالمة أحياء تطورية، يجعلني هذا الكلام أصك على أسناني بقوة. ما الذي يجعل الأسد واثقًا من نفسه؟ أن يزأر بصوتٍ عالٍ؟ سرب من اللبوات؟ مخلب قوي؟ هل استنتاج هراري مبني على ملاحظات ميدانية أو تجارب في المختبر؟ (لا يحتوي النص على أي دليل عن مصادره). هل القلق حقًا يجعل البشر قساة؟ هل يشير إلى أنه لو أخذنا وقتنا في الوصول إلى قمة السلسلة الغذائية، فلن يكون في هذا الكوكب حروب أو تغير مناخي من صنع الإنسان؟

تستحضر قراءة الفقرة السابقة مشاهد من فيلم «الأسد الملك (1994)» حين نرى موفاسا يُخبر ابنه سيمبا بأن كل شيء يلمسه الضوء يقع داخل مملكته. يضج سرد هراري بالحياة، ويلفت النظر، لكنه لا يمت للعلم بصلة.

الأسد الملك (1994)

ولنطلع الآن على مقطعٍ من كتاب «العاقل» حول مسألة اللغة، حيث يدّعي هراري أن «كثير من الحيوانات بما فيها كل أنواع القردة والقردة العليا، لديها لغة صوتية». أمضيت عقدًا من الزمان في دراسة الاتصال الصوتي لدى سعادين القشّة أو سعدان العالم الجديد (من حين لآخر، تضمن تواصلهم معي تبولهم في اتجاهي). درسنا في معهد پرينستون لعلوم الأعصاب، حيث تلقيت درجة الدكتوراه، كيف ينشأ السلوك الصوتي من تفاعل الظواهر التطورية والنمائية والعصبية والميكانيكية الحيوية. نجح عملنا في كسر الحقيقة القائلة بأن تواصل القرود (على عكس التواصل البشري) مبرمج مسبقًا في شفرات عصبية أو جينية. واكتشفنا أن صغار القرود تتعلم «التحدث» بمساعدة والديها بطريقة مشابهة للطريقة التي يتعلم بها الأطفال.

ومع ذلك، على الرغم من كل أوجه التشابه بينها وبين البشر، لا يمكن القول بأن القرود لديها «لغة»، فاللغة نظام رمزي مرتبط بالقواعد حيث تشير الرموز (الكلمات والجمل والصور وما إلى ذلك) إلى الأشخاص والأماكن والأحداث والعلاقات في العالم، ولكنها تستحضر وتشير أيضًا إلى الرموز الأخرى داخل النظام نفسه (على سبيل المثال، أن تعرّف الكلمات بكلمات أخرى). يمكن لنداءات الإنذار من القرود وأغاني الطيور والحيتان أن تنقل المعلومات، لكننا، كما قال الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر، نعيش في «بُعد جديد للواقع» عبر اكتسابنا لنظام رمزي.

قد يكون للعلماء نظريات متنافسة حول كيفية نشوء اللغة، لكن يتفق جميع اللغويين مثل نوعام تشومسكي وستيڤن پينكر، وكثير من الخبراء في التواصل مع الرئيسيات مثل مايكل توماسيلو وآصف غضنفر، على أنه على الرغم من وجود السلائف في الحيوانات الأخرى، فإن اللغة موجودة فقط عند البشر، وهذا مبدأ يُدرّس الآن في فصول علم الأحياء الجامعية حول العالم، ويمكن الوصول إليه من خلال بحث سريع على الإنترنت.

يُعارض زملائي العلماء ما يروج له هراري أيضًا. يشير عالم الأحياء هجلمار توريسون إلى أن تأكيد هراري بأن الشمبانزي «يصطادون معًا ويحاربون كتفًا بكتف ضد قرود الربّاح والفهود والشنابز الأعداء» لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ لأن الفهود والشمبانزي لا يعيشون في نفس الأجزاء من إفريقيا، ويضيف توريسون: «لعل هراري يخلط بين الفهود والنمور».

