08/02/2019 - 10:21

معين بسيسو... المصلوب ما زال يحلم بعد 35 عامًا على الغياب

لم يترك بسيسو في حياته حدثًا إلا وكان مُرتبطًا بفلسطين والمقاومة، حتى تعرفه على رفيقة دربه صهباء حين كان داخل السجون المصرية أثناء اعتقاله زمن جمال عبد الناصر، فكانت تذهب لزيارة السجناء الشيوعيين والتقدميين

معين بسيسو... المصلوب ما زال يحلم بعد 35 عامًا على الغياب

"ألف شتاء قد مر وما زال

مصلوبك يا وطني يحلم

لو تلمس قدماه الأرض النائية كنجم

لو يمشي لو يسمع وقع خطاه"

بهذه الأبيات أحبّت السيدة صهباء البربري زوجة الشاعر الفلسطيني معين بسيسو (1926-1984) بدء حديثها مع "عرب 48" عن أبي توفيق في الذكرى الخامسة والثلاثين لرحيله، لما لها من خصوصية لديها؛ بدأت السيدة بغلي قهوتها على نار هادئة واستطردت بالحديث عن زوجها في منزلهم القريب من شاطئ بحر غزة، البيت الواسع الذي تملأ الكتب رفوفه المعلقة على الجدران، حاملةً بين طياتها إرث الشاعر الكبير وتاريخه الذي قامت بجمعه زوجته من دول العالم التي نُفي إليها معين وتنقل حاملًا معه أدبه المقاوم وغضبه لفلسطين، لتلك الأبيات رمزية خاصة لدى الشاعر كذلك فهي تعبر عن شوقه الدائم إلى مدينته التي خرج منها وظل يكتب لها قصيدته "كمن يضع اصبعه على الزناد لحراسة البلاد من الغزاة".

بداية مع معين بسيسو

ولد معين توفيق بسيسو لأسرة مثقفة في مدينة غزة عام 1926، درس الابتدائية في مدرسة الشجاعية والثانوية في كلية غزة، ونشر أول قصائده في مجلة "الحرية" اليافاوية، ثم  تخرج من الجامعة الأميركية بالقاهرة من قسم الصحافة عام 1952، ليسافر بعدها للعمل في العراق التي عاد منها إلى غزة بعد شعوره المستمر بأنه مُراقب. عمل مدرسًا في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في غزة ومن ثم مديرًا لمدرسة صلاح الدين الحكومية حيث كانت غزة وقتها تحت الحكم الإداري المصري.

عُرف بسيسو بشيوعيته التي سُجن مرات عدة بسببها، وكان من أبرز الوجوه التي انتفضت ضد مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء التي قادها الشيوعيّون والإخوان المسلمون عام 1954، وشارك في قيادة المظاهرات التي اندلعت من رفح جنوبًا حتى بيت لاهيا شمالًا، واعتقل على إثرها من قبل الحاكم العسكري المصري لغزة، ليغادر غزة إلى بيروت للوقوف على طباعة ديوانه الشعري "الأشجار تموت واقفة"، عن دار الآداب عام 1964،  ومن ثم لينتقل إلى دمشق ليعمل رئيسًا لتحرير جريدة الثورة.

حُب في السجن

صهباء بربري بسيسو، زوجة الشاعر الراحل

"فستنمين تحبين وتغدين عروس

وستنمو زهرة الحبّ وتكبر

عمرها تسعة أشهر

وستهدين إلى العالم طفلة

أيّ طفلة"

لم يترك بسيسو في حياته حدثًا إلا وكان مُرتبطًا بفلسطين والمقاومة، حتى تعرفه على رفيقة دربه صهباء حين كان داخل السجون المصرية أثناء اعتقاله زمن جمال عبد الناصر، فكانت تذهب لزيارة السجناء الشيوعيين والتقدميين وتقدم لهم المساعدة والتقت فيه لأول مرة في سجن القناطر، وأبدى إعجابه بها بعد إفصاحها عن رغبتها بالذهاب إلى غزة للعمل كمُدرسة هناك ونشر العلم في مدينته الأم، ليرتبطا معًا، إذ تزوجا في القاهرة عام 1958، وأنجبت منه ثلاثة أبناء هم توفيق، وداليا، ومليكة، وكانت رفيقة دربه وحامية إرثه والوفية له حيًا وميتًا.

في عين المدينة والرفاق

وارتبط اسم بسيسو بغزة أينما رحل، ليس لكونها مسقط رأسه فقط، بل لأنها قطعة من أرض وروح، شَعر بمظلوميتها من الجميع فأخذ على عاتقه نصرها بالأدب والمقاومة، حملها في قلبه وروحه ونقل اسمها إلى المحافل وكتب لها أجمل القصائد وغنى لها الأغنيات، لكن من حكم المدينة لم يوفهِ حقه ويخلد ذكراه كما يستحق، أو كما أوفاها حقها هو، وفي ذلك تقول زوجته لعرب ٤٨: "لم يحصل معين على ما يستحق من المدينة التي أعطاها عمره كله، فلا يوجد ما يُخلد ذكراه سوى مدرسة ابتدائية حملت اسمه، لكن لا يوجد مركز ثقافي أو معهد أو مكتبة تحمل اسم وذكرى معين وتحفظ أرشيفه" مذكرة بالوقت نفسه بأن العديد من مدن العالم أحيت ذكرى معين بسيسو بأساليب مختلفة، منها القاهرة وتونس ورام الله.

