11/01/2024 - 18:10

كيف تستخدم إسرائيل اللغة لتبرير الإبادة الجماعيّة؟

على النقيض من كل أشكال الاستعمار الأخرى التي تعتمد على استغلال العمالة، يسعى الاستعمار الاستيطاني إلى الحصول على الأرض دون سكانها الموجودين عليها...

كيف تستخدم إسرائيل اللغة لتبرير الإبادة الجماعيّة؟

رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو مع الرئيس الأميركيّ جو بايدن في تل أبيب(Getty)

تُدعم جميع المشاريع الاستعمارية بانحرافات وتحويرات لغويّة. فمن التوسع الأميركي في «الغرب المتوحش» إلى الاستعمار الأوروبي «للمتوحشين» الأفارقة، سارت العبارات الملطفة، التي صيغت عمدًا، جنبًا إلى جنب مع الرغبة في السيطرة على السُّكان الأجانب ومصادرة أراضيهم ومواردهم. استخدمت القوى الاستعمارية والإمبريالية الحديثة مثل هذه اللغة ليس فقط لتبرير مشاريعها، وإنما لإقناع دافعي الضرائب بصلاحيتها الأخلاقية أيضًا. أطلق والتر ليبمان، ومن بعده نعوم تشومسكي، على هذا اسم «تصنيع الموافقة Manufacturing Consent»، أما في مجال العلاقات العامة، فيطلق عليه اسمًا أكثر تلطيفًا، ألا وهو «هندسة الموافقة».

لم يخجل الصهاينة، حتى الستينيات والموجة الأولى من حركات الاستقلال الناجحة المناهضة للاستعمار، من تسمية مشروعهم بالاستعمار. تأسّست إسرائيل بهدف إنشاء وطن لليهود في فلسطين، وتضمنت مؤسساتهم منذ عام 1897 وما بعده جمعية الاستعمار اليهودي، وجمعية استعمار أرض إسرائيل، وجمعية الاستعمار اليهودي في فلسطين، والصندوق الاستعماري اليهودي. ويتذرع الصهاينة اليوم بـ «تعقيد القضية» مقاومةً منهم لوصف إسرائيل بأنها مستعمرة استيطانية، إلا أنه وقبل تأسيس الدولة الإسرائيلية في عام 1948، والتي نتج عنها طرد 750 ألف فلسطيني من أراضيهم ومنازلهم قسريًا، كانت كلمات مثل «استعمار» و«استعماري» متفق على استخدامها في وصف بنائها. استخدمتها الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا لوصف استيطانها وسيطرتها على الأراضي الأجنبية، وهي الكلمات التي استخدمها الصهاينة لوصف استيطانهم.

وعلى النقيض من كل أشكال الاستعمار الأخرى التي تعتمد على استغلال العمالة، يسعى الاستعمار الاستيطاني إلى الحصول على الأرض دون سكانها الموجودين عليها: وعلى حد تعبير المؤرخ الأسترالي پاتريك وولڤ، فإن الاستعمار الاستيطاني «يدمر ليستبدل». وتوجد حجّة مضادة للإطار الاستعماري في إسرائيل تستحضر على الدوام فكرة الأصلانية (والسكان الأصليين)، أي أن اليهود سُكان أصليون في فلسطين، بيد أنه يوجد فرق واضح بين وجودك في مكانٍ ما، وفرض سيطرتك أو هيمنتك عليه.

وخلافًا للمجتمعات الاستعمارية الاستيطانية الأخرى، مثل الجزائر الفرنسية أو كينيا البريطانية وأستراليا، فإن المدافعين عن مشروع الدولة الإسرائيلية ينظرون إليه على أنه فريد من نوعه لأنه توجد له دولة متروپولية[1] (يأتي منها المستعمرون أو يمكن أن يعودوا إليها)، إلا أن هذه الحجَّة يمكن دحضها بسهولة، لأنَّ الدعم الأولي للطموح الصهيوني لإقامة دولة في الشرق الأوسط جاء من الإمبراطورية البريطانية، التي تعهدت بدعم الاستيطان الصهيوني في عام 1917 وتخلَّت عن فلسطين الانتدابية لصالح «وطن يهودي» في مايو 1948. منذ ذلك الحين، وفقًا لبيانات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بلغت المساعدات الأميركية لإسرائيل، العسكرية في أغلبها، أكثر من 260 مليار دولار، بعد تعديل حساب التضخم دون احتساب 14.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية التي وعد بها الرئيس جو بايدن في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، كما تدعم الولايات المتحدة أيضًا نظام الرعاية الصحية المجاني في إسرائيل.