لعل التفاصيل غير ذات أهمية هنا، ولا ضير من عدم التمييز بين الفهود والنمور، لأن هراري يكتب قصة البشر، إلا أن أخطاءه، للأسف، تمتدُ إلى جنسنا البشري، فهو يشير في الفصل الذي يحمل عنوان «السلام في عصرنا» في كتاب «العاقل»، مثال الشعب الووراني في الإكوادور ليقول إنه تاريخيًا، «يرجع تراجع العنف بشكل كبير إلى صعود الدولة». يخبرنا أن شعب الووراني عنيفون؛ لأنهم يعيشون «في أعماق غابات الأمازون، بدون جيش، أو شرطة، أو سجون». صحيح أن معدلات الجريمة بين شعب الووراني كانت من بين أعلى المعدلات في العالم، ولكنهم يعيشون في سلام نسبي منذ أوائل السبعينيات. تحدثتُ إلى أندريس سمولكا، عالم الوراثة النباتية، الذي صادف أنه قضى وقتًا مع الووراني في عام 2015. ذكر سمولكا أن القانون الإكوادوري لا يُطبق في الغابة، وليس لدى الووراني أي شرطة أو سجون، وأخبرني: «إذا كانت الرماح ما تزال مصدر قلق وخوف، لكنت شعرت بهذا القلق والخوف وأنا بين أظهرهم. عملت هناك متطوعًا في مشروعٍ للسياحة البيئية، وكانت سلامة ضيوفنا أمرًا بالغ الأهمية». يستخدم هنا هراري مثالًا ضعيفًا ليبرر حاجتنا إلى دولتنا البوليسية والمعروفة بعنصريتها وعنفها.

قد تبدو هذه التفاصيل غير منطقية، لكن كلاً منها يمثل حجرًا متداعيًا فيما يقدمه هراري كذبًا على أنها أساسات راسخة. أظهرت قراءتي السريعة للكتاب هذا القدر من الأخطاء. ما الذي سنخرج به لو أننا قرأناه قراءة أكثر دقة وتفحصًا؟

لا يصف هراري في كتبه ماضينا فقط، بل يتنبأ بمستقبل البشرية نفسها. ويحق للجميع طبعًا تقديم تنبؤاتهم، ولكن من المهم معرفة ما إذا كانت هذه التنبؤات علمية ولها أساسات صلبة، خصوصًا لو كان صناع القرار يستمعون إلى هذه التنبؤات، وهو ما يحصل في حالة هراري. للتنبؤات الكاذبة عواقب وخيمة. قد تضلل الآباء ليأملوا في أن تقضي الهندسة الوراثية على التوحد. وقد تؤدي إلى ضخ أموالٍ طائلة على مشاريع لا مستقبل لها. أو قد تدفعنا مستقبلًا لنواجه جائحات جديدة ونحن غير مستعدين لها.

أقتبس لكم ما قاله هراري عن الجائحات في كتابه المنشور عام 2017 «الإنسان الإله: تاريخ مختصر عن المستقبل».

«تميل الكفة لصالح البشرية لذلك في الصراع ضد الكوارث الطبيعية مثل الإيدز والإيبولا [...] ويرجح إذن ألا تستمر الأوبئة الكبرى في تعريض الجنس البشري للخطر في المستقبل إلا في حالة واحدة وحسب، إذا خلقها الجنس البشري بذاته، لخدمة أيديولوجية وحشية. انتهى على الأرجح العصر الذي وقفت فيه البشرية عاجزة أمام الأوبئة الطبيعية. لكننا قد نحنُّ إليه».

(Getty)

أتمنى لو أننا نحن لهذا العصر فعلًا. مات أكثر من 6 ملايين إنسان بسبب كوڤيد-19 وفقًا للإحصائيات الرسمية، وتشير بعض التقديرات أن العدد الحقيقي يتراوح بين 12 و22 مليونًا. وسواء كنت تعتقد أن الفيروس المسؤول عن الجائحة جاء مباشرة من البرية، أو من معهد ووهان لأبحاث الڤايروسات، يمكننا أن نتفق جميعًا على أن الجائحة لم تكن لـ «خدمة أيديولوجية وحشية».

