04/02/2022 - 16:11

حرٌّ وصاحب تربية حرّة: لذكرى أستاذي حنّا أبو حنّا

كميسّر للحوارات حول الكتب التي قرأناها وناقشناها، اتَّبع الأستاذ حنّا مبادئ التّربية الحرّة وكأنّي به يقول "منتدانا حرٌّ"، كما كان يقول خليل السّكاكيني "مدرستنا حرَّةٌ" عند حديثه عن المدرسة "الدُّستوريّة" في القدس

حرٌّ وصاحب تربية حرّة: لذكرى أستاذي حنّا أبو حنّا

الأديب المناضل والمربي الراحل أبو حنا (تصوير: أحمد دراوشة)

صِرتُ تلميذه بعد سنّ الخمسين... من عمري، وبعد سنّ الثّمانين... من عمره. كان ذلك في "منتدى الكتاب الحيفاويّ". انضممتُ إلى المنتدى بعد نحو ثلاث سنوات على تأسيسه وبعد أن سمعتُ الكثير الكثير من أصدقائي الأعضاء فيه عن المنتدى وعن ميسِّر وقائد حواراته الأستاذ حنّا. المجموعة متنوّعة من نواحٍ عدّة، وكان المقام المشترك البسيط بيننا أنّنا جميعًا شبابٌ في مقتبل العمر... بالرّوح طبعًا، يجمعنا حبُّ الكتاب. على الرّغم من أنّ عضوات وأعضاء المنتدى كانوا في الصّف الثّالث يوم التحاقي به، إلّا أنّني لم أشعر، كطالب في الصّفّ الأوّل، بأيّ تمييز ضدّي، لا من الميسِّر، الأستاذ حنّا، ولا من الأعضاء. ما أجملها من أجواء، فالكلّ سواسية ولكلّ احترامه واحترامٌ لآرائه. لا توجد درجات في المنتدى؛ فلا يوجد "الشاطِر" أو "التَيُّوس"، "المتقدِّم" أو "المبتدئ"، "النّاقد الأدبيّ" أو "عامّة القرّاء". ولم تكن هناك محاباة للأقارب، ولا حتّى للسيّدة سامية "إم الأمين" زوجة أستاذنا. كانت مشارِكَة كباقي المشاركات والمشاركين. كانت تتحدّث حين يصلها "الدّور"، وكانت ابتسامتها الهادئة تعلو وجهها، وكان يطيب لي الاستماع إلى عمقِ تحليلاتها وإلى تفكيرها الحرّ النّاقد وإلى لباقتها في طرح أفكارها. الشيء الوحيد الذّي شهدته، وقد يعدّه البعض محاباةً للأقارِب هو جلوسها قريبة منه، أو جلوسه هو قريبًا منها حول الطّاولة... أي "كُرْسي جَنْب كُرْسي" هي والأستاذ حنّا! ومن كان المبادِر منهما إلى ذلك فالله أعلم! إن دلّت هذه الحقيقة على شيء فإنّها تدلّ على طبيعة العلاقة الجميلة الوثيقة بين هذين الزّوجين.

كميسّر للحوارات حول الكتب التي قرأناها وناقشناها، اتَّبع الأستاذ حنّا مبادئ التّربية الحرّة وكأنّي به يقول "منتدانا حرٌّ"، كما كان يقول خليل السّكاكيني "مدرستنا حرَّةٌ" عند حديثه عن المدرسة "الدُّستوريّة" في القدس، في بدايات القرن العشرين. اتَّبع الأستاذ حنّا إستراتيجيّة "النقاش المفتوح"، فلم يَقُم باستخدام الأسئلة الموجّهة للنّقاش، كما لم يُعطِ أيّ تعليمات بخصوص شكله. منح الأستاذ كلَّ مشارك كامل الحريّة في اختيار مضامين نقاشه، فهذا تطرّق إلى البعد التّاريخيّ-السّياسيّ في النصّ، وتلك تطرّقتْ إلى جماليّة اللغة فيه، وهذه ربطت النّص بنصوص أخرى للكاتب نفسه أو لكتّاب آخرين، وذاك تحدّث عن المتغيّرات الاجتماعيّة-الثّقافيّة فيه... كما أنّ أستاذنا منحنا كامل الحريّة في اختيار طريقة عرض أفكارنا، فهذه كتبتها على ورقة وقرأتها أمام الحضور، وذاك عرض أفكاره شفهيًّا مستندًا إلى بعض الملاحظات التي كتبها على غلاف الكتاب أو في متنه.