غارات إسرائيليّة على قطاع غزّة (Getty)

ليست الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تؤدي فيها المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى طردك من عملك، كما حدث لديفيد ڤيلاسكو، الذي فقد وظيفته كرئيس تحرير لمجلة «آرتفورم Artforum»، أو إلى اتهامك بمعاداة السامية أو بالإرهاب أو بالتعاطف مع الإرهابيين، حيث صار هتاف «أوقفوا الإبادة الجماعية» الآن غير قانوني في برلين. وعندما تحدث پول بريستو، المساعد الوزاري البريطاني، مُطالبًا بوقف إطلاقٍ للنار، فُصِل من عملهِ. وعندما طالب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بذلك، اتهمه سفير إسرائيل جلعاد إردان بأن لديه «تساهلًا مع الإرهاب والقتل» وأعلن أنه لن تُصدرُ تأشيرات دخول إسرائيلية لمسؤولي الأمم المتحدة. إن الكلمة العربية «انتفاضة»، والتي استخدمت لأول مرة بين الفلسطينيين لوصف انتفاضتهم الأولى، السلمية إلى حد كبير، في عام 1987، باتت تُترجم الآن خطأً على أنها تعني «إبادة جماعية لليهود». وبعد فشلها في إدانة استخدام الكلمة خلال جلسة استماع في الكونغرس، اضطرت ليز مغيل، رئيسة جامعة بنسلفانيا، إلى الاستقالة. وتواجه رئيسة جامعة هارفارد أيضًا ضغوطًا للتنحي[2]. في هذه الأثناء، ووفقًا للعديد من خبراء المحرقة والإبادة الجماعية، يوجد احتمال أن تكون إبادة جماعية فعلية تجري الآن في قطاع غزّة. يُشكّل الربط بين كلمتي «وقف إطلاق النار»، و«الإرهاب»، جزءًا من الاعتداء على اللغة، والذي تنعكس آثاره على الجميع، ويحمل الحرب التي تُشنُّ الآن ضد الفلسطينيين إلى ما هو أبعد من فلسطين التاريخية.

كانت فلسطين في الخيال الصهيوني المبكر، أرضًا فارغة تنتظر «الرواد» اليهود «لتجفيف المستنقعات» و«جعل الصحراء تزدهر». صوَّر الصهاينة الفلسطينيين على أنهم «بدائيون» و«محتالون» و«كسالى»، على غرار السكان الأصليين في عيون المستعمرين الأوروبيين في أماكن أخرى. كما أن الصور الموجودة في الكتاب المقدس عن «استرداد» أو «استعادة الأرض» استنادًا إلى ادعاءات قديمة تعكس أيضًا خطاب حركة المستوطنين الأميركيين، المدفوعة بالقدر الواضح والشعور بالحقوق الممنوحة لهم من الرّب. تحدث وعد بلفور عن الفلسطينيين، وهم الأغلبية الساحقة في فلسطين، باعتبارهم «مجتمعات غير يهودية». وكانت هذه إحدى الطلقات الأولى في الحرب الخطابية ضد الفلسطينيين، أي بدلًا من الإشارة إليهم على أنهم سُكان أصليون يعيشون على أرضهم، أُشيرَ إليهم على أنهم غير يهود.

