31/10/2010 - 11:02

القهر / رشاد أبو شاور

-

القهر / رشاد أبو شاور
ـ 1 ـ
صباح الفراق:
كما هو شأنه كلّ صباح انتعل حذاءه الرياضي، وبدلته الرياضية، وأخذ يركض هرولة علي الطريق الترابي بين الحقول والمزارع، منطلقاً من بوّابة مزرعته التي ثبّت علي بوّابتها (قارمة) كتب عليها مزرعة (درويش)، وتحتها: بيت الدكتور وليد الحاج درويش، أخصائي جراحة عّامة.

أخذ نفساً عميقاً ثمّ انطلق متأملاً الجبال، مرهفاً سمعه لموسيقي الطيور المنبعثة من طرف الغّابة، مبتهج النفس برقّة نسائم الصباح الباكر.

دار دورته المعتادة وقرب النهاية أبطأ ثمّ اخذ نفساً عميقاً، وانهمك في تأدية تمارين الصباح انحناءً ووقوفاً وفتح ذراعين علي امتدادهما ،ثمّ تدوير الجسم حول الساقين الثابتين، وأخذ أنفاساً عميقة، والمشي هويني، ودخول البوّابة، والمرور تحت دوالي العنب التي بدأ حصرمها ينتفخ بخضرة زاهية مبشّرةً بموسم خصب.

الحاج عبدو وقف عند درجات مدخل البناية، رفع يده إلي جبينه:
ـ صباح الخير يا دكتور...
والدكتور ردّ علي التحيّة الصباحية المعتادة:
ـ صباح النور يا عم الحاج...

لم يستدر الحاج عبدو وينصرف إلي عمله اليومي في العناية بالأرض والأشجار، والإشراف علي طعام الخيول، بل انه استوقف الدكتور بإشارة من يده:
ـ سيف رجع يا دكتور وهو يصّر أن يراك...
ـ ولكنني لا أريد أن أراه يا حاج.
ـ سيف يا دكتور هو رجل المحافظ...
وقبل أن يفتح الدكتور فمه للتعليق أضاف الحاج:
ـ والمحافظ قريب ال...يعني لا بدّ إن شئنا السلامة يا دكتور من تلبية طلبه.
ـ هكذا !
ـ نعم، هكذا، وإلاّ فالمشاكل. أنت تعلّمت في بلاد الأجانب وعدت طبيباً، وأنا تعلّمت هنا في بلادنا وأعرف كيف تمشي الأمور. أهم شيء أعرفه أن أسدي لك النصح كما أوصاني والدك الغالي الحاج درويش يرحمه الله، صاحبي، وصاحب الفضل علي، وعلي أسرتي...
ثمّ بعد لحظة صمت ثقيلة:
ـ أنت مثل أبنائي، وأنت تعرف هذا، ولن يهون علي أن يصيبك أذي من هذا الخسيس...
تحرّك الدكتور وليد متثاقلاً وهو يهمهم وقد تبدّدت سمات الراحة والانتعاش عن ملامحه، وحلّت بدلاً منها كآبة جعلته يمشي ذاهلاً ثقيل الخطي.
تأمل نجم:
أخذ الدكتور وليد في تأمل ( نجم) الذي رفع رأسه صوبه وهزّه كأنما يحييه، فتقدّم الدكتور وليد وأخذ يمرّر باطن راحته علي شعر عنقه مّما جعله يكّف عن مضغ طعامه الصباحي مغمضاً عينيه قليلاً، ثمّ متشوّفاً عبر البوّابة، رافعاً رأسه ،متشمماً بفتحتي منخره رائحة البراري ونور الصباح.

أمسك برسنه وأسلس قياده ومضي به متئداً. توقّف وأخذ يتأمله وهو يداعب شعره العسلي، والنجمة الثلجيّة التي تزيّن جبهته، ثمّ ممرر يده علي ذيله المنساب علي فخذيه، رابتاً علي كفله.

ـ يبدو أن المتاعب ستقتحم علينا بيتنا يا ( نجم)، فهناك من لا يريد لنا أن نبقي معاً. أنت تعرف أنني أردتك أن تكون جواد سباق، تبدأ من هنا وتنطلق إلي مضمارات العالم، تعيد مجد الجواد العربي، لا طمعاً في كسب المال ولكن لتكون حاضراً ولتحظي بمجد أنت جدير به.