كنّا نناقش في كلّ لقاء كتابًا، وكان النّقاش يدور من خلال "مرورٍ" عادِلٍ. يتطوّع أحدنا ببدء النّقاش، ثمّ ينتقل "الدّور" يسارًا أو يمينًا، وتعطى الفرصة لكلّ شخص في المشاركة. لكلّ منّا أيضًا حرّيّة عدم المشاركة في النّقاش، وقد يكون السّبب في ذلك عدم قراءة الكتاب. والحقيقة تقال إنّ الغالبيّة العظمى من المشاركين كانت تقرأ الكتاب وأقليّة قليلة فقط كانت تتخلّف عن ذلك في بعض الأحيان. لستُ أدري لماذا، ولكنّي أميلُ دائما نحو الأقليّاتِ في حياتي، فكنتُ أحد الأعضاء "الفخورين" في انتمائي إلى هذه الأقليّة القليلة. وربّكم الحميد فلا عقوبات في هذا المنتدى، لا من طرف الأستاذ حنّا ولا من طرف الأعضاء.

كان مرور المُشارَكاتِ "يَقْفِزُ" عن الأستاذ حنّا، فكان يعطينا جميعًا حقّ الكلام قبله، فلا مقدّمات من طرفه ولا تدخّلات تقريبًا خلال النّقاش. كان يجلس مشاهدًا صامتًا مصغيًا مراقبًا إيّانا "بلغة جسده" وكان بارعا فيها كما بـ"لغة كلامه" و"لغة قلمه". كنتُ أرقُبُه، فكان كبيرًا مجلجلًا بصمته وبتواضعه. نَفَسُه طويل، واسع الأناة صبور... وختام اللقاء مِسك عندما يحين دور الأستاذ حنّا. من أجمل ما كان في هذا المسك تعقيبه على مداخلاتنا وإطراؤه على التّنوّع في المقاربات وفي الآراء والاختلاف فيها. كانَ يَطْرَبُ أستاذنا لهذا التّنوّع ولهذه الاختلافات. بعد هذه الإطراءات يبدأ هدير شلّالات أفكاره النيّرة الناقدة على مستوى النّصّ ومضمونه ونوعه الأدبيّ وسياقه الاجتماعيّ بالتدفّق... يأتينا بـ"فستق أدبيّ" متنوّع الأصناف والأشكال. يأتينا بأفكارٍ لم ولن تخطر على بالي. كان "يرقُصُ" ببراعة بالغة بين الحديث بالفصحى والحديث بالعامّيّة أو الدمج بينهما. كما "رقصَ" ببراعة بين الحديث الجادّ والفكاهة، وكان أستاذنا صاحب نكتة. كانت لغته واضحة عميقة ببساطتها وبسهولتها، وكان واضحًا في أفكاره ولكنّه لم يكن متشدّدًا فيها. أطرى التّعدّديّة في الآراء وكان قدوة فيها... كان يستخدم مصطلحات "يجوز..."، "على كلّ حال هذا رأيي...". كنتُ طالما أتمتم بيني وبين نفسي خلال اللقاءات وبينها بإعجاب وبغِبطة، ما هذه الثّقافة الواسعة يا أستاذ حنّا! ما هذا التّواضع! كيفَ جبَلَ هذا الرّجلُ أفكاره الحرّة في شتّى المجالات؟! كيف ومن أين نهل كلّ هذه المعرفة وكأنّه عدّة موسوعات في إنسان؟! كيف؟... وكيف؟... أخرج من اللقاء وشهيّتي الثّقافيّة مفتوحة على المزيد...

هذا نزرٌ يسيرٌ ممّا يُقال فيك أستاذي حنّا/يحيى أبو حنّا زيتونة فلسطين، العاشق لشعبك ولأمّتك ولوطنك ولأسرتك.

أَحببتَ فأُحْبِبتَ... لروحك السّلام أستاذي.

أمّا "منتدى الكتاب الحيفاويّ" فقد أصبح اسمه من يوم 3.2.2022 "منتدى حنّا أبو حنّا للكتاب"، عرفانًا وتقديرًا لأستاذنا الغالي.

التعليقات