وقع هراري هنا في خطأ فادح، ولكنه، مثله مثل كل مروجي العلوم للعموم، واصل تقديم استشاراته المفترضة من خلال الظهور في العديد من العروض في أثناء الجائحة. كان ضيفًا لدى الإذاعة الوطنية العامة في أميركا، وتحدث عن «سُبل التعامل مع الجائحة والأزمة الاقتصادية الناتجة عنها»، وكان ضيفًا في برنامج كريستيان أمانپور لتسليط الضوء على «الأسئلة الأكثر إلحاحًا حول تفشي فيروس كورونا». ثم انتقل إلى بي بي سي نيوزنايت، حيث قدم «منظورًا تاريخيًا حول فيروس كورونا». وظهر بعدها في پودكاست سام هاريس، حيث أخبرنا عن «الآثار المستقبلية» لكوڤيد-19. وجد هراري أيضًا وقتًا للظهور على قناة إيران الدولية مع صادق سابا، وفي سلسلة لقاءات مع صحيفة الهند اليوم الإلكترونية، ومع عدد كبير من القنوات الإخبارية الأخرى حول العالم.

باستخدام الفرصة للترويج لأزمة كاذبة، وهي سمة أساسية أخرى للعلوم الشعبية، حذَّر هراري بقوة من «المراقبة السرية المرتبطة بالجسد» (مفهوم مقلق باعتراف الجميع)، وقال: «كتجربة فكرية، فكروا في حكومة افتراضية تطلب من كل مواطن ارتداء سوار بيومتري يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار 24 ساعة في اليوم»، وأشار إلى أن الجانب الإيجابي من هذه المراقبة قد يساعد الحكومة المفترضة في وقف أي وباء في غضون أيام، أمَّا الجانب السلبي، فهو أنه يمنح الحكومة نظام مراقبة محسنًا، لأنه «إذا كان بإمكانك مراقبة ما يحدث لدرجة حرارة جسدي وضغط دمي ومعدل ضربات قلبي في أثناء مشاهدة مقطع فيديو، يمكنك معرفة ما يجعلني أضحك، وما الذي يجعلني أبكي، وما يجعلني غاضبًا حقًا».

عواطفنا البشرية وتعبيراتنا عن العواطف ذاتية للغاية ومتغيرة، وتوجد اختلافات ثقافية وفردية في الطريقة التي نفسر بها أحاسيسنا. لا يمكن الاستدلال على عواطفنا عبر قياس ردات فعلنا الفسيولوجية المجردة من المعلومات السياقية (يمكن لعدو قديم، وعاشق جديد، والكافيين أن يزيدوا من معدل ضربات القلب). ولن يختلف الأمر، حتى لو تم رصد قياسات فسيولوجية أكثر شمولاً من درجة حرارة الجسم وضغط الدم ومعدل ضربات القلب. وحتى عند مراقبة حركات الوجه، فلن يعني الأمر شيئًا. وجد العلماء مثل عالمة النفس ليزا فيلدمان باريت أنه المشاعر مثل الحزن والغضب ليست موحدة عالميًا، على عكس الاعتقاد السائد منذ فترة طويلة، وأوضحت أن «حركات الوجه ليس لها معنى عاطفي متأصل لتُقرأ مثل الكلمات»، ولهذا لم نتمكن من إنشاء أنظمة تكنولوجية يمكنها أن تستنتج ما تشعر به أنت أو أنا في لحظة معينة (ولماذا قد لا نكون قادرين على بناء هذه الأنظمة الشاملة).

ادعاءات هراري باطلة علميًا، لكن لا يمكن رفضها. يقول زميلي عالم الأعصاب أحمد الهادي «نحن نعيش في سجن پانوبتيكون رقمي». الشركات والحكومات تراقبنا باستمرار. إذا سمحنا لأشخاص مثل هراري بإقناعنا بأن تقنيات المراقبة يمكن أن «تعرفنا بشكل أفضل مما نعرف أنفسنا»، فسنسمح للخوارزميات بأن تخدعنا، ولهذا الأمر آثار سيئة في العالم الحقيقي، مثل أن تحدد الآلة من يستحق التوظيف، أو من يُشكل خطرًا أمنيًا بناءً على الحكمة المزمعة للخوارزمية.