أنتجت الصهيونية في وقت لاحق، مجموعة من المصطلحات الإيديولوجية والقانونية التي تستحضر المطالبات القديمة بالأرض، على سبيل المثال، «تجمع المنفيين»، أو «قانون العودة» الأكثر قانونية. وصارت تصف غزو وطرد ثلاثة أرباع سكان البلاد الفلسطينيين في الفترة 1948-1949، المعروف باسم النكبة، بأنه «تحرير» فلسطين من سكانها. أصبحت الأراضي المحتلة «منطقة متنازع عليها» ونُظر إلى اللاجئين على أنهم «مشكلة ديموغرافية» و«تهديد». وإذا حاولوا العودة إلى ما تحتله إسرائيل الآن، فهم «متسللون». أمَّا الذين بقوا، فأصبح العديد منهم، في واحدة من أكثر الألعاب اللغوية الغريبة للقانونيين الإسرائيليين، «غائبين حاضرين»، ممنوعين من العودة إلى منازلهم، وفرض عليهم قانون «أملاك الغائبين».

نفى القادة الصهاينة في تصريحاتهم العامة، من عام 1897 حتى الأربعينيات من القرن الماضي، أن هدفهم هو إقامة دولة، وشددوا بدلًا من ذلك على فكرة «الوطن» أو المأوى. اختار ماكس نورداو، رجل ثيودور هرتزل الثاني، في المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بازل بسويسرا عام 1897، المصطلح الألماني Heimstätte بحكمة، والذي ترجم إلى «الوطن القومي» في وعد بلفور. قال نورداو لاحقًا عن هذا التعبير «الذي حظي بتعليقات كثيرة، أنه كان ملتبسًا، لكننا جميعًا فهمنا ما يعنيه. بالنسبة لنا كان يعني دولة لليهود آنذاك، ويحمل المعنى نفسه الآن». ومع تضاؤل القوة العالمية لبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومع فظائع المحرقة التي أدت إلى زيادة سريعة في الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين، تحول مركز ثقل الصهيونية إلى الولايات المتحدة، حيث أُعلنَ عن طموح إقامة الدولة صراحة لأول مرة في عام 1942 في مؤتمر بالتيمور، في نيويورك.

سأل نائب الرئيس هاري ترومان، المتردد في ديسمبر 1944، حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية والرئيس الأول لإسرائيل لاحقًا، عما إذا كانت الدولة ستكون كيانًا دينيًا: أجاب وايزمان بالنفي. وقد أوضح ترومان أنه بينما يؤيد استخدام فلسطين كملجأ لليهود، فإنه يخشى أن تؤدي التطلعات الصهيونية لإقامة دولة إلى دولة عنصرية أو ثيوقراطية، وأخبره أنه يعترض على أي دولة تقوم على أسس عنصرية أو دينية، «سواء كانت يهودية أو كاثوليكية». كما عارضت اللجنة اليهودية الأميركية علنًا، وأكدت في مذكرة وجهتها إلى الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1944 أنه سيكون «من غير الحكمة الدفع لإقامة دولة يهودية في فلسطين»، وهي وجهة النظر التي اتفق معها الرئيس.

وعلى الرغم من شكوك ترومان، فإن واشنطن سرعان ما ستحوّل وجود إسرائيل إلى مصلحتها الاقتصادية والإقليمية، حتى لو كانت علاقة الراعي والعميل صعبة في البداية. وبعد غزو إسرائيل لمصر وقطاع غزة في عام 1956، هدّدت الولايات المُتحدة إسرائيل مباشرةً بأذيتها عبر التهديد «بوقف كل المساعدات الحكومية والخاصة، وفرض عقوبات من الأمم المتحدة عليها، وطردّها كليًا من الهيئات الدولية». يتذكر ممثل إسرائيل أبا إيبان في سيرته الذاتية البحث عن «صيغة» من شأنها أن «تمكننا من إرضاء الولايات المتحدة [...] بينما تترك الباب مفتوحًا أمامنا لاستئناف نضالنا سعيًا لتحقيق أهدافنا الحربية». ولكن في وقت لاحق فقط، بعد حرب عام 1967، تحول الخطاب الصهيوني إلى مسألة ما إذا كان لإسرائيل «الحق في الوجود». عند توليه رئاسة الوزراء في عام 1977، قال مناحيم بيغن للكنيست: «أود أن أعلن أن حكومة إسرائيل لن تطلب من أي دولة، سواء كانت قريبة أو بعيدة، قوية أو صغيرة، الاعتراف بحقنا في الوجود». وقد تحدث إيبان نفسه عن هذه الصيغة، «الحق في الوجود»، باعتبارها «مهينة» إلا أنه سُرعان ما اكتسبت هذه العبارة رواجًا، وسرعان ما أصبح الاعتراف بـ «حق» الدولة الإسرائيلية في الوجود عائقًا أمام الدخول في خطاب دبلوماسي أو سياسي. حتى إن ولاية «ساكسونيا أنهالت» في ألمانيا جعلت الاعتراف بهذا الحق شرطًا أساسيًا للحصول على الجنسية الألمانية، ومؤخرًا ناقش البوندستاغ (مجلس النواب الألماني الاتحادي) تشريع هذا الشرط في بقية ألمانيا.

