تجليات الجمال الفني في شعر معالي مصاروة.. نموذجان / يوسف أبو ريدة*

سأتناول بعض تجليات الجمال في أدب الشاعرة معالي مصاروة، من خلال نصين قصيرين من نصوصها، أرى بينهما علاقة من التتالي والتوازي معا، وسأحاول استكناه النصين من الداخل مستعينا بأدوات اللغة والنقد المناسبة.

تجليات الجمال الفني في شعر معالي مصاروة.. نموذجان / يوسف أبو ريدة*

- الشاعر يوسف أبو ريدة -

سأتناول بعض تجليات الجمال في أدب الشاعرة معالي مصاروة، من خلال  نصين قصيرين من نصوصها، أرى بينهما علاقة من التتالي والتوازي معا، وسأحاول استكناه النصين من الداخل مستعينا بأدوات اللغة والنقد المناسبة.

النص الأول:

المطر

سمعتُ كمنجات المطر

انخذت حواسك رحلة

دون خريطة

كم أحبّ المكوث هناك

أخطو لأخرج من دم الواقع

وأستنكر مواجهات الدقائق

التي تود إعادتي لروتين الزمن

الباهت


أما صوت الشاعرة فليس أقل من صوت كمنجات المطر التي تكسر العادي المكرور في مشهد الصورة الحسية بجانبها السمعي الذي أكتب فيه عن ديوانها خطوات أنثى... وصوت الكمنجات المنتظم الذي ينظم في ثناياه انهمار المطر لا يكسر الروتين والصمت فحسب، بل يكسر من حدة الروتين في تناول القصائد الموقعة بوزن تستطيعه معالي، لكنها لا تريده لنصوصها.

لم تأت كلمات "حواسك" و"خريطة " اعتباطا في نصوص معالي، بل جاءت ذات بعد استراتيجي في إنتاجها الأدبي كله، فهي سيدة التعامل مع الصور الممتدة عبر الحواس اللمسية والسميعة والبصرية، الخ..

وما دموية الواقع بلونها الأحمر بخارجة من هذه الدائرة الحسية، وإن كنا نركض فيها خلف كنايات ودلالات الدموية التي توحي بالقتل، لكنها تبقى ضمن خانة الصورة اللونية التي تتقن معالي نظم مكوناتها لتكون مشهدا فنيا ساحرا، وما اختيارها لكلمة الباهت إلا ضمن هذا الإطار الجمالي الذي اختطته أميرة الكلمات المقمرة في أعمالها الأدبية.
 
في الفضاء الزماني الذي ترسمه معالي في الأسطر ثمة شيء مبهر: هو كلمات متواشجة تشكل مع بعضها ملمحا زمانيا تكاد تصنعه هي: رحلة – المكوث والخروج – الدقائق - روتين الزمن الباهت.

وإذا كان الزمن الباهت محكوما بروتين مقيِّدٍ للحرية، فإن معالي تخرج عليها خروجا إبداعيا تتمثل في رحلة غير محدودة بزمن ولا بجغرافيا يعرفها الناس أو يتعارفون عليها، فالخريطة التي تدل على الأماكن والجهات في عرف الإنسان، اتخذت شكلا جديدا ولها مهمات أخرى، إذ إن الرحلة مطلقة بما فيها المادي والمعنوي، والخريطة هي حواسّه هو، لا خريطة الناس، أي اللمس والسمع والبصر والذوق والشم، وربما أضافت الحاسة السادسة أيضا.

وما يقوي ما أذهب إليه فضلا عن بروز ذلك في إنتاج معالي الأدبي هو  العلاقة بين الفعل والفاعل في النصوص، ومن الملاحظ أن النص تغلب عليه الأسماء وتنحصر الأفعال فيه كما يأتي:

الفعل الماضي: في النص فعلان ماضيان هما سمع (وفاعله ضمير المتكلم أي أنا الشاعرة)، واتخذ (وفاعله أنا الشاعرة)

الفعل المضارع: في النص ثلاثة أفعال مضارعة فاعلها أنا الشاعرة (الضمير المستتر العائد عليها)، في الأفعال: أحب، أخطو، أستنكر.

وثمة فعل مضارع رابع فاعله غير مقطوع به - كما أرى - وذلك في  فعل "تود" في جملة:

(وأستنكر مواجهات الدقائق التي تود إعادتي لروتين الزمن الباهت)، إذ تجيز اللغة أن يكون الفاعل ضمير مستتر تقديره هي تعود على  كلمة " مواجهات" وربما يكون هذا الأرجح، لكنها لا تنفي أن تكون كلمة " الدقائق" هي الفاعل .. أي إن الفاعل جزء من الزمن الذي تمقته أنا الشاعرة .