"غزّتي أنا لم يصدأ دمي في الظّلمات

فدمي النيران في قشّ الغزاة

وشرارات دمي في الريح طارت كلمات

كعصافيرك يا قوس قزح

أنت يا إكليل شعبي وهو يدمي في القيود

إنّنا سوف نعود

وعلى درب كألوانك يا قوس قزح

وستذرو الريح أشلاء الشبح"

أما رفاق أبي توفيق، كما كان يحبّ أن ينادوه، وصفوه كما يجب، فكان العظيم في عيون أصحابه من الشعراء والأدباء الفلسطينيين والعرب، إذ وصفه الشاعر محمود درويش بـ "المؤرخ الوجداني للشقاء الفلسطيني" ورثاه قائلًا: "اسمحوا لي أن أتحسس بوجع علني قطعة من قلبي سقطت أمس، زميلي وأحد رفاق طريقي وقصيدتي، معين بسيسو، خذله القلب فسكت في إحدى محطات المنافي الكثيرة"، وإليه قال الشاعر سميح القاسم: "أنت تدري كم نحبك، يا ابن المدارات السحيقة يا عريس اللوز والليمون.. غنيت للأحياء والأموات، غنّاك الزمن".

تذكر صهباء في حديثها أن معين وصف رفيقيه درويش والقاسم ذات مرة بـ "الحيتان"، وكان ذلك عندما ألقيا الشعر في أمسية مشتركة بمدينة منيا بوليس بالولايات المتحدة عام 1978 في قاعة صغيرة وحضر إليها جمهور كبير حاصرهم بطلب التوقيعات والتقاط الصور التذكارية، فتساءل في نهاية الحفل متجهمًا "كيف تجمعون ثلاثة حيتان في بانيو واحد؟" وهناك ألقى قصيدته الشهيرة "سفر سفر".

تلف السيدة صهباء حول مكتبها في البيت وتستذكر وعد بسيسو لدرويش ذات مرة، بدعوته لزيارة غزة بعد أن يعود إليها وأنه سيطهو له السمك بيديه من شاطئ بحر غزة، لكن المنفى والموت كانا حاجزًا أمام اجتماع "الحيتان" على شاطئ بحر المدينة المُحتلة.

بسيسو مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات

كذلك عمل بسيسو كأول مستشار ثقافي للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي رثاه قائلًا إنّ "معين ليس شاعرًا فقط، معين كان ثائرًا.. بل هو الثورة في حد ذاتها، كان البر الذي لا يعرف الهزيمة أو الهدوء أو التردد.. فمعين هو معين الحقيقة" ولعرفات كتب معين قصيدته الأخيرة: "الآن تعرف أن شوك الكف شيء غير عشب الأرض وتعرف أن غزة غير أشباح المُدن، والآن تعرف أنّ شباك صغير من تراب الأرض مفتوح لوجهك ستطل منه على الوطن". وتذكر صهباء في غرابة ذلك أن عرفات اعتقل معين بسيسو بعد أن كتب معين مقالًا في مجلة "فلسطين الثورة" ضد ثلاثة أشخاص وصفهم بالمتأمركين، وهم منهم نبيل شعث، رفيق محجوب، ووائل شوفاني، وقال" ليس كل من نطق بالضاد هو بالضرورة ضد كيبوتس جلعاد"، لكنه ظل يُحب عرفات رغم ذلك.

الإنتاج الأدبي

لم تكن حياة معين بسيسو حياةً عادية على الصعيد المهني، فتواجد في ميادين مختلفة، فعمل مدرسًا للّغة الإنجليزية ثم ناظرًا في مدارس قطاع غزة، وعمل محررًا ورئيس تحرير في مجلات وصحف عربية وهو خريج قسم الصحافة، كذلك كتب العديد من الدواوين الشعرية وتميز في كتابة المسرح  كتب معين الشعر والمسرح وعمل صحفيًا متمرسًا وهو الذي درس الصحافة، وهذا التنوع جعله "متمردًا على ما حوله" بوصف زوجته، ووصف ذلك في مقابلة له مع جريدة "فلسطين الثورة" في شباط 1983 وقال: "لا أعتقد أنه يمكن الفصل بين الهموم الوطنية والسياسية لأي شاعر حقيقي، وبين همومه ومواجعه الشعرية، فالشاعر يستمد مقومات وجوده السياسية، والشعرية، من مدى ارتباطه الواعي، والتزامه المبدئي بالقضية الكبرى التي ناضل من أجلها".

قصيدة كتبها الشاعر على منديل ورقي وهرّبها من بيروت 

جُمعت أعمال بسيسو الأدبية الكاملة بجهد من عائلته وابنه توفيق الذي درس النشر والطباعة في ألمانيا، وصدرت عن دار الفارابي في بيروت، وظلّت أشعاره محفوظة في الكتب وفي حناجر الجماهير الغاضبة التي رددتها في شوارع غزة أمام الجُند: "هناك هناك بعيدًا بعيدًا سيحملني رفيق الجنود (...) نعم لن نموت ولو أكل القيد من عظمنا ولو أشعلوا النار في لحمنا لن نموت ولكن سنقتلع الموتى من أرضنا" وبسببها تعرضوا للاعتقال، وكُتبت جملته الخالدة على جدران المدينة والمخيمات "يموت الشجر واقفًا".

ديوان بسيسو الأول

 

التعليقات