تستند تخمينات هراري باستمرار إلى فهم ضعيف للعلم. تنبؤاته لمستقبلنا البيولوجي، على سبيل المثال، تستند إلى وجهة نظر مركزية الجينات للتطور، وهي طريقة تفكير هيمنت (للأسف) على الخطاب العام بسبب شخصيات عامة مثله. تقدم مثل هذه الاختزالية نظرة تبسيطية للواقع، والأسوأ من ذلك أنها تنحرف بشكل خطير إلى منطقة علم تحسين النسل.

كتب هراري في الفصل الأخير من كتاب «العاقل»:

«لماذا لا نعود إلى مخطط الرب الأصلي ونصمم إنسانًا عاقلًا أفضل؟ هناك أساس جيني لقدرات الإنسان العاقل واحتياجاته ورغباته، وليس جينوم الإنسان العاقل بأكثر تعقيدًا من ذلك الذي لفئران الحقل والفئران الأخرى (يحتوي جينوم الفأر على حوالي 2.5 مليار قاعدة نيوكليوتيدات، ويحتوي جينوم العاقل على 2.9 مليار قاعدة، وهذا يعني أن الأخير أكبر فقط بـ 14 بالمئة فقط) [...] فإذا كانت الهندسة الوراثية قادرة على خلق فئران عبقرية، لم لا تخلق بشرًا عباقرة؟ وإذا كان بإمكانها خلق فئران حقل ترتبط بشريك واحدٍ فقط، لم لا تخلق بشرًا مصممين دماغيًا ليظلوا مخلصين لأزواجهم؟» .

سيكون من الملائم حقًا لو كانت الهندسة الوراثية عصا سحرية، وأن نكون قادرين عبر بضع نقرات على تحويل سكان الأرض إلى شركاء مخلصين، وتحويل الجميع إلى أينشتاين. ولكن الأمر ليس كذلك. لنفترض أننا نريد أن نتحول إلى نوعٍ بشريٍ لا عنفيّ. اكتشف العلماء أن النشاط المنخفض لجين أكسيداز أحادي الأمين (MAO-A) مرتبط بالسلوك العدواني والجرائم العنيفة، ولكن عند وجود خيار العودة «إلى مخطط الرب الأصلي، ونصمم إنسانًا عاقلًا أفضل» (كما يقول هراري)، فليس كل من لديه نشاط منخفض لأكسيداز أحادي الأمين يكون عنيفًا، ولا كل من لديه نشاط مرتفع لهذا الجين يكون لا عنفيّ. غالبًا ما يصبح الأشخاص الذين ترعرعوا في بيئات شديدة الإيذاء عدوانيين أو عنيفين، بغض النظر عن جيناتهم. يمكن أن يؤدي ارتفاع نشاط الجين آنف الذكر إلى حمايتك من عدوانيتك، ولكن الأمر غير مؤكّد تمامًا. وعلى العكس من ذلك، عندما ينشأ الأطفال في بيئات محبة وداعمة، حتى من لديهم انخفاض في نشاط أكسيداز أحادي الأمين، يزدهرون ويتطورون أقل عدوانية.

(Getty)