تاريخيًا، كان ذلك بمثابة تحول إستراتيجي. وقد انتشرت هذه الخطوة الخطابية بشكل متزايد في السبعينيات، وجذبت الانتباه الدولي بعيدًا عن ملايين الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال العسكري في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، وكذلك السوريين في مرتفعات الجولان المحتلة. كما أشارت جاكلين روز في كتابها «مسألة صهيون»، أن المحرقة لم تكن مستخدمة في الخطاب السياسي للدولة الإسرائيلية قبل عام 1967.

وكان التسلسل التالي في حرب المصطلحات التي شنتها إسرائيل هو تصوير المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري بأنها «إرهاب». ولطالما صوَّرت إسرائيل أشكال المقاومة الفلسطينية كافة على أنها أنشطة إرهابية. وينطبق هذا المصطلح على المواجهات غير المتكافئة بين المدنيين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وحتى أشكال المقاومة اللاعنفية، بما في ذلك الدعوات إلى المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل. وقد اكتسبت هذه الكلمة المزيد من الاهتمام بعد اتفاقات أوسلو في عام 1993 وبداية ما أطلق عليه اسم «عملية السلام» بشكل مضلل، والتي تم خلالها توسيع المستوطنات الإسرائيلية على نطاق واسع على الأراضي المخصصة لإنشاء دولة فلسطينية، وردًا على هذا، استمرت المقاومة. يؤكد البروتوكول الأول لاتفاقية جنيف، الذي يتعلق بوضع المدنيين في النزاعات المسلحة وكذلك النضالات «ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية... في ممارسة تقرير المصير»، على حق الشعوب المُحتلة في مقاومة الاحتلال وحمل السلاح في مواجهة «الطرف المعتدي»، ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر، اعتبرت إسرائيل قمعها للفلسطينيين بمثابة مساهمة في الحرب على الإرهاب. أصبح مصطلحات «الحرية» و«الإرهاب» في أثناء غزو العراق، المصطلحات الأكثر تناقضًا لإدارة العلاقات العامة الأميركية، وبعد مرور عشرين عامًا، تشبه إسرائيل المقاومة الفلسطينية المسلحة بتنظيم داعش أو القاعدة.

وتبدو بعض العبارات الملطفة الإستراتيجية التي تستخدمها إسرائيل أقل ضررا. فالجدار الذي يطوق الضفة الغربية، ويقطع أحيانًا القرى وفي نقاط منه تتكون من الخرسانة بارتفاع ثمانية أو تسعة أمتار، يوصف في الغالب بأنه «سياج أمني» (يشار إليه في اللغة العربية باسم جدار الفصل العنصري). وقبل أن يُسْتَبْدَل احتلال قطاع غزّة بالحصار في عام 2002، أصدرت إدارة هيئة البث الإسرائيلية تعليمات لموظفيها باستبدال مصطلح «المستوطنون» بـ «السكان» في إشارة إلى مستوطنة نتساريم، على بعد بضعة أميال جنوب شرق مدينة غزة. وفي العام نفسه، أصدر قسم التعليم في الوكالة اليهودية لإسرائيل دليل الهسبرة، وهو دليل للطلاب للدفاع عن إسرائيل في الجامعات الأميركية. الترجمة التقريبية لكلمة hasbara من العبرية قد تكون «التفسير»، لكن المصطلح أصبح يشير إلى جهود العلاقات العامة الدولية لإسرائيل.