وعلى كل حال، ترى أن عدد الأفعال في النص ستة أفعال بواقع فعلين ماضيين، أي مقدار الثلث، وأربعة أفعال مضارعة بواقع ثلثين، بمعنى إن حاضر الشاعرة الذي تريده ينتصر على ماض وروتين يراد له أن يعود.

وتجد أن الفاعل في خمسة أفعال هو أنا الشاعرة، ويكون الفاعل المواجهات أو الوقت في فعل واحد، أي يشكل السدس فقط، وبهذا تنتصر الشاعرة في حاضرها وفاعلية دورها على الماضي المسكون بالروتين والقيد.

النص الثاني:

يا ليل الإبقاعِ الحسّي

رفقًا بأنثى لا زالتْ تتعلّم طقوس السَّهر

سأدعوكَ لوجبةِ استرخاءٍ وسكون

مع كوبٍ ساخنٍ من الحنانْ

وبعض المشاعر

لتدلّني على نقطة التحليقِ

من هنا إلى ما لا نهاية!!

 

النص هنا أبعد من المادي وأسمى من الحسي، فربما كانت بعض الألفاظ الحسية في النص موحية بالجانب الحسي، إلا أن عمق النظرة يكشف عن تحليق روحي مذهل، فالنص زمانيّ المبتدأ، مكانيّ المنتهى، صوفي الروح والتحليق، يبدأ بالليل وينتهي بالـ (ما لا نهاية)، في طقوس متحولة جديدة، كأن الشاعرة تجتاز آفاق الزمان والمكان محلقة بروحانية صافية بعيدة عن إيحاءات اللغة القاصرة بالجسدية والحسية، إذ إنني أحسب أن بعض الألفاظ الأخرى تكفّ المتأمل عن التعمق في الجانب الحسي والتوجه إلى الجانب الروحي.

طقوس التحليق روحانية مطلقة، لا اقتراب فيها من الطقوس الحسية المعروفة وإن كانت تفيد منها في تكوين جو روحاني في حضرة الإبداع والنص والقصيدة، وأول الألفاظ الدالة على هذا الكفّ كلمة تتعلم، ففي هذه الطقوس هدف آخر، غير هدف التمتع الذي يوحي به طقس مادي مشابه لكنه غير موجود هنا.

وأما كلمة طقوس فهي كلمة روحانية بامتياز ، وما انطباقها على أفعال خاصة في ديانات مختلفة يقوم بها المتعبدون إلا دليل ينفي الطقس الحسي، ويؤيد ذلك أن كلمة "الوجبة" التي تدخل في حقل الأكل والمجالس موحية "بالواجب" نفسه، والواجب  والوجوب روحانيان، بدليل خروج لفظ "الوجبة" من معناه المعجمي إلى دلالة أخرى "وجبة استرخاء وسكون" في مقابل الإيقاع الليلي، فهو التأمل العقلاني والروحاني، وبخاصة أنه يأتي في حضرة "كوب ساخن من حنان"، فالحنان الحسي أو الجسدي لا يصب في الأكواب الساخنة، إنما هي جرعات روحانية يحتاجها المحلق أو المحلقان أو المحلقون في فضاءات الروح، ولهذا جاءت بعض المشاعر لا كلها.

وفي حضرة كلمات "الرفق" و"الطقوس" و"السكون" و"الحنان"  و"السكون" و"التحليق"، تكون قد تبينت ملامح الروحية البارزة في النص.

وتعود الشاعرة بتواضع لخانة التعلم في لفظ "لتدلني"، كأنها تبحث عن دليل التحليق المتجاوز للزمان والمكان والطقوس المادية المعروفة.

حين أطلقت على معالي "أميرة الكلمات المقمرة"، كنت مستقرئا كثيرا من إنتاجها ومتأملا بصدق وعمق استراتيجيات تعاملها مع الألفاظ ونظمها في صعيد واحد، تغدو من خلاله الكلمات في علائق من التواشج والتعاضد والتآلف نسجا إبداعيا فريدا.

يكفيني أن أقف هنا... فما أجمل التحليق في فضاءات معالي الروحانية الخلابة.

 

* شاعر من الظاهرية - الخليل.

التعليقات