جيناتنا لا تقرر مصائرنا، ولا تتحكم بأحداث حياتنا وتصرفاتنا لحظة خلقنا. عندما يكتب هراري عن تغيير علم وظائف الأعضاء لدينا، أو «هندسة» البشر ليكونوا مخلصين أو أذكياء، فإنه يتجاهل العديد من المُركِّبات غير الجينية التي تشكلنا. على سبيل المثال، حتى الأشياء التي تبدو مترابطة مثل علم وظائف الأعضاء لدينا: انقسام الخلايا، وتحركها، وتقرير مصيرها وتنظيمها على الأنسجة والأعضاء، كل هذا لا يعتبر مثبتاً جينيًا فقط. أجرى العالم جي إل ماركس في الثمانينات سلسلة من التجارب على ضفدع القيطم (يسكن مائي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى) ووجد أن الأحداث الفيزيائية الحيوية «العادية» (مثل التفاعلات الكيميائية في الخلايا، والضغوط الميكانيكية داخل الخلايا وعليها، والجاذبية) يمكنها تفعيل الجينات وتثبيطها، وتحديد مصير الخلية. وخلص إلى أن أجسام الحيوانات ناتجة عن سلسلة معقدة بين الجينات وتغير الأحداث الجسدية والبيئية فيها ومن حولها.

ولنأخذ موضوع التذوق أيضًا، ولنتحرى ما قاله هراري، حيث وعند قراءة كتبه، قد يعتقد المرء أن سلوك الأطفال حديثي الولادة محكوم بجيناتهم حصريًا، نظرًا لأن الأطفال لم يحصلوا على أي تنشئة بعد، بيد أن الأبحاث تظهر أن الأطفال بعمر الستة أشهر، أبناء النساء اللائي شربن الكثير من عصير الجزر في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، قد استمتعوا بالسيريلاك بنكهة الجزر أكثر من الأطفال الآخرين. يحب هؤلاء الأطفال نكهة الجزر، ولكن ليس بسبب جينات «حب الجزر». عندما تُرضع الأمهات (البيولوجيات أو بالتبني) أطفالهن رضاعة طبيعية، ينعكس ذوقهن وحبهن للأطعمة التي يناولونها في حليبهن، ويجعل لأطفالهن تفضيلًا لتلك الأطعمة. «يرث» الأطفال تفضيلات الطعام من سلوك أمهاتهم.

طُلب من الأمهات الجدد من كوريا على مدى أجيال أن يشربن حساء الأعشاب البحرية، وطُلب من النساء الصينيات أن يطهين أقدام الخنازير بالزنجبيل والخل بعد الولادة بفترة وجيزة. يستطيع الأطفال الكوريون والصينيون أن يرثوا تفضيلات الذوق الخاصة بثقافة معينة دون الحاجة إلى جينات «أكل الزنجبيل» أو «الرغبة في الخل».

نستهلك السكريات المصنعة في هذا العالم الحديث، بغض النظر عن المكان الذي نعيش فيه. يمكن أن يؤدي اتباع نظام غذائي عالي السكر لفترات طويلة إلى أنماط أكل غير طبيعية وإلى السمنة. استخدم العلماء نماذج حيوانية واكتشفوا آلية جزيئية يحدث من خلالها ذلك. تعمل الأنظمة الغذائية عالية السكر على تنشيط مركب بروتيني يسمى المركب المثبط عديد الأمشاط PRC2.1، والذي ينظم بعد ذلك التعبير الجيني لإعادة برمجة الخلايا العصبية للتذوق وتقليل الإحساس بالحلاوة، مما يحبس الحيوانات في أنماط التغذية غير القادرة على التكيف. هنا تعمل العادات الغذائية على تغيير التشكيل الجيني، وهذا مثال على «إعادة البرمجة اللاجينية»، التي تؤدي إلى خيارات غذائية غير صحية.

تشكل التنشئة الطبيعة، وتشكل الطبيعة التنشئة. الحالة ليست ازدواجية، بل تشبه شريط موبيوس. إن حقيقة سُبل تمظهر «قدرات واحتياجات ورغبات الإنسان العاقل» أكثر تعقيدًا (وأناقةً!) مما يصورها هراري.

يقول عالما الوراثة إيڤا جابلونكا وماريون جاي لامب في كتابهما «التطور في أربعة أبعاد»:

"فكرة وجود جين للمغامرة، أو أمراض القلب، أو السمنة، أو التدين، أو الشذوذ الجنسي، أو الخجل، أو الغباء، أو أي جانب آخر من جوانب العقل أو الجسم، لا مكان لها في علم الجينيات، إلا أن كثيرٌ من الأطباء النفسيين وعلماء الكيمياء الحيوية وغيرهم من العلماء غير المتخصصين في علم الوراثة (لكنهم يتحدثون في القضايا الوراثية بثقة عالية) ما يزالون يستخدمون لغة الجينات كعوامل سببية بسيطة، ويعدون جمهورهم بحلول سريعة لجميع أنواع المشاكل، إلا أنهم ليسوا إلا مجموعة من الظواهر الإعلامية التي علينا الشك في معارفها ودوافعها».