يرشد الدليل القراء إلى فنون «تسجيل النقاط» و«القدرة على إخفاء هذا الأمر من خلال إعطاء انطباع وجود نقاش حقيقي [...] على سبيل المثال، من الأسهل بكثير إقناع الناشطين الفلسطينيين بالدفاع عن عرفات ضد اتهامات الفساد بدلًا من إقناعهم أن أرييل شارون لم يقتل أحدًا في صبرا وشاتيلا»، مخيمي اللاجئين الفلسطينيين على أطراف بيروت حيث أشرف شارون على مذبحة ارتكبتها الكتائب اللبنانية في عام 1982. ويمكن العثور على خدعٍ خطابية بلاغية مماثلة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعتبر الشغل الشاغل للدبلوماسيين الإسرائيليين الذين يظهرون على شبكات التلفزيون حول العالم. وفي حين صنفت منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والفلسطينية والدولية إسرائيل بوصفها نظام فصل عنصري، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية تصف الكلمة بأنها «مثيرة للجدل» وفي بعض الأحيان «تم الرد عليها». وسرعان ما اكتسبت مثل هذه الصفات شهرة في الصحافة الدولية باعتبارها علامات على الحياد. وفي بعض الأحيان يوصف استخدام كلمة «الفصل العنصري» بأنه معادٍ للسامية.

في الواقع، على الرغم من الأصوات اليهودية التي تقاوم بصوت عالٍ الخلط بين اليهودية والصهيونية، فإن الاتهام بمعاداة السامية أصبح الآن السلاح المفضل في مواجهة الفلسطينيين ومؤيدي حقوقهم في الغرب، بما في ذلك حقّهم في الحياة. وقال الحاخام برانت روزين، في مقال نشرته صحيفة هآرتس عام 2016، إن «معاداة الصهيونية ليست "شكلًا من أشكال التمييز" وليست معاداة للسامية»، وأضاف أن «طمس التمييز بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية يشوش تعريف معاداة السامية إلى درجة أنها تصبح بلا معنى». وفي الوقت نفسه، لا توجد أي احتجاجات ضد القادة الإسرائيليين حين يتفوهون بجمل مماثلة تطالب بإبادة الفلسطينيين. قالت رئيسة الوزراء غولدا مائير في عام 1969: «لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون»، وقال رئيس الوزراء بيغن في عام 1982 إن الفلسطينيين «وحوش تمشي على قدمين». وبعد مرور عام، قال رئيس الأركان رافائيل إيتان إنهم «صراصير مُخدَّرة في زجاجة»، وفي عام 2001، وصف الرئيس الإسرائيلي موشيه كاتساف الفلسطينيين بأنهم «أشخاص لا ينتمون إلى قارتنا، أو إلى عالمنا، ولكنهم في الواقع ينتمون إلى مجرة مختلفة». أما شارون، فقال إن «السلام» لإسرائيل سيتحقق عبر السيطرة على «أعداء الإنسانية»، كما أوضح في عام 2004.

إن استمرار هذا الخطاب الذي ينزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين هو السبب وراء الانتشار الأخير لمقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لإسرائيليين يعيدون تمثيل المجازر وحالات التعذيب التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون في وضع احتفاليّ. وكان أحد الفيديوهات المنتشرة مستوحى من مقطع فيديو انتشر على نطاق واسعٍ لمعتقلين فلسطينيين معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي ويُجبرون على الاستماع إلى أغنية الأطفال الإسرائيلية المتكررة «ميني مامتيرا» لساعات، حيث قام جنود وسياسيون ومدنيون، مع أطفال في بعض الأحيان، بتصوير أنفسهم وهم يقلدون المعتقلين في الفيديو في أثناء تشغيل الأغنية.