ـ 2 ـ

سيف يأخذ نجم بعيداً:
جاء سيف ومعه شاحنة مشبّكة، وثلاثة شغيلة من العاملين في مزرعة (سيّد الرجال) ـ يناديه أهل المنطقة الفلاّحين بـ: سيدي، وكذا يتكلمون عن المزرعة بـ: مزرعة سيدي. التفّوا حول المهر الذي نفر منهم وأوجس خيفة مّما دفعه لأن يحرن شادّاً الرسن من أيديهم، متفلتاً بعنقه ورأسه، ضارباً الأرض بقوائمه بقوة.
حاول سيف أن يسلس قياده بالتحايّل ، فأدار الدكتور رأسه كأنما يشهد اختطاف ابنه ويقف عاجزاً مشلول القوّة.

صهل المهر من حنجرة مجروحة متفجعة لم يألفها الدكتور من قبل، فاقترب منه الدكتور وسحب رسنه من بين يدي سيف، وجعل يربت علي عنقه النافر، ويمشّط شعره بأصابعه، موحياً إليه أنه سيكون معه في رحلته الغامضة.
وإذ صار في صندوق السيّارة مطّ عنقه من فوق حافتها وصهل بوجع بينما سيف يقول بلهجة الفائز آمراً السائق:
ـ يلآّ عيني... باي دكتورنا.. لا تقلق بنرجعه لك.. استعارة لأسبوع، أنت تعرف سيدي عندما يعد...
لبث الدكتور واقفاً يتأمل السيّارة وهي تبتعد بمهره المختطف !
يستعيره لأسبوع فقط ! لا أحسب أنهم سيعيدونه، ما كنت لأحسب أن أعيش هذه اللحظات المفجعة، لحظات العجز والسكوت علي البلطجة...

ـ 3 ـ

اللقاء مع ( سيدي):
سيّارة أنيقة حديثة ابنة سنتها، زرقاء اللون، وقفت عند بوابة المزرعة، ومن جوفها خرج سيف نفسه وقد ارتدي بدلة أنيقة كأنه السيّد نفسه وليس أحد رجاله.
ـ تفضل دكتور، ها نحن قد جئنا علي الموعد، سيدي المعلّم ينتظرك...

المعلّم ! معلمهم هم، الذي استولي علي أراضي الدولة، وتوسع في الأراضي المجاورة لها علي حساب ملاّكها، والذي لم يدرس سنة جامعية واحدة !. مجرّد ضابط مسرّح دخل العسكرية علي الشهادة الثانوية، سرّح وهو برتبة لواء أركان حرب. حرب أين؟!

يشتهي كل ما ليس له، يستحلي كل ما يجهد الآخرون أنفسهم لجعله جميلاً. حطّ عينه علي ( نجم) منذ رآه يحنجل داخل المزرعة، فهمس لرجله:
ـ أريده
سيف قال للدكتور:
ـ المعلّم معجب بمهارتك في تربية الخيول وترويضها، حتي إنه استغرب أنك طبيب بشري...
ـ يعني
ـ يعني لا مؤاخذة يقول المعلّم أنك أبرع في معالجة الخيول والتعامل معها من البشر!...

(كيف أرّد علي هذا الحقير، فلأبق ساكتاً). تذكّر نصيحة الحاج (فلا قدرة لي، ولا ظهر يحميني لو قرّرت مواجهة هؤلاء الناس).
داهمه شعور بالندم لاستجابته لرغبة والده في تعلّم تربية الخيول، والعناية بهذه الثروة من الخيول التي تركها الوالد، الخيول العربية (الأصايل) كما كان يصفها بوله.

ـ 4 ـ

الترحيب الحّار:
عندما توقفّت السيّارة خرج (السيّد) من باب القصر وهو يلتف بعباءة بيضاء حريرية لزوم الأبهّة وإبداء آثار النعمة والرفاهية.
مدّ يده مرحّباً:
ـ أهلاً يا دكتور، من زمان نفسنا نشوفك، يلاّ ( نجم) عرّفنا ببعضنا، وإن كنت سأغيّر اسمه إلي مرح، فهو حقاً مرح ومفرح، غزال رهوان كما يقولون. كيف حصّلت علي هذه الخبرات في تربية الخيول مع انك دكتور وعشت في بلاد الأجانب ؟
ـ الوالد رحمة الله علي روحه هو الذي أورثنا كل شيء، فنحن من هنا، أبناء ريف كما تري، عشنا هنا قبل مجيء السيّارات، ومدّ الإسفلت والكهرباء...

جيء بالقهوة والعصير، فارتشف الدكتور بلا نفس، وأجال نظره حوله في مقتنيات المعلّم فلاحظ أن الصالون الضخم خال من اللوحات، وأن صوراً شخصية بحجم كبير له مع (....) تزين الجدران، تمتد من يمين وشمال صورة عملاقة لـ(....)...
كأننا في دائرة حكومية ولسنا في بيت يسكنه ناس. حتي ولا صورة للخيول، رغم ادعائه الولع بالخيول العربية، تلك التي لا يعرف عنها شيئاً.