تظل دوافع هراري غامضة. لكن أوصافه للبيولوجيا (والتنبؤات حول المستقبل) تسترشد بأيديولوجية سائدة بين تقنيي وادي السيليكون مثل لاري پيج وبيل گيتس وإيلون ماسك وآخرين. قد يكون لديهم آراء مختلفة حول ما إذا كانت الخوارزميات ستنقذنا أو تدمرنا. لكنهم يؤمنون بالقوة الهائلة للحسابات الرقمية. قال ماسك في مقابلة أجرتها معه صحيفة نيويورك تايمز عام 2020: «نحن نتجه نحو وضع يكون فيه الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاءً من البشر، وأعتقد أن الإطار الزمني أقل من خمس سنوات من الآن. أخطأ ماسك. لن تأخذ الخوارزميات جميع وظائفنا، ولن تحكم العالم، ولن تكتب نهاية الإنسانية في أي وقت قريب (أو على الإطلاق).

يقول المتخصص في الذكاء الاصطناعي فرانسوا شوليت عن إمكانية وصول الخوارزميات إلى حالة الاستقلال المعرفي: «تنتمي هذه الفكرة لعالم الخيال العلمي اليوم، أو في المستقبل المنظور». يصرف هراري، مروج العلوم للعموم، انتباهنا مرة أخرى نحو أزمة زائفة بترديده لروايات وادي السيليكون، والأسوأ من أنه يصرف انتباهنا عن الأضرار الحقيقية للخوارزميات والقوة المطلقة لصناعة التكنولوجيا.

يخبرنا هراري في الفصل الأخير من كتاب «الإنسان الإله» عن دين جديد، وهو «دين البيانات»، وممارسو هذا الدين هم «خبراء البيانات» كما يسميهم، وأن هؤلاء ينظرون إلى الكون بأكمله على أنه تدفقات من البيانات. يرون الكائنات الحية على أنها نتيجة معالجة لبيانات كيميائية حيوية، ويعتقدون أن «الغاية الكونية للبشرية» هي إنشاء معالج بيانات شامل المعرفة والقوى ليفهمنا أفضل مما يمكننا فهم أنفسنا. يتنبأ هراري بأن الاستنتاج المنطقي لهذه القصة هو أن الخوارزميات ستتولى السيطرة على جميع جوانب حياتنا، وأنها ستقرر من نتزوج، وما المهن التي علينا السعي لها، وكيف نحكم دولنا (للمفارقة تنتشر هذه الديانة بكثرة في وادي السيليكون).

يقول هراري: «فما الإنسان العاقل إلا خوارزمية فات أوانها»، معيدًا صياغة ما يقوله خبراء البيانات:

"فما هي أفضلية البشر على الدجاج؟ هل لمجرد أن المعلومات تتدفق في البشر بأنماط أكثر تعقيدًا؟ يستوعب البشر بيانات أكثر، ويعالجونها باستخدام خوارزميات أفضل من تلك التي يستخدمها الدجاج [...] وإذا كان بإمكاننا خلق نظام معالجة بيانات يمكنه استيعاب بيانات أكثر من الإنسان، ومعالجتها بطريقة أكثر كفاءة، ألا يكون هذا النظام متفوقًا على الإنسان بذات الطريقة التي يتفوق بها الإنسان على الدجاجة؟»