يعيش الإسرائيليون داخل إسرائيل فيما أسماه المؤرخ لورانس ديفيدسون «بيئة معلوماتية مغلقة»، وقد أدت الحرب الحالية إلى تشديدها أكثر: في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، عدَّل البرلمان الإسرائيلي قانون مكافحة الإرهاب لتجريم «استهلاك المحتوى الإرهابي»، وهو ما يحظر بشكل فعال جميع أشكال الاستهلاك السلبي للمنشورات من قطاع غزة على وسائل التواصل الاجتماعي، مع فرض عقوبة تصل إلى السجن لمدة عام على المستخدمين الذين يتفاعلون بالإعجابات أو زيارة الصفحات نفسها بالمقام الأول. ومعظم الذي حوسبوا بناءً على هذا التعديل هم مواطنون فلسطينيون في إسرائيل، إلا أن إسرائيل قد اعتقلت بعض الإسرائيليين الذين أعربوا عن تعاطفهم مع الفلسطينيين.

قتلت إسرائيل أكثر من 90 صحفيًا في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وأوضح بيني غانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، أن الصحفيين الذين حضروا مذبحة حماس في إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول «واختاروا الوقوف متفرجين بينما ذُبحَ الأطفال، لا يختلفون عن الإرهابيين ويجب معاملتهم على هذا النحو». ووصفت لجنة حماية الصحفيين، ومقرها نيويورك، هذا الاعتداء بأنه أخطر اعتداء على الصحفيين منذ أن بدأت بتوثيق ضحايا المهنة في عام 1992.

إن تعقيد الدعاية الصهيونية المبكرة، والتي شكلتها مصطلحات نورداو «الملتبسة» بدقة والتي صِيغت في قرن سابق، لم يعد لها وجود الآن. ولا يوجد خليفة بليغٌ لإيبان، الذي ظهر على الساحة الدولية بصفته «صوت إسرائيل» في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. في 30 أكتوبر/تشرين الأول، اتهم إردان، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، مجلس الأمن بـ «التزام الصمت» وتعهد بارتداء نجمة صفراء حتى يدين أعضاؤه حماس. وسرعان ما وبخه داني ديان، رئيس مؤسسة ياد ڤاشيم، المؤسسة الإسرائيلية الرسمية لتذكر ضحايا المحرقة، قائلًا: «إن هذا العمل يجلب العار على ضحايا المحرقة وكذلك على دولة إسرائيل». واقترح ديان أن يرتدي إردان العلم الإسرائيلي بدلًا من نجمة داوود الصفراء.

وربما يكون من الأصعب الاعتماد على العبارات الإستراتيجية الملطفة في عصر وسائل الإعلام الاجتماعية، التي أدَّت بالتأكيد دورًا في تدهور رسالة إسرائيل إلى بقية العالم، وبالتالي تصنيع القبول الدولي. وعلى الرغم من تأكيد إسرائيل المتكرر على أنها لا تستهدف المدنيين في غزة، على سبيل المثال، وأن آلاف الأطفال الذين قتلوا بنيران إسرائيلية هم «دروع بشرية» يستخدمها مقاتلو حماس، إلا أن صور الأطفال الخدَّج الذين اُنتشلوا من الحاضنات في مستشفى الشفاء بعد انقطاع التيار الكهربائي، كان من الصعب تفسيره وتبريره. وردَّت وسائل الإعلام الرسمية الإسرائيلية بنشر صور لأفراد من الجيش الإسرائيلي وهم ينزلون بعض الحاضنات من شاحنة لديهم كبادرة إنسانية، لكن مستشفى الشفاء كان به حاضنات جاهزة، ولم يكن لديه الكهرباء اللازمة لتشغيلها، لأن إسرائيل قطعت إمدادات الكهرباء عن قطاع غزة.