ـ شوف يا دكتور، أنا لا (أتسلبط) علي ممتلكات الناس، وأنا أعطي لكل ذي حق حقّه، وأعرف أنك لن (تكسفني)، ولذا فهنا في هذه الحقيبة وضعت لك مبلغاً بالدولار وليس بعملتنا، لأنني أعرف أنك تسافر كل عام للخارج وتحتاج لمبلغ بالعملة الصعبة، والمبلغ مهما بدا كبيراً فهو صغير مقابل نجم الذي صار مرح منذ اليوم. قل: مبروك...

ومدّ يده دون أن يدع للدكتور وليد مجالا للتفكير، الذي اضطّر لمدّ يده بعد لحظة تردد حسب فيها ما سيقع لو رفض الصفقة.
نتر نفسه ووقف، وهو يقول بحزم:
ـ أنا لن آخذ ثمناً لنجم...
ترك مغلّف النقود علي الطاولة، ونطق بكلمة واحدة :
ـ استأذن...
وكي أبدي أنني لست علاناً تماماً قلت:
ـ لا أريد أن آخذ المزيد من وقتكم يا معلّم...
ولكنه المعلّم فزّ وقد صار مربّد الملامح ،وقد التقطت يده اليمني المغلّف، وقبض علي يد الدكتور وليد، وبلهجة عسكريّة آمره.

ـ لا، هكذا يكون الأمر كأنني استحوذت علي المهر، لا أقبل، خذه إن كنت تريده، أو خذ المال..لك الخيار.
أمسك بيدّيه الاثنتين ووضع بينهما المغلّف المنتفخ بالدولارات، ثمّ اقتاده إلي الباب وهو ينادي سيفاً، ويأمره:
ـ رافق الدكتور وودّعه. أمعك سيّارة يا دكتور؟
هزّ الدكتور رأسه، في حين أعلن سيف بحبور:
ـ دكتور وما معه سيّارة! غير معقول سيدنا، الدكتور حالته مليحة، وهو مولع بتربية الخيول العربية الأصيلة.

ـ 5 ـ

في الليل لمّا خلي:
هبط المساء، والتمعت نجوم بعيدة فوق الغابة والجبال، والسهول الممتدة.
أدار الدكتور وليد محرّك سيّارته ثمّ مضي متمهلاً علي الطريق الزراعي، وهو يشعر بان نجم قد سرق منه، وأنه شخصيّاً مذّل مهان جبان، فمن يأخذ مهرا يحبه يمكن أن يأخذ منه أرضه، وامرأته، وسيّارته، وعيادته، وحياته و...
يعطيني نقوداً ويأخذ مهري الذي راهنت علي مستقبله، يغتصبني ويدفع لي مالاً!...

فجأة رأي بنادق تخرج من جانبي الطريق، وعدد من الملثمين، يسددون الفوهات باتجاهه مباشرة، وإذ هدّأ من سرعته سمع صوتاً ينهره آمراً بالتوقّف:
ـ اثبت وما تتحرّك...
ثمّ يتقدم ملثمان كل واحد من جهة، وينقران علي الزجاج بفوهتي بندقيتيهما، مشيرين له أن يبقي ساكناً تماماً، بينما يحرسهما اثنان آخران وراءهما.

وكأنما كانا يعرفان بالضبط أين وضع كيس المال، انحنيا داخل السيّارة، واحد يضع فوهة بندقيته في رأسه والآخر يختطف الكيس، ثمّ يأتيه صوت صارم:
- كمّل طريقك، وانفد بحياتك، واحمد ربّك علي سلامتك، واوعك تلتفت خلفك...

سمع هدير سيّارة تخرج من بين الأشجار، ثمّ تندفع مبتعدةً علي الطريق. ترك للسيّارة وقتاً يكفي لتبتعد دون أن تختفي عن عينيه. أطفأ أنوار سيّارته، وقفل عائداً باتجاه مزرعة وقصر السيّد. كانت سيّارة تنهب الطريق أمامه وتمضي بعيداً علي نفس الطريق وفي نفس الاتجاه.

رأي السيّارة تدخل بوّابة مزرعة ( السيّد) فأدرك كل ما حدث.
خرج من جوف السيّارة، تقدم صوب سور المزرعة، وأطلق صفيراً نغّمه كما عوّد ( نجم) عليه، فارتفع صهيل (نجم )، وتجاوب في هدأة الليل صفير حّاد وصهيل مقهور...

التعليقات