لكن البشر ليسوا دجاجات مُحسَّنة، وليسوا أفضل من الدجاجة من جميع النواحي. يمكن للدجاج، في الواقع، «استيعاب بيانات أكثر» من الإنسان، ويعالجها بكفاءةٍ أعلى، على الأقل في مجال الرؤية. تحتوي شبكيتنا على خلايا مستقبلة للضوء حساسة للأطوال الموجية باللون الأحمر والأزرق والأخضر. وتحتوي شبكية عين الدجاج على هذه الخلايا، بالإضافة إلى الخلايا المخروطية للأطوال الموجية البنفسجية (بما في ذلك بعض الأشعة فوق البنفسجية)، وهذا إلى جانب المستقبلات المتخصصة التي يمكن أن تساعدها على تتبع الحركة بشكل أفضل. أدمغتها مجهزة لمعالجة كل هذه المعلومات الإضافية. عالم الدجاج عالمٌ لوني ساحر لا يمكننا استيعابه. هذا لا يجعل الدجاج أفضل من الإنسان. لا منافسة هنا. هذا يمنح «الدجاج» فرادة، مثل فرادة «الإنسان».

لا الدجاج ولا البشر مجرد خوارزميات. أدمغتنا لها جسد، وهذا الجسم يقع في عالم مادي. تظهر سلوكياتنا بسبب أنشطتنا اليومية والجسدية. الكائنات الحية ليست مجرد بيانات تُجمع وتُعالج من البيئات حولها. نحن نعمل باستمرار على تغيير وخلق بيئاتنا وبيئات الكائنات من حولنا، وهي عملية تسمى «البناء المُتخصص» في علم الأحياء التطوري. عندما يبني القندس سدًا فوق مجرى مائي، فإنه يخلق بحيرة، ويتعين على جميع الكائنات الحية الأخرى الآن أن تعيش في عالم به بحيرة. تستطيع القنادس إنشاء أراضٍ رطبة تستمر لقرون، مما يؤدي إلى تغيير ضغوط عملية الانتقاء الطبيعي التي يتعرض لها أحفادهم، مما قد يتسبب في حدوث تحول في العملية التطورية. يتمتع الإنسان العاقل بمرونة منقطعة النظير؛ لدينا قدرة غير عادية على التكيف مع بيئاتنا، وكذلك تعديلها. إن أفعالنا المعيشية لا تميزنا فقط عن الخوارزميات؛ بل تجعل من شبه المستحيل على الخوارزميات أن تتنبأ بدقة بسلوكياتنا الاجتماعية، مثل من سنحب، ومدى حسن أدائنا في الوظائف المستقبلية، أو ما إذا كان من المحتمل أن نرتكب جريمة.

هراري حريص على تصوير نفسه على أنه كاتب موضوعي، ويجتهد ليخبرنا أنه يقدم وجهة نظر علماء البيانات، وليس وجهة نظره، لكنه بعد ذلك يفعل شيئًا متسترًا جدًا. يقول إن وجهة نظر خبراء البيانات «قد تصدمك على أنها فكرة هامشية غريبة، لكنها في الواقع قد غزت بالفعل معظم المؤسسة العلمية». عند تقديم وجهة نظر خبراء البيانات للعالم على أنها قاطعة (بعد أن «غزت معظم المؤسسات العلمية»)، يخبرنا أنه من الصحيح «بشكل موضوعي» أن البشر ليسوا سوى خوارزميات، وأن مسيرتنا نحو الزوال، كمتلقين سلبيين للقرارات التي تتخذها خوارزميات أفضل، أمر لا مفر منه، لأنه مرتبط ارتباط وثيقًا بإنسانيتنا. نجد أنه من بين الكتب الأربعة التي يستشهد بها، كتب ثلاثة كتبت على يد أشخاص غير علماء: ناشر موسيقي، وخبير تريند، وناشر مجلات.