نشرت إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني، صورًا لأفراد من الجيش الإسرائيلي يدخلون المستشفى بحثًا عن خلية تابعة لحماس. وكان الجنود يحملون صناديق مكتوب عليها «مستلزمات طبية» باللغة الإنجليزية على جوانبها، مثل ألعاب تمثيلية في مسرحٍ للهواة. وقبل ذلك بيومين، نشرت شريط فيديو يظهر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري داخل مستشفى الرنتيسي وهو يشير إلى تقويم حائطي ويدعي أن أيام الأسبوع المكتوبة (باللغة العربية) هي أسماء الإرهابيين المناوبين. ويقول في الفيديو: «هذه القائمة تؤكّد شرعية ما نفعله. هذه قائمة حرَّاس الرهائن، حيث يكتب كل إرهابي اسمه، ولكل إرهابي مناوبته»، وأشار أيضًا إلى المرحاض الموجود في الطابق السفلي وحزمة الحفاضات كدليل على وجود نشاط إرهابي. وفي مقطع فيديو آخر، تتهم امرأة ادَّعت أنها ممرضة في الشفاء حماس بعرقلة الخدمات الطبية و«الاستيلاء على المستشفى بأكمله»، وانتشر المقطع على قنوات التواصل الاجتماعي التابعة للدولة الإسرائيلية، وحصد ملايين المشاهدات قبل أن يختفي من صفحة إسرائيل العربية في منصة تويتر. لم تكن المرأة تتحدث بلكنة عربية أصلًا، ووقفًا للصحفي الأميركي روبرت ماكي، أخبره ثلاثة أعضاء من منظمة أطباء بلا حدود في الشفاء أنهم لم يروا تلك المرأة قبلًا.

واختطف الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، في نوفمبر/تشرين الثاني، الناشطة الفلسطينية عهد التميمي البالغة من العمر 22 عامًا لنشرها منشورًا على موقع إنستغرام مكتوبًا بشكل غير مقنع باللغتين العبرية والعربية الفصحى: «رسالتنا إلى قطعان المستوطنين. ننتظركم في كل مدن الضفة... سنذبحكم وستقولون إن ما فعله هتلر كان نزهة. سوف نشرب دماءكم ونأكل جماجمكم». وبحسب والدة التميمي، ناريمان، توجد «عشرات الحسابات باسمها على وسائل التواصل الاجتماعي، أنشأها أشخاص لا نعرفهم». ولم يعد من الممكن الوصول إلى الحساب الذي نُسب إليه البيان.

غالبًا ما ينشر الجيش الإسرائيلي ادعاءات مشكوك فيها، على الرغم من وجود أدلة قوية تؤكَّد عكس ما يقوله، فقد نفى مسؤوليته عن قتل صحفية قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة في جنين عام 2022، واعترف في النهاية بارتكاب جريمة القتل واعتذر عنها، لكن دون أن يحاكم أحد على الإطلاق. الغريب أن الاستراتيجيات الخطابية الإسرائيلية الأكثر وهنًا، وأكثر حيل العلاقات اهتزازًا، ما تزال تحقق أهدافها، لكن ليس على الفلسطينيين قطعًا.

في مقالته التي كتبها عام 1923 بعنوان «الجدار الحديدي»، كتب زئيف جابوتنسكي، الزعيم الصهيوني التصحيحي، ورئيس منظمة الإرغون، وهي منظمة صهيونية شبه عسكرية صارت جزءًا من الجيش الإسرائيلي في عام 1948، عن الفلسطينيين: «يمكننا أن نقول لهم كل ما نحب عن براءة أهدافنا، أن نسقيها ونحليها بالكلمات المعسولة لنجعلها مستساغة، لكنهم يعرفون ما نريد، كما نعرف ما لا يريدون. عرف الفلسطينيون أن الصهاينة يطمعون في فلسطين بأكملها، دون سكانها، وأنهم يعتقدون أنه «لا يوجد مكان للشعبين معًا في هذا البلد»، كما كتب يوسف فايتز، رئيس قسم الاستعمار في الوكالة اليهودية في مذكراته في مذكراته عام 1948، وأضاف: «لا حلّ أمامنا إلا نقل العرب من هنا إلى الدول المجاورة، علينا نقلهم جميعًا، ولا ينبغي أن نترك ولا حتى قرية أو قبيلة واحدة».

** نُشرت هذه المادّة في موقع "ذا نيشن".


إحالات:

[1] الدول الأم للمستعمرات (مثل بريطانيا وعلاقتها مع مستعمراتها، وفرنسا، وبلجيكا، وغيرها).

[2] استقالت بالفعل خلال الأسبوع الأول من شهر يناير 2024.

التعليقات