لا يوجد شيء محدد سلفا بشأن مصير البشرية. إن استقلاليتنا تتآكل ليس بسبب الكارما الكونية، ولكن بسبب نموذج اقتصادي جديد اخترعه غوغل وأتقنه فيسبوك، شكل من أشكال الرأسمالية وجد طريقة للتلاعب بنا لأغراض جني الأموال. أعطت عالمة الاجتماع شوشانا زوبوف هذا النموذج الاقتصادي اسم «رأسمالية المراقبة». تقوم شركات رأسمالية المراقبة مثل مايكروسوفت وأمازون وفيسبوك وغوغل وغيرها بإنشاء المنصات الرقمية التي نعتمد عليها بشكل متزايد للعيش والعمل واللعب. ويراقبون أنشطتنا عبر الإنترنت بتفاصيل مذهلة، ويستخدمون المعلومات للتأثير على سلوكياتنا من أجل تعظيم أرباحهم. ساعدت منصاتهم الرقمية، كمنتج ثانوي، في إنشاء غرف صدى أدت إلى إنكار مناخي واسع النطاق، وانتشار الشكوك العلمية، وزيادة الاستقطاب السياسي. من خلال تسمية العدو، ووصفه بأنه اختراع من البشر، وليس حقيقة من حقائق الطبيعة أو حتمية تكنولوجية، تمنحنا زوبوف طريقة لمحاربته. وكما يمكنك أن تتخيل، فإن زوبوف، على عكس هراري، ليس شخصية محبوبة في وادي السيليكون.


المقال للكاتبة درشنا ناريانان. نُشِر في موقع "كورنت أفيرز"

[1] من أقدم تقنيات التأمل الهندية، وتعني الكلمة «رؤية الأشياء على طبيعتها»، وهو أسلوب تأمل يسمح لممارسهِ بزيادة قدرته على التركيز من خلال مراقبة تنفسه وإحساسه الخارجي مراقبة سلبية، أي دون تدخل ذهني أو جسدي لتغيير أو تجنب الألم الناجم عن الثبات لفترة طويلة – (المُترجم).

[2] استخدم المؤلف كلمة Ape، والتي تشير إلى نوع من القرود المتطورة ضمن تصنيف البشرانيات أو أشباه البشر Hominoidea – (المُترجم).

[3] استخدمت في الترجمة مصطلح «العلوم الشعبية» كترجمة لمصطلح Pop Science، ويمكن استخدام مصطلح «العلوم للعموم» كتعريب له أيضًا، في حين اخترت استخدام مصطلح «مروجو العلوم للعموم» كترجمة لمصطلح Science Populist حيث يشمل المصطلح العلماء وغيرهم من المتحمسين للترويج للعوم بين عامة الناس – (المترجم).

[4] مصطلح ساخر يستخدم للانتقاص من الدول غير المستقرة سياسيًا. ظهر المصطلح لأول مرة مع الكاتب الأميركي أوليفر هنري للإشارة إلى هندوراس في مجموعة قصصية «الكرنب والملوك» نشرها عام 1904، واستخدمه للإشارة إلى الحكومة الدكتاتورية التي تسمح ببناء المستعمرات الزراعية مقابل المال – (المُترجم).

[5] العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري، ترجمة حسين العبري وصالح الفلاحي، (نيودلهي: دار منجول للنشر، 2018)، 23.

[6] المرجع السابق نفسه.

[7] المرجع السابق نفسه، 35.

[8] المرجع السابق نفسه، ص 36، بتصرّف.

[9] المرجع السابق نفسه، ص437.

[10] المرجع السابق نفسه، ص 438.

[11] يُشير المؤلف إلى الولايات المتحدة الأميركية.

[12] الإنسان الإله: تاريخ مختصر عن المستقبل، يوفال نوح هراري، ترجمة علي بدر، (بروكسل: دار ألكا للنشر والتوزيع، 2021)، 30.

[13] سجن من تصميم الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام، حيث يسمح تصميم السجن لمراقب واحدٍ بمراقبة جميع السجناء دون أن معرفة المسجونين أنهم مُراقبون – (المُترجم).

[14] العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري، ترجمة حسين العبري وصالح الفلاحي، (نيودلهي: دار منجول للنشر، 2018)، 480.

[15] الإنسان الإله: تاريخ مختصر عن المستقبل، يوفال نوح هراري، ترجمة علي بدر، (بروكسل: دار ألكا للنشر والتوزيع، 2021)، 552.

[16] المرجع السابق نفسه.

التعليقات